شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
قال

قال "لبّيك لا شريك لك" قبل الإسلام ورآه النبيُّ في الجنة… زيد بن عمرو

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ نحن والحقيقة

الاثنين 20 يناير 202511:28 ص

رجلٌ من أشراف قريش اشتهر بحُسن الخلق والتمرّد على تعاليم قومه فرفض وأد الفتيات وعبادة الأصنام وأكْل الذبائح التي تُقام على شرفها. كان يصلّي متوجهاً إلى الكعبة مرتين في اليوم، وكثيراً ما وقف بين أهل قريش خطيباً يعظهم ويحثّهم على التخلّي عما يفعلون، ويدعوهم للعودة لتعاليم إبراهيم الحنيفية.

رفض أغلب القريشيين دعوته بمَن فيهم أقرب أقربائه الذين لم يكتفوا بعدم الإنصات إليه، لكنهم آذوه وسلّطوا عليه سفهاءهم، حتى اضطرّ للهرب إلى غار حراء، ليتعبّد داخله في هدوء. ورغم كل ذلك ظلَّ متمسكاً بدعواه التوحيدية حتى آخر أيامه.

في الفقرات السابقة لم نتحدث عن النبي محمد، بل عن أحد أهم الحنفاء الذين عرفتهم الجزيرة خلال مرحلة ما قبل الإسلام، وهو زيد بن عمرو بن نفيل.

باغي الخير يبحث عن الطريق

في كتابه "مسلمة الحنفي: قراءة في تاريخ محرّم"، اعتبر جمال علي الحلاق أن زيداً بن عمرو، نموذجٌ صارخٌ للأحناف الذين عملوا جاهدين على توحيد الأرباب في ربّ واحد، مثله مثل خالد بن سنان، الذي أوقف زحف المجوسية في عبس.

ترفّع زيد عن كثيرٍ من عادات قريش التي احتقرها، فرفض عبادة الأصنام، وكان يُحيي المروءة، فيقول للرجل الذي يريد أن يئد ابنته: "مهلاً! لا تقتلها. أنا أكفيك مؤونتها"، فيأخذها، فإذا كبرت، قال لأبيها: "إذا شئتَ دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤونتها".

ذبح النبي ذبيحة للأصنام ثم أخذ منها شيئاً وطبخه وحينما دعى زيد إليه رفض. تنقل الرواية على لسان زيد أنه قال للنبي: "إني لا آكل من شيء ذُبح للأصنام وإني على دين إبراهيم"، عندها أمر النبي زيد بن حارثة بإلقاء ما معه!

لم يعنِ هذا الوضع أن ابن نفيل عاش منفصلاً عن واقع قومه، فقد تبنّى قضاياهم المصيرية، وشارك فيها بحماس. وبحسب ما أورد أحمد مصطفى في كتابه "تاريخ العرب قبل الإسلام"، فإنه حينما وقعت حرب الفجار اشترك فيها، وكان على رأس بني عُدي في يوم شمطة.

كذلك اشتهر زيد بثقافته الجمّة، فهو كان يجيد القراءة والكتابة ويُلقي الشعر ويتحدّث بأكثر من لغة وله اطلاع كبير على مؤلفات الفلسفة والدين. هذه الثقافة الموسوعية كانت أمراً شائعاً بين باقي الحنفاء الذين اشتهروا بالعِلم والمعرفة كورقة بن نوفل وأمية بن أبي الصلت والزبير بن عبد المطلب وغيرهم، وبحُكم عمل ابن نفيل في التجارة فقد سافر كثيراً خارج مكة واختلط بعديد الأقوام.

لم تكن كل هذه الأسفار بغرض التجارة، وإنما انطوت على هدفٍ آخر أسمى، وهو البحث عن الله؛ فالرجل أظهر توقاً فريداً مبكراً في الوصول للدين الحق بشكلٍ لا نجده حتى عند باقي الأحناف. وهو ما يظهر بوضوح في العبارة التي لطالما ردّدها: "اللهم إني لو أعلم أحبَّ الوجوه إليك، لعبدتك به، ولكني لا أعلم".

حكى الدكتور فضل العماري في بحثه "الحنيفية في الشعر الجاهلي" أن زيداً أدرك بالفطرة تناقض العقيدة التي يعتنقها أهل مكة مع العقل، فاجتهد في السؤال عن الدين الحق، والتفتيش عن الأجوبة المقنعة شمالاً وجنوباً.

