"الما عندو أهل يِسويلُه أهل من طين"؛ بهذه المقولة السودانية الشعبية يعبر الفنان أحمد عمر عن جوهر تجربته الفنية والحياتية، حيث يُحوِّل الطين إلى أداة تُجسد رحلته الإبداعية والشخصية.
نشأ أحمد عمر بين السودان ومكة، ومن ثم انتقل إلى النرويج طالباً اللجوء في العشرين من عمره.
يُعد أحمد عمر (37 عاماً) أحد أبرز الفنانين السودانيين والذي يتميّز بتعدد التخصصات، فقد تضمنت خبرته الفنية أعمالاً من النحت، التلوين، التصوير الفوتوغرافي، وفنون الأداء والرقص، وحتى تصميم الأزياء والمجوهرات.
بالرغم من كل التحديات، تتميز أعمال أحمد عمر بارتباطها العميق بالثقافة السودانية، حيث يقدم سردياته الفنية عبر ما يلهمه من الفنون التقليدية والنقوش الإسلامية في مزيج فريد بين الحداثة والتراث.
البدايات: الفن كملاذ
نشأ أحمد عمر في كنف أسرة فنية محافظة. فكان والده موهوباً في الخط العربي، وكانت تُبدع والدته في نقش الحناء. أثرت هذه البيئة في تشكيل موهبته الفنية منذ الصغر.
يقول أحمد لرصيف22: "بدأت الرسم مع بداية تعلُمي أن أًمسك القلم. أعتقد أنني ورثت جينات الفن من والديّ، فهما فنانان بالفطرة. أعتقد أنه في حال توفّرت لهما الظروف الملائمة، لكان أبي اليوم من أهم الخطاطين، وكانت أمي مشهورة برسم الحناء، كما أنها تمتلك ذوقاً رفيعاً في اختيار وتنسيق الأزياء".
"لم أحتمل أن أكون مسؤولاً عن إرضاء كل من حولي والتضحية بسعادتي وأحلامي بل وحتى هويتي"
ويضيف: "منذ صغري، وجدت في الرسم ملاذاً آمناً، فقد فضّلته على الانخراط في الحياة الاجتماعية المليئة بالقيود والتنمر. حتى اليوم، تظل علاقاتي الاجتماعية محدودة، لكن شغفي بالفن لطالما كان بوصلتي. كان الرسم الشيء الوحيد الذي لم يُقابَل بالنقد من أحد، بل على العكس، كنت أتلقى الجزيل من التشجيع والإطراء على موهبتي. كان الرسم مساحتي التي أكون حراً فيها ويتقبلها الجميع دون أحكام، وكنت أردد بثقة منذ طفولتي: أريد أن أكون فناناً طوال حياتي".
ويستطرد قائلاً: "في بلد سيئ الحظ مثل السودان، لا يطعم الفن خبزاً. عند إقبالي لدراسة المرحلة الجامعية، تعالت 'أصوات المنطق' محاولةَ إقناعي باختيار مجال دراسي من شأنه ضمان حياة كريمة لي، فتعرضت لضغوط كبيرة من أجل الالتحاق بكلية الهندسة، حتى رضخت. لم أستطع تجاهل شغفي الحقيقي، فتركت الهندسة سراً بعد عدة أشهر من القهر، وبدأت الدراسة بكلية الفنون، حيث تفوقت، وكنت الأول على دفعتي منذ البداية".
وعن التحديات التي واجهها، يقول أحمد عمر: "نشأت في كنف عائلة محافظة في وسط مجتمع كان من الانغلاق والصرامة بمكان. و كلما ازددت عُمراً، كلما ازددت وهناً وضعفاً، وكلما قلت قدرتي على احتمال عيش حياة مزيفة أكون فيها آخر من يملك قرارها. لم أحتمل أن أكون مسؤولاً عن إرضاء كل من حولي والتضحية بسعادتي وأحلامي بل وحتى هويتي. هوَت بي تلك الظروف إلى درك سحيق من الاكتئاب وعدم الرغبة في الحياة بمجملها. لأخرج نفسي من تلك الهوة، اتخذت القرار بمغادرة السودان لمعترك أكثر عدلاً في النرويج، حيث خضت تحديات الحياة والفن بكل إصرار".
