يعد الحراك الطلابي على مدار التاريخ قوة لا يستهان بها في التأثير على المشهد السياسي، فجامعة كولومبيا التي بدأت دومينو اعتصام الجامعات هي ذاتها التي بدأت التنديد بنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا منذ ثلاثين عاماً، وشوارع أمستردام التي تشهد مظاهرات منددة بالعدوان الإسرائيلي هي ذاتها التي شهدت مسيرات الطلبة المنددة بحرب فييتنام في ستينات القرن الماضي.
الحراك الطلابي في هولندا قديماً وحالياً
يري بيتر سلامان، المؤرخ وأستاذ تاريخ الحراك الطلابي والتاريخ السياسي في جامعة لايدن في هولندا، أن الحركة الطلابية الحالية هي بالأساس انتفاضة ضد الاستعمار والرأسمالية، فالأحداث الجارية تذكرنا بالدور التاريخي الذي لعبته إنكلترا في خلق مساحة استعمارية لإسرائيل، وهذا هو الدور الذي تلعبه الآن الولايات المتحدة باعتبارها الداعم الأول للصهيونية، وأن هذه الحرب الدائرة هي حرب استعمارية بالأساس مدعومة من الولايات المتحدة، ولذلك هناك تشابه كبير بين الحركة الطلابية الحالية والحركة التي قامت في أمستردام أثناء حرب فيتينام 1968.
مسيرات الطلبة المنددة بحرب فييتنام في ستينات القرن الماضي. هولندا
فمدينة أمستردام في الأسبوع الأول عقب أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، شهدت أولى مسيرات التنديد بالعدوان الإسرائيلي، وتحديداً في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
قدرت وكالات الأنباء الهولندية الأعداد بما يفوق 15.000 متظاهر. تتم هذه التظاهرات بالاتفاق مع الشرطة والبلدية الخاصة بالمدينة التي تُنظم فيها المسيرة، هذا الأمر الذي من شأنه أن يوفر الحماية والأمن للمتظاهرين والمارة والسكان على حد سواء.
بعد أن رفعت جنوب إفريقيا دعواها القضائية لدى محكمة العدل الدولية متهمة إسرائيل بممارسة الإبادة العرقية ضد مواطني قطاع غزة في يناير/كانون الثاني 2024، انتقلت مركزية التظاهر في هولندا إلى مدينة لاهاي حيث مقر محكمة العدل الدولية، يصرح أحد المنظمين لمسيرات دعم فلسطين في هولندا بأن إقبال المتظاهرين على مدينة لاهاي في هذا اليوم فاق أي يوم آخر: "جاء المتظاهرون من ألمانيا وفرنسا وبلجيكا والمملكة المتحدة وغيرهم إلى لاهاي ليعبروا عن موقفهم الرافض لسياسة الإبادة العرقية التي تنتهجها اسرائيل". وبسؤاله عن أسلوب الشرطة في التعامل مع المتظاهرين أفاد بأن الشرطة حاولت تفريق تكتلات الجماهير بسبب ضخامة الأعداد والعرقلة التي سببها تكدسهم أمام السفارة الإسرائيلية.
صور من اعتصامات الطلبة في الجامعات الهولندية. 2024، صفحة الجالية الفلسطينية في هولندا
طلبة الجامعات تعتصم
لم تتوقف المفاوضات منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بين إدارات الجامعات الهولندية والطلاب بخصوص قطع العلاقات الأكاديمية مع الجامعات والمعاهد التابعة للاحتلال والتي من شأنها تمويل الإبادة العرقية، لم يجد الطلبة حلاً سوى تصعيد موقفهم أمام تجاهل الجامعة لمطالبهم، وبينما الوضع يزداد حدة في الجامعات الهولندية، كانت أحداث جامعة كولومبيا الأمريكية، بمثابة الشرارة التي أشعلت الدعوة للاعتصام في جامعة أمستردام مطلع شهر مايو/أيار، الحالي.
وعدت إدارة جامعة أمستردام بتحقيق الشفافية في التواصل بين الطلبة والإدارة، كما اقترحت تجميد العلاقات مع المعاهد التابعة للاحتلال لمدة أسبوعين ومن ثم استئناف تلقي التمويل، الأمر الذي لم يكن مرضياً بالنسبة للطلبة المعتصمين، فكان رد الجامعة هو استدعاء قوات مكافحة الشغب لفض الاعتصام بالقوة، مما تسبب في إصابات بين صفوف الطلبة.
"أنا غاضبة للغاية من تجاهل مطالبنا، والعنف المستخدم ضد طلبة مسالمين، غاضبة من إدارة الجامعة التي فضلت قمع طلابها بدلاً من الاستماع إليهم". سارة أحمد، طالبة مشاركة في اعتصام جامعة أمستردام
تصف الجهة المتحدثة باسم الاعتصام الإصابات بكونها متفرقة في مختلف أجزاء الجسم نتيجة الضرب بالهراوات والارتجاجات نتيجة الضرب على الرأس.