سافر زيد في أنحاء الجزيرة، ثم إلى الشام والعراق، يحاور الرهبان والأحبار، يسألهم عن الطريق إلى الدين الحق. فعرض كلٌّ منهم بضاعتَه عليه، فلم يقتنع. وهنا يجب التنويه إلى أن المسيحية التي كانت سائدة في أديرة العراق والشام، كان أغلبها على المذهب النسطوري، المضادة للتثليث، وأشهر معتنقيها وقتها كان الراهب بحيرا، الذي قابل النبي خلال رحلته المعروفة إلى الشام.

أصبح هوس زيد بالبحث عن الدين الحق شائعاً في مكة، حتى أن أمية بن أبي الصلت قابله ذات مرة، عقبَ عودته من جولاته الإرشادية فسأله: "يا باغي الخير هل وصلت؟"، فأجابه: "لا".

من أمية بن أبي الصلت استقى زيد كلمة "بِاسمِك اللّهم"، التي عرفها أمية من راهبٍ يعيش داخل صومعة على طريق قوافل الشام، حسبما ورد في كتاب "مروج الذهب" للمسعودي. وعنهما التقط ابن نفيل "بِاسمِك اللّهم"، وراح يرددها كثيراً في كلامه، فكانا من أوائل مَن نطقا بها من العرب.

وبخلاف كلمة "اللّهم"، فإن زيداً أيضاً كان من العرب القلائل الذين كانوا يستخدمون كلمة "الله"، للدلالة على ربّ الأرباب أو الإله الأعظم، وهي المفردة الأكثر شيوعاً للإشارة إليه بعد الإسلام، حسبما أورد جمال علي الحلاق في كتابه "آلهة في مطبخ التاريخ". إلا أنه من الواجب القول إن استعمال كلمة "الله" بين العرب كان موجوداً قبله بعشرت السنواتو فيُنسب بيت شعر يقول "جزاهُ اللهُ من ولدٍ جزاءً" إلى القائد الأزدي، مالك بن فهم، الذي قاد قومه إلى عمان، حيث أقام مملكة تنوخ. توفي مالك في حدود العام 231 م، أي قبل ما يزيد عن القرن ونصف من مولد ابن نفيل. وهكذا كان استعمال الكلام التوحيدي كرة ثلج تتدرّج في الكثافة على ألسنة أهل الجزيرة حتى أتت لحظة الانفجار التوحيدي الأكبر: ظهور الإسلام.

كبير الأحناف: الرجل الذي وقف!

في طفولته عبَدَ زيد صنماً يُدعى "غنم"، لكنه سرعان ما تمرّد على كل ذلك، وتوقف عن التودد إليه وإلى غيره من أصنام. العديد من كتب التاريخ وصفت عقيدته بأنه "وقف؛ فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه". وهو أمر ميّزه عن باقي الأحناف الذين مال أغلبهم إلى المسيحية النسطورية.

لم يرَ زيد من بين ما حوله من عقائد حقاً إلا النكوص عنها كلها إلى الحنيفية الإبراهيمية التي أهملها العرب إلى الأصنام، فأنشد عن ذلك شِعراً يقول:

أربّاً واحداً أم ألف ربٍّ/أدين إذا تقسّمت الأمورُ

عزلت اللات والعزى جميعاً/كذلك يفعل الجلدُ الصبورُ

فلا العزى أدين ولا ابنتيها/ولا صنمَي بني عمرو أزورُ

ولا هبلاً أدينُ وكان ربّاً/ لنا في الدهرِ إذ حلمي يسيرُ

ولزيد شعرٌ آخر أظهر معرفة دقيقة بتفاصيل قصة النبيَّين موسى ويونس، ورد في سيرة ابن هشام، يقول فيه:

وقُولا له مُن يُنبت الحَبَّ في الثرى/فيُصبح منه البُقل يهتزُّ رابيا

فقلتُ له يا اذهب وهارون فادعُوَا/إلى الله فرعونَ الذي كان طاغيا

تُبيّن لنا هذه الأشعار، وغيرها، أن عمرو أظهر عقيدة توحيدية محضة سبّاقة لما عرفه بنو قريش وقتها، وهو ما يتضح في أبياتٍ أخرى جاء فيها: "وأسلمتُ وجهي لِمن أسلمت/له الأرضُ تحمل صخراً ثقالا/دحاها فلما رآها استوى/على الماء أرسى عليها الجبالا"، وهي أشعار تكاد تتطابق مع ما ورد بالقرآن لاحقاً في سورة "النازعات".

كذلك أظهر عمرو إيماناً بالبعث والحساب بقوله: "فلن تكون لنفسي منك واقيةٌ/يوم الحساب إذا ما يُجمع البشرُ".