ويشير عمر إلى أن أحد الأسباب التي حفزته للاستمرار في طريقه كانت الناشطة سارة حجازي، والقصص المؤثرة التي وصلته بعد رحيلها: "إحدى تلك القصص تركت أثراً عميقاً في داخلي، وأصبحت دافعاً لي لمواصلة هدفي في الحياة. رغم كل التحديات، لطالما أردت أن أترك أثراً إيجابياً على حياة الآخرين".
القصص في الفن
يتحدث أحمد عمر عن فلسفته الفنية قائلاً: "ترتكز ممارستي الفنية على سرديات قصصية تنبع في غالبها عن حياتي الشخصية وتأثري بالأحداث التي عايشتها، وحتى بالأمور التي أسعى لتغييرها. أعتبر فني وسيلة لتسليط الضوء على تلك التجارب أو نوعاً من التوعية، ليصبح نافذة يمكن من خلالها فهم ما مررت به، خاصة فيما يتعلق باختلافي الجنساني عن المجتمع وما يتبعه من تبعات".
ويضيف: "بينما يستطيع البعض التعبيرَ بالكلمات أو الكتابة أو صناعة الأفلام، وجدت أنا أن لغتي الحقيقية هي اللغة الجسدية والفن البصري. أعبر من خلالهما بكل طاقتي، وأهتم باختيار المواد والخامات التي تتماشى مع الرسالة التي أود إيصالها، لأن كل تفصيلة في العمل تمثل جزءاً مهماً من القصة".
"أشعر بارتباط عميق بكل ما هو سوداني. أعشق هذا الوطن بكل تفاصيله؛ طبيعته، أرضه، إرثه الثقافي، بل وحتى لهجاتنا ومصطلحاتنا الشعبية"
ويُعطي أحمد مثالاً من التراث السوداني: "في أواسط الجزء الشمالي من السودان، كان ينتشر طقس 'رقيص العروس'، أحد أعرق طقوس الزواج التقليدية في السودان. وفي رأيي، أجملها. ترقص العروس بكل فخر أمام الحضور: أهلها، زوجها، أنسبائها المستقبليين، و قديماً أمام كل أهل القرية. كانت ترتدي العروس تنورة من الجلد المشرشر، كاشفة الصدر، تزينها الكثير من عقود من الذهب و الخرز. لم يكن جسد المرأة الراقص مسرحاً لبطولات الرجال و 'شرفهم' حتى النصف الأول من القرن البائد. إلى أن سُمِّمت النظرة العامة للرقص بحيث أودت به إلى شبه الخفاء، أو تدثير العروس بفساتين مزركشة إلى جانب حصره بالنساء فقط".
ويضيف أحمد: "بعد بلوغي العاشرة تقريباً، حرمتُ من حضور رقص إحدى قريباتي لكوني ذكراً. لم أستسلم، فاختبأت مع ابنة خالي في الشرفة وشاهدنا سحر ذلك الطقس. كانت تلك إحدى اللحظات التي أثرت فيّ بعمق وتركت أثراً في تجربتي الفنية. أثراً تعاظمَ حتى ألهمني لأداء الرقصة بأكملها، وبزيّ تراثي صنعتُه محاكياً زيّ جدّاتي. قدمت هذه 'التجربة' الفنية ببينالي البندقية للفنون للعام 2024 وقامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن".
التراث السوداني في الفن
على الرغم من رفض المجتمع لاختلافه، يظل أحمد عمر متمسكاً بتراثه السوداني ويعكسه بوضوح في أعماله الفنية: "أشعر بارتباط عميق بكل ما هو سوداني. أعشق هذا الوطن بكل تفاصيله؛ طبيعته، أرضه، إرثه الثقافي، بل وحتى لهجاتنا ومصطلحاتنا الشعبية".
ويتابع بالقول: "أفخر بهذا التراث الغني، وأعتبره جزءاً أصيلاً من هويتي وتكويني. ومن حقي كأي سوداني آخر أن أستلهم منه وأجعله نبضاً حاضراً في أعمالي الفنية".
"استلهمت عنوان المشروع من المثل الشعبي 'شايل وش القباحة'، الذي يُقال لوصف حال الشخص الذي يتجرأ على كسر المحرمات والوقوف في وجه السائد وما يُقابل به من هجوم ونقد. وهو ما يعبر بدقة عن حالتي عند تعرضي للتنمر بعد إعلاني عن ميولي"
ويضيف: "أحب تنوع الثقافات في بلدي، وتعزّز تعلّقي بها من خلال حياتي وسط المجتمع السعودي. وبعد انتقالي إلى أوروبا، أصبحت مشاعري تجاه أهلي وأرضي أكثر وضوحاً وقوةً. لقد زرت السودان عدة مرات بصفتي فناناً كويرياً، وتمكنت من تنفيذ مشروعَين فنيَين يعكسان هذا الارتباط الوثيق".
يصف أحمد مشروعه الأول قائلاً: "مشروع 'شايل وش القباحة' يمثل محطة هامة في مسيرتي الفنية. يعكس المشروع تجربتي الشخصية وما واجهته بعد إعلاني عن ميولي المثلية وظهور موجة من ردود الأفعال التي تشكك في تأثير، بل أيضاً وجود مجتمع الميم-عين في السودان، معتبرة أنني تأثرت بالغرب وأن خطوتي تلك لا تمثل القيم السودانية، بل وصفتها بالعمل الشنيع الذي لا يجرؤ أحد 'منّا' على القيام به".
ويوضح عمر أن المشروع يسلط الضوء على ثمانية سودانيين وسودانيات يعيشون داخل السودان ويمثلون جزءاً فاعلاً ومؤثراً في محيطهم، ولكنهم يُجبرون على التخفي بسبب عنف المجتمع: "استلهمت عنوان المشروع من المثل الشعبي 'شايل وش القباحة'، الذي يُقال لوصف حال الشخص الذي يتجرأ على كسر المحرمات والوقوف في وجه السائد وما يُقابل به من هجوم ونقد. وهو ما يعبر بدقة عن حالتي عند تعرضي للتنمر بعد إعلاني عن ميولي. أجريت مقابلات مع هؤلاء العظماء، حيث تحدثنا عن أحلامهم ورؤاهم للسودان. عُرضت هذه المقابلات برفقة صورة فوتوغرافية لنا معاً، وفي الصورة، قمت بإعاراتهم وجهي المعروف مسبقاً لتغطية وجوههم وحمايتهم من الملاحقة الأمنية".
وعن مشروعه الثاني، يقول أحمد: "كان هذا المشروع بمثابة تكريم للثائرات السودانيات اللاتي لعبن دوراً محورياً في ثورة شعبنا الأخيرة. وقفت السودانيات كتفاً لكتف مع الرجال في كل تغيير سياسي أو اجتماعي حدث في البلد. وجرت العادة أن يقوم الرجال بالاستفراد بمقاعد السلطة والحكم و إقصاء النساء من المناصب الحيوية. قدمت سلسلة من البورتريهات لنساء سودانيات شاركن في الثورة بكل شجاعة وإصرار وحرصت على تصويرهن وهنّ يرتدين الزي السوداني التقليدي الخالي من تأثير الوهابية على أزيائنا".
