طقوس الموت الغريبة والثلج والأفاعي… عجائب رحلة ابن فضلان التي ألهمت هوليوود

شغلت أخبار الرحلات حيزاً مهماً من الذاكرة الإسلامية الجمعية عبر القرون. لسنوات طويلة، خرج العديد من الرحالة المسلمين خارج الحدود الاعتيادية للدول الإسلامية، فتنقلوا شرقاً وغرباً، وزاروا الكثير من المناطق المجهولة والنائية. لاقت أخبار تلك الرحلات اهتماماً متزايداً على كافة المستويات، واحتفظت المدونات التاريخية بالعديد من التفاصيل المهمة لتلك الرحلات، وهي التفاصيل التي أمدّتنا بقدر وافر من المعارف والمعلومات عن هوية الشعوب القديمة، وعاداتهم الثقافية، وطبائعهم الاجتماعية.

في هذا السياق، كانت رحلة أحمد بن فضلان في القرن الرابع الهجري، واحدة من أهم وأشهر الرحلات التي قام بها الرحالة المسلمون القدامى في بلاد الصقالبة وروسيا ومملكة الخزَر. ما هي الظروف التي تزامنت مع وقوع تلك الرحلة؟ وما هي أهم الأوصاف التي تركها ابن فضلان للشعوب والمناطق التي مرّ بها؟ وكيف مثلت الرحلة مصدر إلهام لبعض الفنانين والسينمائيين في العصر الحديث؟

ما قبل الرحلة

في السنوات الأولى من القرن الرابع الهجري/عشرينيات القرن العاشر الميلادي، أرسل ملك الصقالبة بعثة دبلوماسية إلى الخليفة العباسي المقتدر بالله. عملت البعثة على توطيد العلاقة بين الصقالبة والمسلمين، وطلب أعضاؤها من الخليفة أن يرسل ببعض الدعاة للشعب الصقلبي لشرح أصول الدين الإسلامي. كما طلبوا المساعدة في إقامة مجموعة من الحصون الحدودية التي تقيهم شرّ جيرانهم الذين يعيشون في مملكة الخزر اليهودية.

وصف ابن فضلان بعضَ مظاهر الحياة الحيوانية الغريبة عن المجتمعات الإسلامية في الشرق الأدنى؛ فأظهر دهشته الكبيرة من وجود بعض الحيّات العظيمة الحجم، والتي يقترب حجمها من حجم بعض الأشجار

في سنة 309هـ، وافق الخليفة المقتدر على طلبات البعثة، فاختار أربعة من الرجال المسلمين للانطلاق شمالاً لبلاد البلغار والصقالبة، هُم سوسن الرسي، مولى نذير الخرمي، وتكين التركي، وبارس الصقلابي، وأحمد بن فضلان، الذي قام في ما بعد بتدوين تفاصيل الرحلة في كتاب. قُدر لهذا الكتاب أن يشتهر بشكل كبير بين العامة والخاصة، حتى قال فيه ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان": "وقصة ابن فضلان وإنفاذ المقتدر له إلى بلغار، مدوَّنة معروفة مشهورة بأيدي الناس، رأيت منها عدة نسخ".

وقائع الرحلة

ذكر ابن فضلان التفاصيل الدقيقة التي مرّ بها الوفد العباسي منذ خروجه من العاصمة العباسية بغداد، في يوم الخميس الموافق الحادي عشر من شهر صفر سنة 309هـ، وحتى وصوله إلى ملك الصقالبة بعد أحد عشر شهراً من السفر والترحال من مكان لأخر. خلال عرضه تلك التفاصيل، تحدث ابن فضلان عن المدن الكبرى التي مرّ بها في الرحلة، كما دوّن أهمّ ما لفت نظره ولاحظه.

بدأت ملاحظات ابن فضلان المثيرة للاهتمام في آسيا الوسطى، وهي المنطقة التي عرفها العرب والمسلمون في ذلك الوقت باسم بلاد ما وراء النهر. تحدث ابن فضلان عن الصقيع الشديد الذي قابله للمرة الأولى عند نهر جيحون فقال إن النهر قد جمد "من أوله إلى آخره". حتى كانت "الخيل والبغال والحمير والعجل تجتاز عليه كما تجتاز على الطرق. وهو ثابت لا يتخلخل".