"أنا غاضبة للغاية، غاضبة من تجاهل مطالبنا، والعنف المستخدم ضد طلبة مسالمين، غاضبة من إدارة الجامعة التي فضلت قمع طلابها بدلاً من الاستماع إليهم، ورغم كل شيء فهذه الإصابات لا تكاد تقارن بما يقاسيه الشعب الفلسطيني في غزة منذ أشهر". هكذا تصف سارة أحمد، طالبة مشاركة في الاعتصام، شعورها بعد أحداث جامعة أمستردام.
لم يقتصر الأمر على جامعة أمستردام، وإنما امتدت الاعتصامات الطلابية إلى جامعة أوترخت، ولايدن، ودنهاخ، وغيرها من الجامعات الهولندية، وكنتيجة للموقف الطلابي أعلنت أكاديمية الفنون الملكية في مدينة لاهاي قطع علاقاتها الأكاديمية مع أكاديمية بيزال للفنون في القدس المحتلة، لتعتبر بذلك المؤسسة التعليمية الأولى في هولندا التي تستجيب للحراك الطلابي وتحقق إرادتهم، بينما في جامعة خرونجن وفقاً لشهادات الطلبة فإن السكان المحيطين بمنطقة الاعتصام أبلغوا الطلبة بأن الجامعة تواصلت معهم لإقناعهم بالتقدم ببلاغات إزعاج من الطلبة المعتصمين مما يسمح للشرطة بالتحرك لوقف الاعتصام.
أساتذة الجامعة بين الإدارة والطلبة
من جامعة لايدن يفيد يوست أوجستاين المؤرخ وأستاذ تاريخ العنف السياسي، بأن الجامعة تريد أن تتحكم في اجتماعات المفاوضات بين الطلبة ومجلس إدارة الجامعة، وهناك شكوك بين الطلبة عن انحياز الإدارة إلى الجانب الإسرائيلي، هذه الشكوك والقيود من شأنها أن تشعر الطلبة بأن المفاوضات غير عادلة ولا يتحقق فيها التوازن المطلوب، من جهة أخرى يرى بيتر سلامان أستاذ تاريخ الحراك الطلابي بجامعة لايدن، بأن إدارات الجامعات الآن باتت في موقف صعب، حيث أن أمن الطلبة والجامعة يأتي دائمَاً في المقام الأول، بالإضافة إلى أنه ليس كل من في الجامعة يوافق على ما يطلبه المتظاهرون. "حفاظ المظاهرات على سلميتها من شأنه أن يسهل تحقيق المطالب، فما شهدته جامعة أمستردام من أحداث عنيفة هو أمر لا يمكن التساهل معه، ولا يمكن لأي حوار أن يستمر عند هذه المرحلة". هكذا عقب سلامان على قرارات إدارة الجامعة، بينما يعقب الطلبة على الأحداث بقولهم: "سيزداد عدد الطلبة المتظاهرين طالما استخدم العنف".
"حفاظ المظاهرات على سلميتها من شأنه أن يسهل تحقيق المطالب، فما شهدته جامعة أمستردام من أحداث عنيفة هو أمر لا يمكن التساهل معه". بيتر سلامان، مؤرخ وأستاذ تاريخ الحراك الطلابي والسياسي في جامعة لايدن.
الثقة في النظام الأمني
بظهور عناصر الشرطة في المشهد تُطرح الكثير من الأسئلة حول أمن الطلبة المتظاهرين، فالجامعة تتعاون فيما يخص تحقيق الشفافية وتضع شروطاً لذلك، من ضمن هذه الشروط ضرورة كشف الوجه عند التظاهر والتفاوض مع الجامعة، وأن يقتصر النشاط السياسي على من هم مقيدون للدراسة.
"اللجوء إلى تغطية الوجه هو أمر ضروري لأنه يحول بين الشرطة وبين هوية الشخص المتظاهر"، هكذا يقول أحد الأفراد المشاركين في تظاهرات الجامعة (رفض ذكر اسمه)، فإن كشف الهوية من شأنه أن يعرض الطالب إلى الملاحقة، الوصم، إنهاء الإقامة، أو الترحيل، خصوصاً أن هناك بعض الأفراد الذين يتتبعون المتظاهرين ويصلون إلى بياناتهم الشخصية وينشرونها على وسائل التواصل الاجتماعي، هذا الأمر بمثابة تضييق نفسي ضد المتظاهرين حسب قول الطالب: "نحن نسير في المظاهرات بأرقام المحامين مكتوبة على أذرعنا".
لعل رفض المتظاهرين الإفصاح عن أسمائهم في هذا التقرير هو دليل على خوفهم من الوصم والملاحقة، يعبر متظاهرٍ ثانٍ عن رأيه: "لا توجد ثقة بين الطلبة والإدارة"، وعلى النقيض من ذلك، يرى أوجستاين أستاذ التاريخ، أن على الجميع أن يكون أكثر ثقة في النظام القانوني بهولندا، فلا يمكن للقانون أن يجعل من المتظاهر ضحية لآرائه السياسية.
صور من اعتصامات الطلبة في الجامعات الهولندية. 2024، صفحة الجالية الفلسطينية في هولندا
المباني مقابل الدماء
"المباني يمكن إعادة بنائها، ولكن من يعيد لنا الأرواح؟". هذا هو السؤال الذي طرحته المتحدثة باسم اعتصام طلبة أمستردام.
يظل التلف الملحق بالمباني المطلة على ساحة الأحداث هو محور اهتمام مواقع الأنباء الهولندية، الأمر الذي بات جدلياً بين أوساط المجتمع الهولندي الكاره لاستخدام العنف. يستنكر اعتصام أمستردام هذه المقارنة بين الجماد والأرواح حيث لم يتولد كل هذا الغضب حينما تعلق الأمر بعدد القتلى في فلسطين.
يظل التلف الملحق بالمباني المطلة على ساحة الأحداث هو محور اهتمام مواقع الأنباء الهولندية. لكن اعتصام أمستردام يستنكر هذه المقارنة بين الجماد والأرواح حيث لم يتولد كل هذا الغضب حينما تعلق الأمر بعدد القتلى في فلسطين
الجدير بالذكر أن الشرطة الهولندية صرحت بتلقي بلاغ بالتخريب من جامعة أمستردام ضد المتظاهرين وهو الأمر الذي دفع الشرطة للتحرك، وعلى الجانب الآخر، يعبر أستاذ التاريخ يوست أوجستاين عن قلقه الشديد إزاء الوضع الراهن في الجامعات: "نبذنا للعنف لا يعني أننا نوافق على قتل هذا العدد من الفلسطينيين، ولا يعنى أن الممتلكات أعلى قيمة من الإنسان، ولكن ما حدث في جامعة أمستردام له تأثير سلبي للغاية على الصالح العام للقضية لما يسببه من صدى سيئ في الرأي العام الهولندي تجاه القضية ومناصريها في هولندا"،
تحاول السلطات الهولندية التوصل إلى هوية مرتكبي أعمال التخريب في الجامعة، وما زال الأمر قيد التحقيق.
صور من اعتصامات الطلبة في الجامعات الهولندية. 2024، صفحة الجالية الفلسطينية في هولندا
دور الأستاذ الجامعي
"يجب أن أكون أكثر حرصاً ورغبة في معرفة آراء طلابي ومناقشتهم فيها، لا أتردد في أن أقول ما أفكر به وأعطي المساحة للآخرين لكي يتداولوا آراءهم في قاعة المحاضرات، حتى يتمكنوا من تطبيق ذلك خارج الجامعة". هكذا علق أستاذ التاريخ يوست أوجستاين، عن دور الأستاذ في هذه الأوقات الراهنة.
يشعر أساتذة الجامعة بأنهم في موقف صعب، فعليهم الموازنة بين مواقفهم الأخلاقية وأدوارهم كمعلمين وضابطين للنظام الجامعي. التساؤل عن دور المعلم الأكاديمي الذي يشجع الفكر النقدي وسبل التفكير المنطقي يطرح نفسه في مثل هذه الظروف. يضيف أستاذ التاريخ الطلابي بيتر سلامان أن الأستاذ الجامعي منوط به خلق معرفة وعلم جماعي وحرية تعبير داخل قاعة المحاضرات، فلكل طالب الحق في أن يعبر عن رأيه بحرية وأمان: "يمكننا أن نختلف كثيراً ولكننا نحترم بعضنا بعضاً".
يشعر أساتذة الجامعة بأنهم في موقف صعب، فعليهم الموازنة بين مواقفهم الأخلاقية وأدوارهم كمعلمين وضابطين للنظام الجامعي.
منذ ثلاثة عشر عاماً في بقعة من الأرض خرجت مجموعات من الشباب عن السياق المنوط بهم اتباعه، فتمردوا على القوانين وهتفوا بسقوط الأنظمة فيما عرف بالربيع العربي.
نرى غضباً مشابهاً يتكرر هذه الأيام من فئة عمرية مماثلة ولكن في بقاع مختلفة، تثور لازدواجية العالم وتقلب موازينه رأساً على عقب، حداثة أعمارهم كونهم ما زالوا على أعتاب عالم الناضجين، في عداد أكبر عوامل مثاليتهم، إذ لم تثقل كاهلهم هموم عالم النضج. لقرون ممتدة كان الطلبة هم البوصلة الأخلاقية التي تعيد توجيه العالم حينما يضل. وبمراجعة صفحات التاريخ نرى أوجه التشابه بين طلبة الأمس وطلبة اليوم مهما اختلفت عوامل العصر، يجمعهم دائماً السعي نحو عالم أكثر عدلاً.
صور من اعتصامات الطلبة في الجامعات الهولندية. 2024، صفحة الجالية الفلسطينية في هولندا
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه