شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
القراءة التي تودي إلى الجنون

القراءة التي تودي إلى الجنون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 7 مارس 202411:46 ص

مرحباً عزيزي، هل تريد أن تصبح كاتباً؟ لا تخف، الأمر لا علاقة له بالموهبة أو الهواية، فقط اتبع الخطوات التالية: اذهب إلى المرآة وسرّح شعرك بطريقة عبثية متطايرة. يمكنك فعل ذلك بدون مرآة، يمكنك ألا تسرّح شعرك أصلاً. البس بنطلوناً أحمر وقميصاً أصفر وحذاء أخضر. ضع على رأسك بيريه... ليست لديك واحدة؟ (لا ما بينفع، لازم بيريه).

ابتع علبة سجائر حتى لو كنت لا تدخّن، فهذه ضرورة إبداعية. شارك كتاباتك التي لا يفهمها غيرك على فيسبوك. لا تستحم. امشِ في السوق محدّقاً في الفراغ كأبله. تصرّف بغرابة. تحدّث مع نفسك في الأسواق بصوت عالٍ، ومع الباعة بجمل فلسفية. غازل كل امرأة تحادثها بوقاحة فصيحة. اجلس في المقهى واطلب فنجان قهوة، لا، ليس متة ولا شاي. حدّق في الأفق باستمرار وأنت تمجّ من سيجارتك بعمق. خربش على دفتر تخرجه من جيب سترتك الداخلي بقلم حبر جاف أيّ هراء، بينما تنفث الدخان من منخريك وأذنيك كقطار الفحم.

مبروك، لقد أصبحت كاتباً مبدعاً في نظر الجميع، إذ لن تجد من يؤمن بإبداعك دون أن تقنعه بأنك مجنون!

اعتقاد قديم

منذ مدة بعيدة وسمة الجنون أو غرابة الأطوار مرافقة للكتاب والشعراء، إذ لم يستطع العامة تقبل كون كل هذا الفيض من الإبداع نتاج عقل بشري سوي، ففي الجاهلية قيل إن الشعراء يكلمون الجنّ والشياطين، وقيل إنه كان لكل شاعر مخضرم شيطانه أو قرينه من الجن، يحادثه ويملي عليه ما يقول من الشعر، إذ لا يجوز أن يحوز المرء موهبة أكثر من البقية.

هذه الشياطين سكنت أرضاً تسمى وادي عبقر، والذي منه اشتقت كلمة عبقريّ، المستخدمة حتى أيامنا في وصف الإبداع الفذّ والملفت، والتي يرادفها في اللغة الإنكليزية كلمة " "geniusو "genii"، المشتقتان بحسب المصادر من أصل عربي هو "الجن".

منذ مدة بعيدة وسمة الجنون أو غرابة الأطوار مرافقة للكتاب والشعراء، إذ لم يستطع العامة تقبل كون كل هذا الفيض من الإبداع نتاج عقل بشري سوي

لماذا يصنف الكتّاب في خانة المجانين؟

إذا ما أردنا تعريف الجنون استناداً إلى اللغة يكون معناه "ستر العقل واحتجابه" أو "القيام بسلوك غير طبيعي يثير العجب"، وهو بمعناه الدارج كما يشير الباحث الدكتور صبري محمد خليل خيري، يعني الإتيان بفعل أو فكر يتنافى مع السلوك الجمعي، وعليه، فإن الخروج عن مسار الجماعة فكرياً يجعل من الخارج مجنوناً من وجهة نظرها، وذكر الباحث مثالاً النبيّ محمد، وقد اتهم بالجنون "شاعر ومجنون" عندما تلى على الناس آيات القرآن، بالتالي فإن قول الشعراء أو الكتاب أشياء مدهشة تثير إعجاب الآخرين أو سخطهم، يجعل القائل مجنوناً بنظرهم، فقد تفرّد عن الوتيرة الاعتيادية للقول.

وإذا ما كان القصد بالجنون الخروج عن مسار الجماعة سلوكياً، ففي سير حياة الكتاب المبدعين ما يعزّز هذه النظرية من وجهة نظر العامّة، فالغريزة مثلاً تملي على البشر التشبّث بالحياة ومحاربة الموت، فلا عجب إذن إذا ما قاموا بوصف من ينتحر بالممسوس أو المجنون، وهذا ما يذكرنا بما قيل بحق الكاتبتين سيلفيا باث وفرجينا وولف، اللتين عدّهما العامّة مجنونتين حتى في طرق انتحارهما (سيلفيا خنقت نفسها بغاز الفرن، وفرجينا ملأت جيوبها بالحجارة وألقت بنفسها في النهر).

ولا يمكن أن نتحدّث عن الشعر والجنون دون أن نتذكّر الشاعر السوداني إدريس جمّاع، والذي لقب بالشاعر المجنون، ويروى أن الأديب المصري محمود عباس العقاد عندما سمع قصيدته "أعلى الجمال تغار منا" سأل عنه وعن مكانه، فقيل له إنه في مصحة للأمراض العقلية يتعالج من جنون أصابه، فردّ العقاد: "هذا مكانه دون أدنى شك، لأن من يُشعر بهذه العبقرية، فهو مجنون (كمجنون ليلى)، لعمري، إن هذا الكلام لا يقوله عاقل".