أبدى الرحالة المسلم تعجبه من البرودة الشديدة التي شعر بها في تلك الأنحاء عندما وصف تلك النواحي بقوله: "فرأينا بلداً ما ظننا إلا أن باباً من الزمهرير قَدْ فُتِحَ عَلَيْنا منه، ولا يسقط فيه الثلج إلا ومعه ريح عاصف شديدة". كما أظهر ابن فضلان نباهةً ملحوظة عندما ربط بين العوامل الجغرافية والجوية الصعبة السائدة في تلك المناطق من جهة، والعادات الاجتماعية المنتشرة بين أهلها من جهة أخرى، إذ قال: "وإذا أتحف الرجل مِن أَهلِه صاحبه، وأراد برّه، قال له: تعال إلي حتى نتحدث فإنَّ عندي ناراً طيبة. هذا إذا بالغ في برّه وَصِلَتِهِ".

بعدها، تطرق ابن فضلان للحديث عن بلاد الصقالبة، فذكر بعض المشاهدات العجيبة التي اختلطت فيها الحقيقة بالخيال. من ذلك قوله إن النهار يكون طويلاً جداً في أحد فصول السنة، ثم تنقلب الآية ويطول الليل في الفصل اللاحق. كما وصف احمرار السماء قبل المغرب، وتزامُنَ ذلك مع صدور بعض الأصوات والهمهمات الغريبة، وظهور بعض الاشباح التي تقاتل بعضها بعضاً. وهو المشهد الذي فسره ملك الصقالبة لابن فضلان بأنه حرب بين الجنّ المؤمن والجن الكافر!

كذلك وصف ابن فضلان بعض مظاهر الحياة الحيوانية الغريبة عن المجتمعات الإسلامية في الشرق الأدنى؛ على سبيل المثال أظهر الرحالة المسلم دهشته الكبيرة من وجود بعض الحيّات العظيمة الحجم، والتي يقترب حجمها من حجم بعض الأشجار! كما تعجب من كثرة الأفاعي وانتشارها بين الناس، فذكر أنه قد سأل بعض الصقالبة عن ذلك الأمر، وأن أحدهم قال له إن تلك الأفاعي غير مضرة، وأنها لا تهاجم إلا من يهاجمها.

داعبت رحلة أحمد بن فضلان مُخيلة الكثير من الفنانين والسينمائيين في العصر الحديث.

على الصعيد الثقافي، تحدث ابن فضلان عن طبائع الشعب الصقلبي الذي اعتنق الكثير من أفراده الدينَ الإسلامي في تلك الفترة. وذكر أن بعض الصقالبة قد اعتنق الإسلام على يديه هو شخصياً. برغم ذلك، أنكر الرحالة العباسي بعضَ العادات المخالفة للشريعة الإسلامية، منها قيام الرجال والنساء بالنزول عراةً للنهر للاغتسال مع بعضهم بعضاً.

لم يكتف ابن فضلان بوصف طباع الصقالبة فحسب، بل شرع أيضاً في التطرق لعادات الروس الذين قابلهم في المناطق التي مرّ بها؛ على سبيل المثال، ذكر أن التجار الروس عندما يرجعون من السفر ويصلون لبلادهم، يذهبون لمجموعة من الأوثان الخشبية ويقدمون لها الهدايا والنذور، ويطلبون منها الربح الوفير، فيقولون: "يا رب قد جئتُ من بلدٍ بعيد، ومعي من الجواري كذا وكذا رأساً، ومن السمور كذا وكذا جلداً... أريد أن ترزقني تاجراً معه دنانير ودراهم كثيرة، فيشتري من كل ما أريد ولا يخالفني فيما أقول".

من جهة أخرى، أبدى الرحالة المسلم امتعاضه من بعض العادات اليومية التي مارسها الروس بشكل اعتيادي ولم يروا فيها بأساً. من تلك العادات أنهم "لا يغتسلون بعد قضاء الحاجة، ولا بعد الجماع، ولا يغسلون أيديهم بعد الأكل"، ومنها، ما درجوا عليه من ممارسة الجنس مع جواريهم أمام أنظار بعضهم بعضاً دون حياء أو خجل. في السياق نفسه، تحدث ابن فضلان عن عادة الروس في البصق بشكل جماعي في إناء الماء الذين يغسلون منه وجوههم كل يوم.

تُعدّ طقوس الموت والجنازة عند الرّوس من بين المشاهدات المهمة التي احتفظ ابن فضلان بالكثير من تفاصيلها في كتابه. ذكر الرحالة أنه عندما يموت أحد زعماء الروس فإنه يتم اختيار إحدى جواريه للموت معه. وبعدها يتم تقسيم تركة المتوفى لثلاثة أقسام؛ الأول لأسرة المتوفى، والثاني لإعداد الجنازة، والثالث لشراء النبيذ الذي سيتناوله الحاضرون في الجنازة. وفي يوم الجنازة، يقوم أصدقاء المتوفى بمضاجعة الجارية واحداً بعد آخر، تعبيراً عن حبهم للمتوفى. ثم تقوم امرأة عجوز يعرفونها باسم "ملك الموت" بقتل الجارية طعناً بالسكين، ثم يضعون جثمانها مع جثمان "سيدها" المتوفى في مركب، ويرشقون المركب بالسهام النارية بعد ذلك حتى تحترق أمام ناظريهم.

