شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
من شيراز إلى البصرة…  أسطورة رجل فارسيّ ألف

من شيراز إلى البصرة… أسطورة رجل فارسيّ ألف "قرآن النحو"، اسمه سيبويه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الخميس 16 يناير 202511:12 ص

حادثة طريفة في سوق البصرة، وقعت أواخر القرن الثاني هجرياً تقريباً، "أن رجلا قال لسمَّاك بالبصرة: بكم هذه السمكة؟ فقال: بدرهمان. فضحك الرجل، فقال السمَّاك: أنت أحمق، سمعت سيبويه يقول ثمنها درهمان". روى هذه الحكاية ابن هشام الأنصاري في كتابه "مُغني اللبيب عن كتب الأعاريبش" في جملة من النماذج التي وصفها بـ"القياس الفاسد"، تُفيد مدى وصول تأثير سيبويه، ما يوحي بأنه كان "ترِند" بمقاييس العصر.


صورة لسيبويه

بخلاف العامة، فإن سيبويه وصل تأثيره في النحاة واللغويين والبلاغيين إلى درجة كبيرة، تكاد تكون نوعاً من الهيمنة لسيبويه ولكتابه الفريد الذي تركه دون عنوان، تمكن فيه لأول مرة من وضع قواعد النحو، مسجلاً عدة نظريات وأفكار له، ولطبقة النحاة الذين سبقوه، خاصة أستاذه الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت. 160هـ تقريباً) المشهور بواضع علم العروض ومكتشف البحور الشعرية.

نتيجة هيمنة سيبويه النحوية، والجو الغرائبي والأسطوري الذي أُشيع حول الكتاب ومؤلفه وتلامذته أيضاً، لوحظ اهتمام بالغ بسيبويه وكتابه، وربما كان ذلك عبئاً أو عقبة أمام أي مؤلف جديد في النحو. يوضح هذا ما نقله السيرافي في كتابه "أخبار النحويين البصريين" أن أبا عثمان المازني النحوي كان يردد: "من أراد أن يعمل كتاباً كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه، فليستحِ".

وصل تأثير سيبويه في النحاة واللغويين والبلاغيين إلى درجة كبيرة، تكاد تكون نوعاً من الهيمنة لسيبويه ولكتابه الفريد الذي تركه دون عنوان، تمكن فيه لأول مرة من وضع قواعد النحو 

المدهش أن صاحب هذه السيرة العجيبة، كان "غلاماً" آتياً من بلاد فارس (إيران)، لا يجيد نطق اللغة العربية ولا قراءة الحديث النبوي قراءة صحيحة، يتحول إلى صاحب أول كتاب منهجي في النحو، وتتناقل المصادر التاريخية والنحوية وقائع حياته باحترام بالغ، تاركة نوعاً من التحدي والغرائبية على سيرته، مبرزة أثره الممتد عبر التاريخ.

بائع التفاح أم ذو الثلاثين رائحة

لم يترك الجدل حوله شيئاً، إذ اختلف النحاة قديماً، والمحققين حديثاً، حول معنى لقب "سيبويه"، أوجزها المحقق العراقي لكتاب سيبويه محمد كاظم البكاء، في مقدمته للكتاب، وذكر أنه: "عمرو بن عثمان بن قنبر، ويكنى أبا بشر، وقد اشتهر بسيبويه وهو لقب عُرف به، كانت أمه وهي فارسية ترقصَّه به، وقد زعموا أنه في الفارسية: رائحة التفاح، وقيل بائع التفاح، ويرى بعض الباحثين أنه بمعنى كوم تفاح، وكل ذلك يدل على جماله وحسن طلعته"، ويذكر أن "سيب" في الفارسية تعني التفاح، و"بو" هي الرائحة.

أما المحقق المصري لكتاب سيبويه، عبد السلام هارون، في مقدمته للكتاب عمَّق بحثه حول معنى "رائحة التفاح"، وذكر "وقد بحثت وسألت كثيراً من دارسي الفارسية عن صحة الزعم بأن 'ويه' كلمة تدل على الرائحة، فاهتديت إلى بطلان ذلك وأن لا أساس له من الصحة".

وبحسب هارون فإن "بعض العلماء الأقدمين، وهو أبو عبدالله بن طاهر العسكري يزعم أن الاسم من 'سي' الفارسية ومعناه ثلاثون، و"بوي" أو "بويه" أي الرائحة، ومعناها الثلاثون رائحة، أي ذو الثلاثين رائحة، وهذا الزعم سليم من الناحية اللغوية الفارسية، ولكنه غير مطرد فيما نعهد من الأعلام القديمة المماثلة المختومة بـِويه".

بعيداً عن جدل الاسم، شهدت نشأة سيبويه مفارقةً عجيبة، توحي بالتحدي، فبعد أن "التحق بحلقات الفقهاء والمحدثين، ولزم حلقة حماد بن سلمة ابن دينار، المحدث المشهور حينئذ، وحدث أن لفته إلى أنه يلحن في نطقه ببعض الأحاديث النبوية، فصمم على التزود أكبر زاد بشئون اللغة والنحو"، وفقاً لشوقي ضيف في كتابه "المدارس النحوية".