هل الكتّاب حقاً مجانين؟

تجزم العديد من الدراسات أن المبدعين بشكل عام، والكتّاب والفنانين بشكل خاص، لا بد وأن يعانوا من اضطراب عقلي أو نفسي ما، يتسبب هذا الاضطراب بازدياد حساسيتهم مقارنة بالآخرين تجاه الظروف الحياتية، فيترجمون آلامهم على شكل عمل إبداعي فني أو أدبي.

وفي القدم، وقبل معرفة خبايا علم النفس، كانت صفة الجنون تُلصق بأي شخص يعاني اضطراباً: الاكتئاب، التوحّد، الذهان، الفصام، الصرع، كانت كلها تندرج في خانة الجنون، كانت هذه الاضطرابات تدفع صاحبها إلى القلق، فينفّس ضغطه ويهدّئ روعه بإبداع يغالب به ألمه.

يقول سيوران: "لم أتمكَّن يوماً من الكتابة إلّا في أتون الاكتئاب الذي أدخلتني فيه ليالي الأرق. ظللت سبع سنوات لا أكاد أنام. أحتاج لهذا الاكتئاب، ولا زلت، إلى اليوم، أستمع، قبل أن أشرع في الكتابة، إلى موسيقى الغجر [الحزينة] من المجر".

أما الشاعر اللبناني طلال حيدر فيرسم حداً واضحاً بين الشاعر والجنون، بقوله إن الفرق بين المجنون والشاعر أن الأول يذهب إلى الجنون ويبقى هناك، بينما يذهب الشاعر إلى الجنون ثم يعود ليخبرنا بما عاشه ورآه.

الكتابة تحتاج عقلاً واعياً متحرّراً

على المقلب الآخر، يرى الكثيرون أن الكتابة أو العمل الإبداعي المهم هما نتاج العقل الواعي والذهن الصافي المتحرّر، لأن غياب العقل واحتجاب الإدراك لا يمكن أن ينشئ بنياناً منطقياً مقنعاً، ورغم وجود الأمثلة التي تشهد بإصابة بعض الكتّاب باضطرابات عقلية ونفسية، إلا أن هذه الحالات لا يمكن تعميمها.

وتشير بعض وجهات النظر إلى أن إلصاق تهمة الجنون بالمفكرين والكتاب هي طريقة الأنظمة السياسية أو الدينية لتبخيس أفكارهم وتحوير اهتمام العامّة عمّا يقولون، فالسيادة تتطلب انقياداً أعمى لا يستجيب لمحاولات التنوير. كما أن ادّعاء الجنون قد يكون وسيلة دفاعية من قبل الكاتب أو المبدع نفسه هرباً من بطش الأنظمة والمتطرّفين أو حتى نبذ الآخرين، فالمجنون في جميع الدساتير الدينية والسياسية والاجتماعية لا حرج عليه ولا تجوز مساءلته.

إن الكاتب أو المبدع أياً تكن أداته يحتاج هامشاً واسعاً وأفقاً رحباً من الحرية لتخرج أفكاره بصورتها الأصيلة غير الممسوخة، وهذا ما يفسر استرسال الأفكار الجريئة في أول مراحل السُّكر، حين يبدأ العقل بالتحرّر من قيود الوعي، ووحده المجنون فقط من يتعرّى بينما العالم من حوله متدثر كملفوفة، ووحده المجنون فقط من يصرخ في زمن اقتلاع الحناجر الهامسة. "كل خيال يقيده العرف أو التردد أو الخوف لا ينتج إبداعاً" تقول الكاتبة غفران الطحّان.

إن إلصاق تهمة الجنون بالمفكرين والكتاب هي طريقة الأنظمة السياسية أو الدينية لتبخيس أفكارهم وتحوير اهتمام العامّة عمّا يقولون، فالسيادة تتطلب انقياداً أعمى لا يستجيب لمحاولات التنوير

الوعي يجعلك مجنوناً

في البيئة الشعبية للقرى تذخر الذاكرة بحكايا عن رجال بالغوا في القراءة، ونساء دفعهّن الفضول لفتح الكتب، فأصيبوا جميعاً بالجنون أو العمى، وكانت هذه القراءات حصراً في الكتب الدينية، ولعل الغاية من تناقل ذلك هو إقصاء فعل القراءة والتخويف منه للالتفات فقط إلى العمل الزراعي والريفي، أو ربما أن القراء قاموا بالاطلاع على كمّ من الغيبيات عجز عقلهم عن إيجاد تفسير منطقي لها، فعبثت الحرارة في داراته وانفجر.

وبما أن الكتابة _كطريق نحو الوعي_ تستند على ساقين: الأولى هي الاطلاع على نتاج الآخرين، والثانية هي التفكير الذي يأتي نتاج التأمل والتمحيص والنقد، حيث تتشعّب كل فكرة إلى فكرة أخرى أو مجموعة أفكار، فإن الكاتب في آخر المطاف سيصل ربما إلى حقيقة ما، فيصعد بذلك درجة أعلى في سلم الوعي، وحين تصبح الرؤية أوضح من الأعلى، ويتصرف الكاتب على أساس رؤاه الجديدة، يصفه الآخرون، ممن هم أقل وعياً، بالجنون.

من هنا نعود إلى نقطة البداية، وندرك أن امتلاك الوعي السبّاق والحرية هما ما يجعل من الكاتب يجنح نحو الجنون من وجهة نظر الآخرين، لكنه _أي الجنون نفسه بمعناه الحرفي_ لن يحول إنساناً عادياً إلى مبدع أو كاتب، وأما ادعاؤه من قبل البعض ما هو إلا ذريعة فاسدة لنيل الحماية أو الوصول إلى مآرب شخصية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image