لم ينس ابن فضلان كذلك أن يدون بعض الأخبار المهمة التي تناولت الأوضاع السياسية في تلك الأصقاع النائية؛ من ذلك أن ابن ملك الصقالبة كان رهينة عند ملك الخزر، وأن الأخير كان يقوم بالزواج من بنات الملوك والأمراء المجاورين لحكمه، حتى يضمن خضوع تلك المناطق بشكل مطلق لسلطته. وأنه -أي ملك الخزر- بلغ من العظمة والقوة ما جعله يفرض على رعاياه إن مرّ موكب الملك على أحدٍ، خرّ ساجداً من فوره، ولا يرفع رأسه حتى يمرّ الموكب. ويشير الرحالة المسلم لمفارقة غريبة، وهي العادة التي ألفها الخزر بأنهم يسلموا الحكم لملكهم لمدة لا تتعدى الأربعين سنة، فإذا زاد أجله عن تلك المدة انتفضت الرعية وقتلته خشية "نقص عقله، واضطراب رأيه".

في السينما والدراما

داعبت قصة رحلة أحمد بن فضلان مُخيلة الكثير من الفنانين والسينمائيين في العصر الحديث. وجد هؤلاء في التفاصيل الدقيقة لتلك الرحلة ما أغراهم لتقديمها في عدد من الأعمال السينمائية والدرامية. في سنة 1999، تم تجسيد رحلة ابن فضلان سينمائياً للمرة الأولى في فيلم هوليوودي شهير، هو "المحارب الثالث عشر" (The 13th Warrior) من إخراج جون مكتيرنان، وهو مُقتبس عن رواية "أكلة الموتى" لمايكل كرشتون، المقتبسة من رحلة ابن فضلان. في هذا الفيلم، جسد الممثل الإسباني أنطونيو بانديراس دور أحمد بن فضلان. كما شارك في بطولته كل من الممثلة الأمريكية ديان فينورا، والممثل المصري الراحل عمر الشريف.

طقوس الموت والجنازة عند الرّوس هي من بين المشاهدات المهمة التي احتفظ ابن فضلان بالكثير من تفاصيلها في كتابه. ذكر الرحالة أنه عندما يموت أحد زعماء الروس فإنه يتم اختيار إحدى جواريه للموت معه

أظهر الفيلمُ ابنَ فضلان في صورة محارب عربي شجاع ينضمّ لصفوف بعض المقاتلين الروس في حربهم ضد القبائل "الهمجية" التي اعتادت أن تقوم بمذابح دموية في الأماكن التي يمرون بها. بطريق غير مباشر، أوضح الفيلم الفوارق الحضارية الكبيرة التي باعدت بين المسلمين وسكان الشمال. كما بيّن التقدم الكبير الذي وصلت له الثقافة الإسلامية في تلك الفترة التاريخية. كذلك، اهتم الفيلم بتسليط الضوء على الصعوبات الكبيرة التي قابلت ابن فضلان أثناء عمله على التأقلم مع الظروف المناخية الصعبة التي لم يعتد عليها من قبل. وكيف أنه تمكن من تعلم لغة أهل الشمال من خلال الملاحظة والإنصات الدائم لحديثهم.

على الرغم من الآمال الكبرى المعقودة على ذلك المشروع، فقد مُني بفشل تجاري فادح في شباك التذاكر داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، حيث بلغت ميزانية الفيلم ما يقرب من الخمسة وثمانين مليون دولار، فيما لم تتعد أرباحه الخمس والستين مليون دولار.

من الملاحظات المهمة التي ينبغي الإشارة إليها في سياق الحديث عن التناول الدرامي لرحلة ابن فضلان، هي أن الاضطراب الكبير حول تحديد الأماكن التي زارها ابن فضلان في رحلته، وعدم إمكانية التفرقة الدقيقة بين شعوب الصقالبة والخزر والروس الواردة في تلك الرحلة، قد تسببا في أن الرحلة صارت مصدراً لفهم الكثير من التفاصيل الخاصة بشعوب الشمال بشكل عام. بناءً على ذلك، لم يكن من الغريب أن نجد أن رحلة ابن فضلان قد عُدّت أحد المراجع الأساسية في المسلسل الكندي الآيرلندي "فايكنغز" (Vikings)‏، والذي بدأ عرضه سنة 2013، واستعرض، عبر مواسمه الستة، رحلةَ صعود قوة الفايكنغ، واجتياحهم لبريطانيا، وصراعهم مع الروس والصقالبة والفرنجة.