أورد أبوبكر الزبيدي في كتابه "طبقات النحويين واللغويين" حادثة حلقة الحديث النبوي، إذ كان حمَّاد يمليه حديث النبي الذي يقول: "ليس من أصحابي إلا لو من شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء. فقال سيبويه 'ليس أبو الدرداء'، وظنه اسم ليس. فقال حماد لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت وإنما ليس ها هنا استثناء. فقال سأطلب علماً لا تُلحنني فيه. فلزم الخليل، فبرع"، بحسب رواية الزبيدي.

وبحسب شوقي ضيف، فإن سيبويه "لزم حلقات النحويين واللغويين وفي مقدمتهم عيسى بن عمر، والأخفش الكبير، ويونس ابن حبيب، واختُص بالخليل بن أحمد، وأخذ منه كل ما عنده في الدراسات النحوية والصرفية، مستملياً ومدوناً، واتبع في ذلك طريقتين: طريقة الاستملاء العادية، وطريقة السؤال والاستفسار، مع كتابة كل إجابة، وكل رأي يدلي به، وكل شاهد يرويه عن العرب، وبذلك احتفظ بكل نظراته النحوية والصرفية"، وفقا لكتاب "المدارس النحوية".

قرآن النحو... بدون عنوان

إماماً في النحو، هكذا نظر الناس إلى كتاب سيبويه، ووصف أبو الطيب اللغوي (ت351هـ) سيبويه بأنه "أعلم الناس بالنحو بعد الخليل، وألف كتابه الذي سماه الناس قرآن النحو"، كما  ذكر في كتابه "مراتب النحويين".

بدون عنوان وصلنا كتاب سيبويه، وأيضاً بدون مقدمة، وبدون خاتمة، ورأى شوقي ضيف أنه "ربما أعجلته وفاته عن تسميته، كما أعجلته عن وضع مقدمة بين يديه، وخاتمة ينتهي بها"، بل بدأ كتابه مباشرة بقوله "هذا باب علم ما الكلم من العربية"، وينتهي كلامه عند بيان حذف بعض العرب لحروف في بعض الأبنية تخفيفاً على اللسان، ووفقاً لضيف فإنه "لم يأخذ الفرصة الكافية كي يُنقح الكتاب ويخرجه إخراجاً نهائياً"، وأرجع السبب في ذلك وفاته مبكراً.

استحق سيبويه مكانته العالية، لأنه لم يكن "جَمَّاعاً لآراء السابقين فحسب، بل له شخصية قوية ظهرت في ابتداع بعض القواعد، وفي ترتيب الكتاب، حاوياً عناصر الفن كلها، وتبويبه واضعاً كل شيء وما يتصل به معه، وحسن التعليل للقواعد، وجودة الترجيح عند الاختلاف، واستخراج الفروع من القياس الذي امتلأ به الكتاب"، وفقاً للطنطاوي في كتابه "نشأة النحو".

الأثر الممتد

فرض الكتاب نفسه على النحاة، ورغم شظف العيش الذي عاشه سيبويه، فإن النحاة بعده ممن درسوا كتابه استفادوا منه. وبحسب المصادر التاريخية، فإن محمد بن علي النحوي، الشهير باسم "مبرمان النحوي"، أحد الذين صنفوا كتاباً لم يكتمل في شرح كتاب سيبويه، وألف كتاباً في شرح شواهد سيبويه، لكنه يجمع بين الخٌلق المذموم وإلحاحه في مطالبة تلاميذه بالأجر اللازم، ووصفه الشيخ محمد الطنطاوي في كتابه "نشأة النحو" بأن مبرمان "بَعد صيته في النحو، إلا أنه كان غير وقور، ضنينا بالتعليم إلا مع الجزاء المرضي له"، واضطر الطلبة تحملَ أخلاقه لتحصيل ما عنده من علم سيبويه.

وفي كتابه "الوافي بالوفيات"، ذكر صلاح الدين الصفدي أن مبرمان "كان دني النفس، مهيناً، يلح بالطلب من تلامذته، كان إذا أراد الحضور إلى منزله ركب في طبلية من غير عجز به، وربما بال على الحمَّال فيصيح ذلك الحمَّال، فيقول له: احسب أنك حملت رأس غنم. وربما كان يتنقل بالتمر ويحذف الطلبة بالنوى". أي أنه ينهر حامله على الاعتراض، ويسأله: ماذا لو أنك تحمل أغناماً وبالت فوق رأسك، هل كنت تشتكي؟ فلا يجد مع مناقشته طائلاً أو فائدة. بل أنه يأكل التمر ويرمي طلبته بالنوى، فيضجرون في صمت.