يؤكد أحمد عمر أن رفض مجتمعه الأم له ولفنه لم ولن يقف عائقاً أمام شغفه للاستمرار: "عدم تقبّل التنوع الجنساني أو الاختلاف بصورة عامة، أمر شائع في مجتمعات منطقتنا. لم أكن أتوقع أو أرجو أن يتقبلني المجتمع السوداني كما أنا. أدركت أن ذلك صعب المنال منذ طفولتي، عندما شهدت آخرين قوبلوا بالرفض والتعنيف فقط لأنهم خالفوا ما يعتبره المجتمع مقبولاً أو مألوفاً".
ويضيف أحمد: "لم أكن في حاجة إلى إثبات ذلك الرفض، فالأدلة نعيشها يومياً، لكن حدثت معي قصة أجدها بائسة لدرجة كوميدية. في أحد الأيام، وبينما كنت في أحد المصايف المطلة على البحر الأحمر، قام أحدهم بنشر إشاعة عن وفاتي في حادث مروري ذكره بتفاصيل جعلت الكثيرين يصدقونه. رأيت بعيني كيف احتفى الآلاف بهذا الخبر، مهللين ومكبرين بالنصر العظيم حتى أحبطهم أشد الإحباط بوجودي. ولا أنسى من تغلّبت إنسانيته على أحكام المجتمع، و بادر بكل الحب و الدعم. بهم أستمد قواي".
ويواصل أحمد حديثه قائلاً: "أحلم بتغيير النظرة السلبية تجاه الكويريين في السودان، وأن تزول الغشاوة التي أدت إلى تفريقنا كشعب ومجتمع يتميز بثرائه في التنوع. أما على المستوى الشخصي، فأنا لست ممن يخجلون من التصريح علناً عن أحلامهم. أطمح أن يصبح اسمي من بين الأسماء العالمية البارزة في الفنون، وأن يذكر اسمي في التاريخ بما أفخر به: فنان متميّز ذو رسالة سامية، سودانيّ وكويري".
و يتحدث أحمد عن تجربته في النشاط العام قائلاً: "مع مرور الوقت، لفت انتباهي أن حياتي أصبحت تحت الأضواء، وأن كل خطوة أقوم بها سوف تخضع للتدقيق وحتى المحاسبة. وجدت نفسي مدفوعاً بطريقة ما لإبداء رأيي في ما يخصنا من القضايا المجتمعية. صحيح أن هذا قد يعرضني للمضايقات، هي مسؤولية لم أسع وراءها، لكنها في الوقت نفسه فرصة للتأثير الإيجابي".
الرؤية نحو المستقبل
لدى أحمد العديد من الأحلام ورؤية واضحة نحو المستقبل: "كلما نضجتُ، أدركتُ أنني لم أُخلق للعيش في أوروبا، على الرغم من أن لأوروبا الفضلَ الكبير في مساعدتي على استكشاف نفسي بكل جوانبها. أحلم بالعودة إلى السودان وإنشاء متحف للفن المعاصر في قلب الخرطوم، وأن تزدهر الحياة الفنية، وأن يرى العالم من نحن عبر ما نقدمه من فنون".
"أطمح أن يصبح اسمي من بين الأسماء العالمية البارزة في الفنون، وأن يذكر اسمي في التاريخ بما أفخر به: فنان متميّز ذو رسالة سامية، سودانيّ وكويري"
ويضيف: "حق الحياة الكريمة للجميع بلا استثناء. لا أحد يأخذ رزقَ أو عملَ أو حبَّ الآخر. لكل إنسان فرصته المكافئة تماماً لفرصة غيره. أطمح أن نعيش بسلام، وأن نأخذ تنوعنا كسودانيين كما يجب أن يكون: قوتنا".
هذا ويختم حديثه قائلاً: "أتمنى أن تنتهي الحروب ويرتاح الشعب السوداني من التشرد والمعاناة، حتى نستطيع بناء وطننا الذي نحب كما نحب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
KHALIL FADEL -
منذ يومراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ يومعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ 5 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري