شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
كتبٌ تتكلّم... وقرّاء في قطار طائر

كتبٌ تتكلّم... وقرّاء في قطار طائر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 9 يناير 202511:50 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.  

لأتخيّل النشر في المستقبل، وأحكي لكم عنه، سأضطرّ إلى تقسيم مخيّلتي إلى عالمين متوازيين: عالمٌ في شمال أميركا وأوروبا حيث الإمكانيات الهائلة والابتكار السريع كقطار طائر، وآخر في العالم العربي، حيث التحديات أكبر والطموحات أصعب تحقيقاً. وما بين العالمين، قد أتجرّأ على تخيّل شخصية تكون بمثابة بطل عالم النشر العربي أو ربما بطلته، تحمل القطاع إلى مستوى عالمي وتقدّم نموذجاً مختلفاً لما يمكن أن يكون عليه النشر في منطقتنا. ربما أبدو حالمة بشكلٍ زائد، لكن الخيال يُحيي وهو أول خطوة نحو التغيير، كما أن هناك فعلاً أشخاصاً يجتهدون حالياً في سبيل الصناعة، ولسنا ممنوعين من شطحةٍ في الخيال. أقصد، بلى هناك في عالمنا من يمنع الخيال بل هناك من يحاربه حتى، لكن هذا التمرين هو تمرينٌ على تخيّل المستقبل، لا على التركيز في ما يعيقنا أو يمنعنا من اللحاق بالرُكاب العالمي، بل هو محاولة لخلق رؤية لمستقبل مختلف. وعلى مدى هذه الرحلة التي سأرسمها، سنتقدّم ثلاثين عاماً إلى الأمام، لنكتشف كيف يمكن أن يتغيّر شكل النشر ويعيد تشكيل علاقتنا مع الكتب ومع أنفسنا أيضاً.

ربما أبدو حالمة بشكلٍ زائد، لكن الخيال يُحيي وهو أول خطوة نحو التغيير، كما أن هناك فعلاً أشخاصاً يجتهدون حالياً في سبيل الصناعة، ولسنا ممنوعين من شطحةٍ في الخيال

كتب تتكلّم وقرّاء يتفاعلون

بدايةً، أي في المستقبل القريب نسبياً، أتخيّل نفسي أحكي مع الكِتاب الذي أقرأه. أعطيه أمراً صوتياً بأن يشرح لي معنى كلمة لست متأكدة من معناها، أو يقرأ لي مقطعاً بصوتٍ واضحٍ وعذب، أو يسجّل ملاحظاتي إلى جانب الفقرة المعنيّة في النص، ويناقشني فيها، وقد يرسل حتى رسالة إلى الكاتب نيابةً عني، ينقل له فيها استفساراً أو تعليقاً مُحباً أو غيرهما.

أتخيّل أيضاً مئات الملايين ينامون كل ليلة على صوت قارئ محترفٍ يتلو على مسامعهم كتابهم المفضّل، ذلك أن هناك الآلاف من هؤلاء حالياً، ربما مئات الآلاف حول العالم، فكيف مع مرور السنوات.

ثم تظهر لي صورة ابني يضغط أزراراً يختار فيها أبطاله الخارقين المفضّلين ليجمعهم معاً في قصةٍ يقرأها مباشرةً ويستمتع بها. تظهر لي أيضاً صورة ابنتي تقرأ كتاباً تحبّه من بطولة كلبها وقطّها المفضّلين، فتجدهما إلى جانبها وقد خرجا من القصة. لكن مهلاً، أطفالي قد يكونون في ثلاثينايتهم عندها، ولا أجرؤ حتى على تخيّل أن يكون لهم أطفال يدوسون على تلك الأزرار أو يلاعبون تلك الحيوانات. هل سأكون معهم حينها؟

أتخيّل أيضاً مئات الملايين ينامون كل ليلة على صوت قارئ محترفٍ يتلو على مسامعهم كتابهم المفضّل، ذلك أن هناك الآلاف من هؤلاء حالياً، ربما مئات الآلاف حول العالم، فكيف مع مرور السنوات

مكتبات حية

أتخيّل نفسي جالسة في مكتبةٍ عامة عربيةٍ ضخمة، حيث يمتزج الواقع بالخيال بطريقة تجعل القراءة تجربة متعددة الأبعاد. فبينما أقرأ كتاباً، تتجسد الشخصيات حولي كأطياف ضوئية: "أحدب نوتردام" يتسلل بين الرفوف، و"آنا كارنينا" تجلس على مقعد قريب تتأمل المارة. المكتبة تنبض بالحياة، فكل زاوية فيها تروي قصة، وكل ركن يخبئ سراً. أتخيل رفوفاً ذكية تضيء عندما تقترب منها، تقترح عليك كتباً تناسب مزاجك في تلك اللحظة، وتعرف متى تحتاج إلى الصمت ومتى تريد أن تشارك تجربتك مع الآخرين. وفي قاعات خاصة، يمكن للقراء أن يغوصوا في عوالم الكتب التي يقرأونها، فيشعرون برذاذ البحر في رواية "العاصفة" للوكليزيو مثلاً، ويتنشقون عبق الغابات في روايات موراكامي.

كتبٌ تطوف العالم؟

أما ككاتبة، فأتخيّل نفسي أنهي كتابة روايتي الأخيرة، ثم أضغط على زر، فيُنشر الكتاب بسهولة في لغات متعددة، ليصل إلى القرّاء في كل أنحاء العالم في وقتٍ واحد أحدّده بنفسي. ربما يتم ذلك عبر أمازون، أو عبر منصة جديدة ستظهر لتنافس أخيراً هيمنة أمازون وتعيد تشكيل قواعد النشر العالمي. ورغم هذا الحلم، أظل مؤمنة بأن الإنسان سيبقى أفضل من الآلة في مراجعة النصوص الأدبية، على الأقلّ خلال الثلاثين عاماً القادمة. لن أسمح لنفسي حتى بتخيّل أدبٍ خالٍ تماماً من اللمسة البشرية. لكن، يمكنني تخيّل الذكاء الاصطناعي كمساعد يسهل عملية الترجمة والمراجعة ويقلّل من الوقت اللازم لإصدار طبعات متعددة بلغات متعددة.

في المستقبل القريب نسبياً، أتخيّل نفسي أحكي مع الكِتاب الذي أقرأه. أعطيه أمراً صوتياً بأن يشرح لي معنى كلمة لست متأكدة من معناها، أو يقرأ لي مقطعاً بصوتٍ واضحٍ وعذب، أو يسجّل ملاحظاتي إلى جانب الفقرة المعنيّة في النص، ويناقشني فيها

البلوكتشين: مستقبل حماية حقوق النشر

كناشرة، أحلم بحل جذري لمشكلة القرصنة والتزوير التي تنهك قطاع النشر العربي وتستنزف كل العاملين فيه. في عالمنا، للأسف، قد يكون المقرصن والناشر وجهين لعملة واحدة، والكتاب المقرصن يباع علناً دون خجل أو خوف. لكن تخيّلوا معي كتاباً يحمل في جيناته الرقمية كل تاريخه: كل كلمة كُتبت، وكل تعديل أُجري، وكل مسودة تطورت، موثَّقةً في سلسلةٍ لا يمكن تغييرها أو التلاعب بها. إنها تقنية اليلوكتشين Blockchain التي قد تبدو معقدة، لكنها في جوهرها بسيطة: سلسلة متصلة من المعلومات، كل حلقة فيها تحمل بصمة فريدة لا يمكن تزويرها. أتذكر حين أطلقنا "ناشرون من أجل المهنة" قبل سنوات، كان الحلم بسيطاً ومعقّداً للغاية في الآن نفسه: حماية حقوق الناشرين والمبدعين. اليوم، أرى تقنيات جديدة تجعل هذا الحلم ممكناً في المستقبل، بحيث تصبح كل نسخة من كلّ كتابٍ مرتبطة بسجل رقمي فريد، يمكن التحقق منه بكبسة زر. القرصنة لن تختفي تماماً ربما، لكنها ستصبح عندها أصعب وأكثر كلفة، وسيصبح كشف المقرصنين أسهل وأسرع.

كناشرة، أحلم بحل جذري لمشكلة القرصنة والتزوير التي تنهك قطاع النشر العربي وتستنزف كل العاملين فيه.

في هذا المستقبل، لن يستطيع أحد أن يدّعي ملكية نص ليس له. فكل قصة تحمل بصمة مبدعها الأصلي، كل فكرة تحتفظ بتوقيع صاحبها الأول. تخيّلوا نهاية عصر سرقة الإبداع، حيث لا يمكن لأحد أن يحصد ثمار تعب غيره، ولا نعود نسمع عن جائزةٍ قد تُمنح لنصٍّ مسروق. عندها، سيكون ممكناً تتبّع رحلة الكتاب من فكرته الأولى إلى شكله النهائي، كمن يتتبع مسار نهر من منبعه إلى مصبه. كم ستفضح هذه التقنية من المدّعين!

نحو استدامة بيئية

أتخيّل جهاز هولوغرام دائرياً يعرض الكتاب بأشكاله المختلفة: نسخة عادية، نسخة مصوّرة، نسخة إلكترونية، ونسخة صوتية. الورق قد لا يكون له مكان في هذا المستقبل، مما يقلّل من الأثر البيئي لصناعة الكتب، لا سيما لناحية إزالة الغابات، واستهلاك المياه، وإنتاج النفايات. قد لا يُعجَب المدافعون عن رائحة الورق بفكرةٍ كهذه، إلا أن المستقبل يحتاج إلى حلول أكثر استدامة. خطوة كهذه قد تغيّر وجه النشر تماماً، لكنها تفتح المجال أيضاً لنقاشاتٍ ثرية حول ما نخسره مقابل ما نكسبه.

الكتابة مباشرة من الدماغ

وبضغطٍ إضافيّ على موصلات دماغي العصبية، أتمكّن أخيراً من تخيّل ظهور تلك التقنية المنتظرة التي تسمح للمؤلفين بأن يصيغوا أفكارهم مباشرةً من دماغهم ويحوّلوها إلى فايلٍ رقمي. قد يتم ذلك عبر واجهاتٍ عصبية تترجم الصور الذهنية والمشاعر إلى نصوص وصور. تخيّلوا معي أشكال الأدب الجديدة التي قد تنتج عن ذلك. ماذا يحدث إذا مزجنا الأحلام والخيال مع الكتابة؟ وهل سينتج عن ذلك انتفاء الحاجة إلى الناشر، وبالتالي زواله؟

لكن من يعلم، لعلّنا سنقرأ كتباً ونحن نركب قطاراً طائراً، وقد يكتب الرواة ذاك المشهد المتكرّر الذي يكون فيه الراوي أو البطل/ة في قطار، لكنه هذه المرة سيكون قطاراً طائراً

لعلّ الخيال عندي متشبّثٌ بما يمكن تحقيقه، على حساب التفلّت التام من القيود واختراع عالمٍ بديلٍ كامل. هكذا هم الكتّاب المتعلّقون بالواقع، يجدون صعوبةً في تخيّل ما يفوق قدراته الحالية بكثير. لكن من يعلم، لعلّنا سنقرأ كتباً ونحن نركب قطاراً طائراً، وقد يكتب الرواة ذاك المشهد المتكرّر الذي يكون فيه الراوي أو البطل/ة في قطار، لكنه هذه المرة سيكون قطاراً طائراً.

في النهاية، ليس المستقبل سوى تكرارٍ للحاضر مع بعض النكهات المضافة، حتى تأتي اختراعاتٌ مزعزِعة يكون التكرار قد وصل معها إلى حدّه وأنتج انحرافاً كاملاً في المسار، لكن ذلك سيستغرق أكثر من ثلاثين عاماً على الأرجح لا سيما أننا ما زلنا في بداية مرحلة الذكاء الاصطناعي. وعندها، سنجد أنفسنا مندفعين مرة أخرى نحو مستقبل لا يشبه إلا أحلامنا الأكثر جرأة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image