 صاحب هذه السيرة العجيبة، كان "غلاماً" آتياً من بلاد فارس (إيران)، لا يجيد نطق اللغة العربية ولا قراءة الحديث النبوي قراءة صحيحة، لكنه تحول إلى صاحب أول كتاب منهجي في النحو 

بعيداً عن سلوكيات المبرمان المحيطة بشرح سيبويه، نقل عبد السلام هارون جملة من أقوال البلاغيين والنحاة والفقهاء في كتاب سيبويه، ما يدل على أثره، منه ما كان من عمرو بن بحر الجاحظ (ت.255هـ) الذي أهدى الكتاب إلى محمد بن عبدالملك الزيات (وزير المعتصم العباسي) قائلاً له "أردت أن أهدي إليك شيئاً ففكرت فإذا كل شيء عندك فلم أر أشرف من هذا الكتاب". وعن أبي عمرو الجرمي أنه قال: "أنا مذ ثلاثون سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه"، مفسراً ذلك بأن "كتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش".

في تحقيقه للكتاب، عدَّ عبد السلام هارون 55 من النحاة واللغويين اشتغلوا على الكتاب، منهم من شرحه، أو شرح مشكلاته ونكته وأبنيته، أو شرح شواهد الكتاب، ومن اختصره أو اختصر شواهده، ومن ألف في الرد والاعتراض عليه.

نهاية مأسوية

مثل أستاذه الخليل، عاش سيبويه فقيراً، وبحسب أحمد بن علي الدلجي في كتابه "الفلاكة والمفلكون" فإن النضر بن شميل، تلميذ الخليل، قال: "أقام الخليل في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين وأصحابه يكتسبون بعلمه الأموال". أما سيبويه الذي ورث هذا الفقر عن أستاذه حدَّثته آماله أن يتجه إلى بغداد، حيث مجالس يحيى البرمكي، وزير الخليفة هارون الرشيد العباسي، فقرر الرحيل إليها ربما يحقق بعلمه الثراء الواسع، لكن المفاجأة الأكثر إيلاماً كانت بانتظاره.

تمثال سيبويه في شيراز

رتب البرمكي لقاءً بين سيبويه بوصفه رائد مدرسة البصرة في النحو، وبين الكسائي كبير مدرسة الكوفة، وقيل إن المكان كان دار البرمكي وقيل قصر الرشيد، وفي اللقاء سأله الكسائي عن مسألة عُرِفتْ بعد ذلك بالمسألة الزنبورية.

وبحسب شوقي ضيف فإن الكسائي سأله: "كيف تقول: قد كنت أظن أن العقربَ أشدُّ لسعةً من الزنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب. قال الكسائي: لحنت، العرب ترفع ذلك كله وتنصبه. فدفع سيبويه قوله، وطال بينهما الجدال، وكان بالباب نفر من عرب الحطمة النازلين ببغداد ممن ليسوا في درجة عالية من الفصاحة، فطلب الكسائي سؤالهم، ولما سُئلوا تابعوه في رأيه، فانكسر سيبويه".

تاريخياً، صوَّب النحاة رأي سيبويه وانتصروا له، وشرح ضيف الموقف بأن "الحق كان في جانبه، لما يقتضيه القياس في هذا الموضوع، ولأنه يطرد الرفع فيه في آي الذكر الحكيم من مثل "ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين"، "فإنما هي زجرة واحدة"، "فإذا هم خامدون"، وكأنها هي وما بعدها مبتدأ وخبر، أما النصب فيكون على الحالية وتوجيهه ضعيف".

انكسر سيبويه، تعبير دقيق وبليغ عمّا أصابه بعد هذه المناظرة؛ حينها منحه البرمكي 10 آلاف درهم، وقرر الرحيل عن بغداد بعدما تحطمت آماله فيها، وبحسب ضيف فقد "ولى وجهه نحو موطنه، غير أن الموت عاجله في شيراز"، و"الأرجح أنه توفي سنة 180 للهجرة". مرقده في شيراز حالياً وهو غير معروف، وعليه حجر أسود. سميت الحارة التي تضم مدفنه بـ"الحجر الأسود" (سَنك سياه، في الفارسية) أيضاً دون أن يعرف الكثير أنها تنتسب إلى سيبويه. 

الرحيل المأساوي لسيبويه وصفته خديجة الحديثي في كتابها "أبنية الصرف في كتاب سيبويه"، بأن "أكثر الأخبار تشير إلى أنه لم يعد إلى البصرة بعد أن خسر المناظرة خجلاً من أهلها الذين كانوا ينتظرون انتصاره وعودته إليهم مرفوع الرأس لا خائباً مغلوباً". ولم يتردد الدلجي في أن يضم سيبويه إلى أستاذه الخليل في قائمة كتابه "الفلاكة والمفلكون"، أي الفقراء المهملون، الذي عني فيه بأخبار هؤلاء البؤساء الأوفر علماً وأقل حظاً في الكسب والرزق.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image