وفي حضرة زيد أنشد أمية بن أبي الصَّلت شعرَه: "كل دين يوم القيامة عند الله، سوى الحنفية، زورُ"؛ معنى أقرّه زيد وقتها بترديد كلمة: "أصبت.. أصبت"، ومن بعدهما وافقهما القرآن بقوله: "إن الدين عند الله هو الإسلام".

وفي محاولة منه لتبرير هذا التشابه الكبير بين أشعار ابن عمرو وبين ما ورد لاحقاً في القرآن قلَب فضل العامري الآية بعدما أكّد أن الأسبقية هي للقرآن، أما شعر زيد، فهو منحول، نُسب له زوراً بعدما تأثر واضعوه بالهوية الإسلامية!

بعيداً عن الشعر، فإنه بمرور الوقت أقام زيد لنفسه طقوساً دينية حنيفية، فكان إذا خلص إلى البيت استقبله قائلاً: "لبيك"، ثم يقول: "عُذت بما عاذ إبراهيم به".

وتناقلت كتب التاريخ مروية عن حجير بن أبي إهاب قال فيها: "رأيت زيداً بعدما رجع من الشام يراقب الشمس، فإذا زالت استقبل القِبلة فصلّى ركعة وسجدتين. ثم يقول: هذه قِبلة إبراهيم وإسماعيل، لا أعبد حجراً ولا أصلّي له، ولا آكل ما ذُبح له".

وبحسب ما أورده جواد علي في كتاب "المفصل في تاريخ العرب" فإن زيد كان يردد في صلاته: "إلهي إله إبراهيم... وديني دين إبراهيم". وخلال أداء الحج كان يقف بعرَفة ويقول: "لبيك لا شريك لك ولا ندّ لك".

هذه الجهود كان لها صدى طيّب وسط أصدقائه الحنفاء. وبحسب الحلاق فإن زيداً كان قطباً مركزياً للحنيفية التوحيدية، ليس فقط في مكة، ولكن أيضاً في الطائف ويثرب.

تأثير زيد بن عمرو طال الحنفاء أنفسهم، فاتبع خطاه جماعة منهم، أبرزهم صديقه الحميم ورفيق دربه في رحلة البحث عن الحق، ورقة بن نوفل، الذي هو ابن عم خديجة زوجة الرسول، الذي كان يردد "ديني دين زيد، وإلهي إله زيد".

على الجانب الآخر فإن أفاعيل ابن نفيل كان وقعها مُدمراً على باقي أهل قريش، الذين اعتبروا زيد زنديقاً سيفتن الناس عن دينهم، ولقد استحق زيد هذه النقمة بسبب تفرده عن باقي الحنفاء بالصوت العالي والنبرة الناقدة العلنية لممارسات بني قومه، فكثيراً ما خطب في صحن الكعبة بين القريشيين يعرب لهم عن رفضه عبادة الأصنام.

بسبب ذلك غضب عليه الخطاب بن نفيل، والد الخليفة الثاني عُمر، فدفع سفهاء قريش إلى ضربه وطرده من مكة، فلجأ إلى حراء فأنشد: "لأهم إني محرم لا حله".

بعدما اضطر زيد إلى الهرب إلى حراء، عاش منزوياً معزولاً عن قومه إلا من فترات قليلة كان يدخل فيها مكة سرّاً حتى زال عنه الحظر وعاد إلى مكة، دون أن يتخلّى عن معتقداته التي ظلَّ مؤمناً بها حتى آخر أيام عُمره؛ فلقد روت أسماء بنت أبي بكر عنه أنه، وقد أصبح شيخاً كبيراً، كان يسند ظهره للكعبة ويخطب في قومه: "يا معشرَ قريش والذي نفسي بيدِه، ما أصبح أحدٌ منكم على دينِ إبراهيم غيري".

رغم هذه الإسهامات الكبيرة في الفِكر الإبراهيمي، فإنه لم يُروَ عنه أنه ادعى النبوة، كما فعل حنفاء آخرون مثل سويد بن الصامت، الذي لقي النبي محمد يوماً فدعاه إلى الإسلام فأجابه: "لعلّ الذي معك مثل الذي معي".

العلاقة مع النبي

عاصر النبي سطوع نجم زيد، وكان لافتاً أن الأخير أظهر معارضة علنية وعنيفة للأصنام لم يُظهرها الرسول قبل البعثة. وفي كتابه "صحيح لسيرة النبوية" للشيخ محمد بن رزق بن طرهوني، أكد أن النبي قبل البعثة لم يُعرف بمعاداة قومه بل إنه كان "على دينهم"، حسبما نقل عن جبير بن مطعم، وهو ما برّر به نزول عبارات قرآنية مثل "ووجدك ضالّاً فهدى"، وقوله: "ما كنتَ تدري ما الكتاب ولا الإيمان".

