شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ربيع الحراك الطلابي الداعم لغزة في السويد... ماذا تبقّى من أثره؟

ربيع الحراك الطلابي الداعم لغزة في السويد... ماذا تبقّى من أثره؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

في شهر أيار/ مايو من كل عام، اعتاد السويديون تأمل "زهرة الريح"، النسخة الأوروبية من شقائق النعمان، التي تتميز بلونها الأبيض وأوراقها اللؤلؤية التي تتوسطها بتلات صفراء، فتظهر بخفة في تناغم مع الأرض التي اكتست بالثلوج البيضاء لأشهر طويلة.

ولكن في ربيع العام الماضي، وتحديداً في 15 أيار/ مايو 2024، كان السويديون على موعد مع "ربيع" مختلف، جسّده الحراك الطلابي الذي اجتاح ساحات الجامعات، مطالباً بقطع العلاقات الأكاديمية بالكامل مع إسرائيل. كما دعا الحراك إلى إنهاء جميع أشكال التعاون المؤسسي والمالي مع الجامعات والمؤسسات والشركات الإسرائيلية المتواطئة في الإبادة الجماعية لسكان غزة، وإلى دعم النظام التعليمي الفلسطيني مالياً وسياسياً وأكاديمياً، بما يشمل الطلبة والباحثين والمعلمين الفلسطينيين، وخصوصاً في قطاع غزة.

جانب من اعتصام الطلبة المساند لغزّة في جامعة لوند - السويد.

عالم صغير من أجل غزّة

هذا الحراك السويدي كان امتداداً لموجة بدأت في الولايات المتحدة وانتشرت في أوروبا، حيث تُعد الحركات الطلابية مؤشراً دقيقًا للرأي العام. فقد أسهمت سابقاً في إنهاء حروب كبرى، مثل حرب فيتنام، وإسقاط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. فهل يُكتب لهذا الحراك الطلابي الممتد عبر ضفتَي الأطلسي أن يستمر دعماً لفلسطين وغزة؟

تُعد الحركات الطلابية مؤشراً دقيقًا للرأي العام. فقد أسهمت سابقاً في إنهاء حروب كبرى، مثل حرب فيتنام، وإسقاط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

سؤال يتردد بقوة بعد أشهر من تفكيك آخر خيمة تضامن نصبها طلاب جامعة "لوند"، ويُطرح مجدداً مع بدء فصل دراسي جديد. وللإجابة عليه، علينا أن نستعيد شكل الحراك ونقيّم ما زرعه وما حصده.

لم يكن اختيار ذكرى يوم النكبة تاريخاً لانطلاق الحراك الطلابي السويدي الداعم لغزة مجرد مصادفة، كما لم يكن اختيار الموقع المحاط بالأشجار العالية قرب كاتدرائية لوند التاريخية في السويد عشوائياً. فقد وقع الاختيار على هذا المكان مباشرة أمام مبنى إدارة جامعة لوند، مما جعله موقعاً مثالياً للاحتجاج والتعبير عن رفض الطلاب لتعاون جامعتهم مع جامعات ومؤسسات إسرائيلية متواطئة في الاحتلال والإبادة على قطاع غزة، الذي يعاني من حصار خانق منذ ما يقرب من عقدين، في مساحة لا تتجاوز 360 كيلومتراً متربعاً.

جانب من اعتصام الطلبة المساند لغزّة في جامعة لوند - السويد.

وفي الساعة الخامسة صباحاً من ذكرى يوم النكبة، بدأ طلاب جامعة لوند بنصب خيامهم في قلب المدينة الجامعية. بحركة سريعة ومنضبطة، حملوا حقائبهم التي تحتوي على ملابس لعدة أيام، القليل من الطعام، محولات طاقة، بطاريات احتياطية، أجهزة الحاسوب، والكتب الجامعية. كان عليهم توفير الحد الأدنى من المستلزمات بما يمكنهم من مواصلة واجباتهم الدراسية داخل خيامهم المصنوعة من قماش النايلون.

رأى طلاب شاركوا في الاعتصام أن تجربة التخييم في جامعة لوند، وما تلاها من قمع الشرطة للحراك، شكلت نقطة تحول في الوعي تجاه القضية الفلسطينية، باعتبارها رمزًا لمقاومة الهيمنة والقمع على مستوى العالم

لا تعد جامعة لوند إحدى أقدم الجامعات في السويد وأوروبا الشمالية فحسب، إذ تأسست عام 1666، بل تتعدى قيمتها بوصفها أفضل الجامعات على مستوى العالم، احتفت عبر القرون بتخريج أهم الأكاديميين وأشهرهم.

ورغم كل هذه العراقة، رأى الطلاب أن هذا التاريخ لا يمكن أن يستمر بوهجه دون التزام الجامعة بأساسيات العدالة، واحترام القوانين الدولية، وأبسط مبادئ الحقوق الإنسانية.

وفي ذلك الصباح، أضاف هذا المخيم الطلابي المتمرد على الانحياز السافر للسياسة الأوروبية و المتماهي مع الإبادة، سطراً جديداً في صفحات تاريخ الجامعة، مؤكداً أن  طلاب الألفية مؤهلون ليشاركوا في تاريخ جامعتهم، عبر صنع فارق ينحاز إلى العدالة.

جانب من اعتصام الطلبة المساند لغزّة في جامعة لوند - السويد.

الفكرة تنزح إلى الخيمة

مع تزايد عدد المشاركين في الاحتجاج، أعاد الطلاب تنظيم المكان مراراً، فنُقلت بعض الخيام لإفساح مساحة مشتركة في وسط التجمع، لتكون نقطة التقاء لجميع المعتصمين والمعتصمات. خيام حمراء، وأخرى زرقاء، وأخرى ملونة بأحجام مختلفة، ازدادت اكتظاظاً مع مرور الوقت، حتى أصبح المخيم أشبه بالأحياء العشوائية التي تكتظ وتتكدس في قلب المدن الكبرى.

تحوّلت الخيام إلى مختبر حقيقي للتفاعل والمشاركة، حيث اندمج الطلاب والطالبات في نقاشات عميقة، وطرحوا أسئلة حائرة حاولوا الاشتباك مع إجاباتها المحتملة، وفي داخل هذه الخيام، التي كانت مأواهم على مدى أيام مع مخزون بسيط من الطعام والمشروبات الساخنة، عاشوا مشاعر مختلطة من الغضب والاحتقان، عاجزين عن تقديم المزيد من الدعم المباشر لزملائهم في غزة على الضفة الأخرى من المتوسط.

جانب من اعتصام الطلبة المساند لغزّة في جامعة لوند - السويد.

كل زاوية في المخيم روت قصة مختلفة، يسكنها طلاب من تخصصات وبرامج تعليمية متنوعة، ومن خلفيات ثقافية ودينية متعددة. هذا التنوع انعكس على نمط العيش المشترك: من أطعمة تقاسموها جاءت توابلها من دول لم تطأها أقدامهم، وتأدية رقصات ودبكات تمثل تراثاً قديماً لدول منكوبة، وأخيراً اللافتات المعلقة على جوانب الخيام. تلك اللافتات حملت رسائل تضامن ودعم لفلسطين، مكتوبة بلغات مختلفة، لتؤكد أن صوتهم كان عالمياً في تنوعه ووحدته.

ومع نهاية اليوم، يصدر المنظمون للاعتصام بيانات ترصد مدى تجاوب الجامعة مع مطالبهم. وفي إحدى هذه البيانات أشار الحراك إلى المشكلة: "ندرك تماماً أن المؤسّسات الأكاديميّة ليست بمعزلٍ عن بنية العنف والقمع، ونرى أنّه من الضّروري أن تتحمّل جامعة لوند مسؤوليّتها الكاملة وتنهي كافّة أشكال التّواطؤ مع المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ الصّهيونيّ الذي يرتكب الإبادة الجماعيّة ونظام الفصل العنصريّ والاحتلال". وأضافوا: "مع الذّكرى السّادسة والسّبعين للنّكبة، ندعو جامعة لوند إلى الالتزام بالمبادئ الإنسانيّة الأساسيّة وإنهاء تواطؤها في النّكبة المستمرّة".

جانب من اعتصام الطلبة المساند لغزّة في جامعة لوند - السويد.

حراك ملهم

انتشرت أخبار مخيم الاحتجاج في لوند بسرعة كبيرة، وكان لوسائل التواصل الاجتماعي دور محوري في ذلك. فلم تمضِ سوى ساعات قليلة على نصب الخيام الأولى حتى وصلت وسائل إعلام سويدية إلى موقع الحدث، وبدأت تغطيته عن كثب. جذب المخيم اهتماماً واسعاً، ليس فقط من وسائل الإعلام، بل أيضاً من أهالي الطلاب وأصدقائهم، الذين توافدوا لزيارة المخيم، بالإضافة إلى سكان البلدة والمدن المجاورة. بعض الزائرين كانوا ممثلين عن أحزاب سياسية سويدية ونواباً في البرلمان، قدموا للتعبير عن تضامنهم ودعمهم لحق الطلاب في الاحتجاج.

توسع نشاط المعتصمين بفضل الدعم الذي تلقوه؛ على سبيل المثال، تبرع أحد الأحياء بكرسي حلاقة، يعود ريعه لدعم المؤسسات العاملة في غزة، حيث يحدد المتبرعون مبلغ المساهمة وفق استطاعتهم. كما نظم الطلاب أنشطة تضامنية أخرى، منها مكالمة عبر تطبيق "زووم" مع طلاب من المخيم الطلابي في جامعة كولومبيا بنيويورك، الذي كان قد أطلق أول اعتصام تضامني طلابي مع فلسطين في 17 نيسان/ أبريل 2024.

جانب من اعتصام الطلبة المساند لغزّة في جامعة لوند - السويد.

لم تقتصر الاحتجاجات على الأنشطة داخل المخيم، بل شملت تنظيم عشرات المظاهرات في شوارع مدينة لوند، وهي مدينة لم تعهد مثل هذه الاحتجاجات تاريخياً. سار الطلاب في شوارعها، وألصقوا مطالبهم ورسوماتهم على الجدران، وزعوا المنشورات، وغنوا الأناشيد، وهتفوا للحرية مطالبين بوقف الإبادة الجماعية والحرب. كما نظموا مظاهرات خاطفة داخل حرم الجامعة، ألقوا خلالها خطابات تدعو الطلاب للمشاركة في الاعتصام، وتطالب الجامعة بالاستجابة لمطالبهم بقطع العلاقات مع الجهات المرتبطة بالإبادة.

يبدو مستقبل الحراك الطلابي الأوروبي الداعم لفلسطين واعداً ومستداماً، خاصة مع بدء تشكيل بنية تحتية واعية تعزز استمراريته وتستثمر في تطوره

كما أخذ المخيم طابعاً تعبيرياً يعكس الشتات الفلسطيني، حيث كتب الطلاب الفلسطينيون (اللاجئون وأبناء اللاجئين وأحفادهم) أسماءَ مدنهم ومخيماتهم المهجرة على الخيام، في محاولة لاستعادة ذاكرة الوطن والتأكيد على حق العودة. بدأت الحركة بلافتة صغيرة كُتب عليها اسم "مخيم عين الحلوة"، لتتبعها أسماء مثل "اليرموك"، "بيت حانون"، "النيرب"، "جباليا"، "حطين"، و"طبريا".

جانب من اعتصام الطلبة المساند لغزّة في جامعة لوند - السويد.

نهاية درامية

كما لكلّ حلم نهاية، كان الحراك الطلابي السويدي على موعد مع خاتمة درامية. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً من يوم 30 أيار/ مايو 2024، وبينما كان الطلاب نائمين في خيامهم، حاصرت عشرات سيارات الشرطة موقع الاعتصام بناءً على طلب إدارة الجامعة لإزالة المخيم، كما تبين لاحقاً. وخلال عملية الفض، استخدم بعض عناصر الشرطة العنف المباشر، وفقاً لما أقرّ به مركز الشرطة في لوند، وتم اعتقال عشرات الطلاب، وتحول المخيم إلى كومة من الأغراض المبعثرة.

أسفر الاقتحام عن اعتقال 41 طالباً وطالبة، أُجبروا على دفع غرامات مالية. وقد أدى يوم فض الاعتصام إلى خلق شرخ عميق بين الجسم الطلابي والمنظومة الأكاديمية، التي بدت في هذه اللحظة وكأنها امتداد للمنظومة السياسية.

جانب من اعتصام الطلبة المساند لغزّة في جامعة لوند - السويد.

تزامنت الأسابيع التي أعقبت إزالة المخيم مع نهاية العام الدراسي ومراسم التخرج، التي استغلها بعض الطلاب الخريجين وزملاؤهم للتعبير عن مواقفهم. رفعوا الأعلام الفلسطينية ولافتات داعمة لغزة خلال مراسم التخرج وأثناء توجههم لاستلام شهاداتهم، مستمرين في احتجاجاتهم ومواقفهم المدافعة عن الحقوق الإنسانية، التي أتخموا بها تنظيراً في مناهجهم الدراسية.

ماذا تبقى من الربيع؟

على الرغم من أن الاعتصام الطلابي في لوند استمر 16 يوماً فقط قبل أن تتدخل الشرطة بعنف لإزالته، إلا أنه بالنسبة للطلاب المحتجين لم يكن ذلك نهاية حراكهم بل بداية لوعي جديد.

وعند حديثنا مع طالبتين من ممثلات الحراك الطلابي في جامعة لوند، وكلتاهما شاركتا في الاعتصام، قالت إحداهما: "كان المخيم نقطة تحول. سيُذكر يوماً ما أن لوند أصبحت مدينة لحقوق الإنسان بفضل ما حدث هنا، لأن الطلاب وقفوا بثبات من أجل العدالة، من خلال احتجاجاتهم واعتصامهم في المخيم".

جانب من اعتصام الطلبة المساند لغزّة في جامعة لوند - السويد.

وأضافت زميلتها: "تمكّن الاعتصام من حشد دعم واسع من الناس. أعرف أن العديد من الأكاديميين الذين كانوا على الحياد، لم يعارضوا الاعتصام، بل وجدوا عنف الشرطة صادماً وغير مقبول. هناك الآن نقاشات وقلق متزايد بشأن ما يحدث، وإذا تكرّر حدث كبير كهذا، فأنا واثقة أن الكثيرين سينضمون إليه؛ على سبيل المثال، زملائي في الصف الذين كانوا داعمين طوال الوقت لنا، أصبحوا الآن أكثر وعياً واستعداداً للمشاركة".

"تمكّن الاعتصام من حشد دعم واسع من الناس. أعرف أن العديد من الأكاديميين الذين كانوا على الحياد، لم يعارضوا الاعتصام، بل وجدوا عنف الشرطة صادماً وغير مقبول. هناك الآن نقاشات وقلق متزايد بشأن ما يحدث"

وحول مستقبل الحراك الطلابي الداعم لفلسطين في السويد، قالت الطالبتان: "مستقبل هذا الحراك في السويد يبدو واعداً. ففي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تمكنت حركات التضامن مع فلسطين من بناء زخم كبير واستدامة على مدى سنوات طويلة. أما نحن، فقد شهدت حركتنا نموّاً سريعاً خلال فترة زمنية قصيرة، لكنها افتقرت إلى بنية تحتية تدعمها. ومع ذلك، نحن واثقون أنه مع مرور الوقت سيتطور التنظيم ويصبح أكثر فعالية، وسنعود أقوى وبأعداد أكبر من المشاركين والمتضامنين".

جانب من اعتصام الطلبة المساند لغزّة في جامعة لوند - السويد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image