في كتابه "آلهة في مطبخ التاريخ" اعتبر جمال علي الحلاق أن كلمة "اللهمّ" التي مثّلت أعلى رتبة للوعي الحنيفي قبل الإسلام، والتي درج أمية بن أبي الصلت ثم عمرو بن زيد على استخدامها، استعملها النبي أيضاً في كلماته خلال عهد الإسلام، مثل الحديث الذي نُقل عنه قوله على هامش غزوة بدر: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، اللهمّ نصرك الذي وعدتني".

في حضرة الصنم

بحسب ما ورد في البخاري فإن النبي محمد، خرج بصحبة مولاه زيد بن حارثة إلى نُصب من الأنصاب (قبل النبوة طبعاً)، وبعدما ذُبحت لهما شاة أقبل عليهما زيد بن عمرو، فتبادلا "تحية الجاهلية"، فسأله النبي: "مالي أرى قومك قد شنفوا لك؟"، فمنحه جواباً طويلاً أكد فيه أن أهل مكة على ضلالة، ثم حكى له جولاته الكبيرة على الأحبار بحثاً عن "الدين الذي أبتغي".

في ختام الحديث قُدّمت لهما السفرة، فرفضها زيد، لأنه لا يأكل من الذبائح المُقدّمة للأصنام؛ موقف لم يتخذه محمد نفسه، بحسب رواية البخاري التي أظهرت أن زيداً اتخذ موقفاً أكثر تشدداً بقوله: "إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذُكر اسم الله عليه".

الرواية نفسها ظهرت بأشكال مختلفة وتفاصيل أكثر؛ فحسبما ورد في "مسند" ابن حنبل، فإن سعيداً بن زيد حكى أن الرسول كان في مكة بصحبة زيد بن حارثة، فمرّ بهما زيد بن عمرو، فدعوه إلى سفرةٍ لهما، فاعتذر لأنه لا يأكل مما ذُبح على النُصب"، ويتبع سعيد: "فما رؤيَ النبيُّ بعد ذلك أكل شيئاً مما ذُبح على النُصُب".

رجلٌ من أشراف قريش اشتهر بحُسن الخلق والتمرّد على تعاليم قومه فرفض وأد الفتيات وعبادة الأصنام وأكْل الذبائح التي تُقام على شرفها.

 شبيه لهذه الرواية ما ذكره أبو العلاء المعري في كتابه "رسالة الغفران"، -هو ليس كتاباً تاريخياً بل أدبياً طبعاً- بأن النبي ذبح ذبيحة للأصنام ثم أخذ منها شيئاً وطبخه، وحينما دعى زيد إليه رفض، تنقل الرواية على لسان زيد أنه قال للنبي: "إني لا آكل من شيء ذُبح للأصنام وإني على دين إبراهيم"، عندها أمر النبي زيد بن حارثة بإلقاء ما معه. 

وبحسب ما ورد في "سيرة" ابن إسحاق فإن حواراً طويلاً دار بين النبي وزيد خلّف تأثيراً كبيراً في نفس النبي بقوله: "ما تحسست بوثنٍ منها بعد ذلك على معرفة بها، ولا ذبحت لها حتى أكرمني الله برسالته".

المعنى ذاته نقله الحلبي في كتابه السيرة الحلبية عبر نشر رواية على لسان السيدة عائشة بأن النبي أخبرها أنه سمع زيد ينتقد ذبح الشاة على غير اسم الله، وتنقل الرواية عن النبي قوله: "فما ذُقت شيئاً ذُبح على النصب حتى أكرمني الله برسالته".

في معرض التعليق على هذه الرواية الإشكالية أظهر السهيلي في كتابه "الروض الأنف" استغرابه منها بقوله: "كيف وفق الله عزّ وجل زيداً إلى ترك ما ذُبح على النُّصُب، ورسوله كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية لما ثبت من عصمة الله له؟!".

وفي مواضع عدة اجتهد عددٌ من الفقهاء، ومنهم السهيلي، لتبرير هذه الرواية عبر تأكيد أن الحديث لم يُؤكد أن النبي أكل من تلك الذبيحة، وعلى تقدير أن يكون أكل، فزيد إنما كان يفعل ذلك برأيٍ يراه لا بشرعٍ متقدم، وإن الأشياء قبل ورود الشّرع فيها حُكمها الإباحة، فإن كان النبي قد أكل، فلقد فعل أمراً مباحاً وإن كان لم يأكل فلا إشكال.

بل إن آخرين اعتبروا أن موقف النبي كان الأكثر التزاماً بشريعة إبراهيم التي لم تكن قد حرمت وقتها إلا أكل الميتة، ولم تحرّم أكل ما ذُبح لغير الله، وهي عادة ظلّت حلالاً لا إثم فيها حتى جاء الإسلام وجاء القرآن بـ"ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه".

بينما قال الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" أن زيداً هو الذي ذبح بغير أمر النبي الذي لم يكن معه "العصمة والتوفيق ما أعطاه لنبيه"، أما الرسول فلم يذبح ولم يأكل.

وخلال تعرضه لتلك الواقعة قال الدكتور طيب تيزيني في كتابه "مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر"، إنه سواءً أكل النبي أو لم يأكل، ذبح أو لم يذبح، فإن زيداً كان الوحيد في هذه الجلسة الذي وصل بفكره إلى تحريم أكل هذا النوع من الذبائح، وهو ما يعكس تطوراً كبيراً في سلوكياته سبقت الجميع آنذاك.

الوفاة قبل ظهور النبي المنتظر

في سنوات بحثه الأخيرة بدا أن زيداً في طريقه أخيراً إلى مبتغاه، حينما التقى بعامر بن ربيعة، مولى الخطاب بن نفيل، الذي تبنّاه لاحقاً حتى صار يُدعى بِاسمه، فأبلغه زيد أنه ينتظر ظهور النبي الجديد، ثم وصفه له بأنه: "رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشَّعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حُمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده".

في إحدى جولاته بحثاً عن الدين الحق التقى زيد بكاهن أخبره أنه "قد أظلَّ زمان نبي يُبعث من بلاد العرب بدين إبراهيم"، فرجع سريعاً يريد مكة حتى إذا ما توسّط بلاد لخم، هاجمه بعض أهلها وقتلوه، وكان ذلك عام 605 م، أي قبل البعثة النبوية بخمس سنوات مات زيد.

هذه هي الرواية الأكثر شيوعاً لرحيله عن الدنيا مع وجود روايات أخرى أقل شهرة وأكثر ضعفاً زعمت أنه قُتل مسموماً بأمر أحد ملوك غسان أو أنه مات بشكلٍ طبيعي بين أهله في قريش.

قُدّمت لهما السفرة فرفضها زيد، لأنه لا يأكل من الذبائح المُقدّمة للأصنام، هو موقف لم يتخذه النبي نفسه بحسب رواية البخاري التي أظهرت أن زيد اتخذ موقفاً أكثر تشدداً بقوله: "إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذُكر اسم الله عليه"

في جميع الأحوال تلقّى صديقه ورقة بن نوفل الخبر مصدوماً فرثاه قائلاً:

رشدت وأنعمت ابن عمرو/وإنما تجنّبت تنوراً من النار حاميَةْ

بدينك رباً ليس رب كمثله/وتركك أوثان الطواغي كما هي

وإدراكك للدين الذي طلبته/ولم تكُ من توحيد ربّك ساهيا

وبلا شك فإن جهاد زيد الروحي علَق بمَن حوله بفضل ما بثَّه فيهم من أفكاره وآرائه، فكان ابنه سعيد من أوائل الذين اتبعوا النبي فور إعلانه الرسالة. يقول جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب": "ولابد أن يكون لرأس والده في دين قومه وما أبداه من ثورة صريحة جامحة على عقائدهم أثر في نشوء هذا الابن وفي إقدامه مع السابقين على الدخول في الإسلام".

سعيد هو زوج فاطمة، شقيقة عُمر بن الخطاب، الذي اقتحم دارها ليعاقبها، مع سعيد، على إسلامهما، فقرأ عندهما سورة "طه"، فكانت سبباً في إسلامه.

ومن اللافت كذلك أن عامر بن ربيعة كان أيضاً من أوائل المسلمين وكأنه عمل بدوره بوصية زيد له قبل وفاته.

بعد البعثة أظهر النبي تقديراً كبيراً لشخص زيد بن عمرو بن نفيل ولأفكاره، فقد نُقل عن عائشة قول النبي: "دخلتُ الجنةَ، فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين"، وفي موقفٍ آخر قال لأصحابه: "رأيته في الجنة يسحب ذيولاً".

أيضاً حين أخبر عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد أنهما يستغفران لزيد بن عمرو أجابهما بـ"نعم"، كذلك حين وفدت ابنته عليه وأخبرته بنبأ أبيها أجابها بأنه: "يُبعث أمّة وحده".

وخلال تفسير ابن كثير لآية "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى" (سورة الزّمر)، بأنها نزلت في زيد بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image