يسمح أرشيف صوتي ضخم موجود لدى الإذاعة الأمازيغية (حكومية)، في العاصمة المغربية الرباط، بتخليد صوت الفنانة الأمازيغية "ميمونت ن سلوان"، برغم دخولها عالم الاعتزال المبكر وانسحابها الكلّي من ساحة الفن والغناء الأمازيغيين في منطقة الريف في شمال المغرب.
من أمواج الإذاعة الأمازيغية، ينبثّ بين حين وآخر هذا الصوت الأمازيغي النسائي الذي استطاع تحدّي صعاب مجتمع محافظ، عندما تجرأت صاحبته "ميمونت ن سلوان"، على الغناء خارج فناء البيت الضيّق، لتعانق سماء النجومية في نهاية سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، خصوصاً بعد تسجيل "ربيرتوار" مهم من الأغاني بأمازيغية الريف في شمال المغرب. وما زالت الذاكرة الريفية الجماعية تحفظ مقاطع كاملةً من تلك الأغاني الجريئة التي تُردَّد أيضاً في الأعراس والأفراح.
اعتزال مبكر من دون تمهيد
من دون سابق تمهيد، توارت عن الأنظار هذه الفنانة التي تُنسب إلى بلدة "سلوان" في ضواحي مدينة الناظور في شمال شرق المغرب، والتي وُلدت عام 1947 في منطقة آيت سعيد في الضواحي تلك نفسها. آخر ظهور لها على الساحة كان قبل 15 عاماً خلال تكريمها في برنامج تلفزيوني على القناة الثانية المغربية الحكومية. أجابت حينها مقدّم البرنامج الذي سألها عن اعتزالها: "لقد انتصرتُ لأني أنهيت حرباً أعلم مسبقاً بخسارتها".
وقبل أن تضع هذه الحرب أوزارها، طبعت الفنانة العصامية "ميمونت" (معناها ميمونة بالعربية)، بصمتها بقوة على مرحلة مهمة من تاريخ الأغنية الشعبية الأمازيغية في الريف، تاركةً إرثاً غنياً وحافلاً بعدما تفتقت موهبتها الغنائية في سنّ مبكرة.
من أمواج الإذاعة الأمازيغية، ينبثّ بين حين وآخر هذا الصوت الأمازيغي النسائي الذي استطاع تحدّي صعاب مجتمع محافظ، عندما تجرأت صاحبته "ميمونت ن سلوان"، على الغناء خارج فناء البيت الضيّق، لتعانق سماء النجومية
يقول الأكاديمي والباحث في التعبيرات الفنية الأمازيغية، جمال أبرنوص، لرصيف22، إن "أغاني ميمونت نجحت في اختراق آفاق رحبة، بفضل بث عدد من أغانيها عبر أثير الإذاعة الوطنية، وإحيائها برفقة أجواق موسيقية محلية، عدداً من الحفلات في المنطقة، وإن ظل موقف المتلقّين الريفيين من الغناء، عموماً، مطبوعاً بقدر من التبخيس".
وينبّه أبرنوص في حديثه إلى أن "خروج المرأة الريفية للغناء، في فضاءات فرجوية، كان يجري، بحسب الشواهد التاريخية، على سبيل الهواية، أو لنقُل إنّ غناءها أمام متفرجين كان مناسباتياً ولم يحصل أن احترفت امرأة ريفية الغناء حتى داخل دائرة قريبات ‘إيمذيازن’ (الموسيقيين المحترفين)، إلا في سنوات قليلة قبل الاستقلال".
لهذا، و"باستحضار موقف الريفيين السلبي من موسيقيِيهم المحترفين، يغدو سائغاً القول إن ميمونت ن سروان، ومُجايلاتها من المنطقة، كنّ عرضةً لوصم مزدوج، أدى بمعظمهن إلى مغادرة سفينة الغناء مبكراً، ما يستوجب ثناءً على روح المقاومة التي أبدتها مغنيات تلك الفترة، وتقدير إسهاماتهنّ الكبيرة في تعزيز الربيرتوار الغنائي الريفي"، يردف أبرنوص.
موهبة فطرية وعصامية
حكت ميمونت ن سلون، عندما حلّت ضيفةً، قبل 10 سنوات، على برنامج في راديو "المنار" في بلجيكا، أنها "بدأت مشوارها الفني منذ سن الثامنة، وكان أول لقاء لها مع الناس حينما استُدعيت للمشاركة في احتفال رسمي للأطفال بمناسبة عودة السلطان محمد الخامس من منفاه، يقام في السوق الأسبوعي في بلدة دار الكبداني".
ولم يكن للفنانة المعتزلة حظّ في ولوج المدرسة للتعلم، لكن موهبتها الفطرية المبكرة في حفظ وإلقاء المقاطع الشعرية التقليدية بالأمازيغية المسماة "إزران"، وإنشادها على إيقاعات "رالّا بويا" بصوتها الرخيم في المناسبات كالأعراس، شجعاها على تعبيد طريقها الذي لم يكن مفروشاً بالورود يوماً، للولوج إلى عوالم الفن والغناء.
تقول ميمونت ن سلوان في حوارها: "لم يكن من حق المرأة الغناء أو الرقص أو العمل خارج بيتها. فالمرأة كان عملها وعالمها مُحدّدين من باب غرفتها إلى الباب الرئيس لمنزلها". وكان الفضاء الوحيد الذي تتحرّر فيه المرأة الريفية هو الفناء الداخلي لمنزلها المنفتح على السماء مباشرةً، والمنغلق في الوقت نفسه على الخارج، وضمنه فقط كانت النساء الريفيات ينظمن أشعارهنّ".
واستطاعت الفنانة الأمازيغية أن تتصدى بشجاعة وبدعم أقوى من أمها، للزواج المبكر، إذ تفادت الوقوع في شباكه وهي طفلة يتيمة الأب في الـ13 من عمرها. لكنها وجدت معارضةً كبيرةً للخروج للغناء في الأعراس والحفلات في بداية الأمر، من عائلة أبيها الكبيرة، التي تنكرت لها وسط بلدتها الصغيرة.
تضيف الفنانة الأمازيغية المعتزلة، وهي تتحدث بمرارة في الحوار نفسه، أنها "جاءت في غير زمانها، لكن برغم ذلك واجهته بقوة وعزيمة"، مشيرةً إلى أن "الأشعار التقليدية المغناة بالأمازيغية على إيقاعات 'رالّا بويا'، والتي تسمّى 'إزران'، كان يغلب عليها في ذلك الوقت طابع الحزن والبكاء، إذ تلقي النساء أشعارهن وهن يكفكفن دموعهن في الغالب".
تعدد في ثيمات الأغاني
وتبرز قيمة الـ"إزران"، التي شكلت جزءاً من غناء "ميمونت"، من خلال طابعها الفني والإبداعي والتاريخي، الذي تعبّر عنه المواضيع المختلفة وثيماتها المتعددة العاكسة، بلا شك، لواقع منطقة الريف الذي خبرته الفنانة وترجمته شعراً غنائياً.
يلفت الباحث في التعبيرات الفنية الأمازيغية، جمال أبرنوص، إلى أن أغاني ميمونت، وغيرها من فنانات تلك الفترة وفنانيها، "تنضح بالقيمة التاريخية والإثنوغرافية، التي قد تساعد على فهم تجليات سيرورة التحولات الثقافية التي شهدها الريف، منذ الاستقلال".
لذلك، "يمكن للدارس أن يتناول تلك الأغاني تناولاً فنياً خالصاً، على المستويين الموسيقي والشعري، ما يتيح له النبش في مواضيعها وقياس مستوى جمالياتها، وأوجه تأثرها بتجارب الغناء الشرقية والغربية التي وصلت إلى المنطقة"، يردف أبرنوص في تصريحه لرصيف22.
تأثير الألحان الشرقية
وفي سياق هذا التأثر، لا بدّ من استحضار التحولات الاجتماعية التي أدت إلى ظهور هذا التعبير الموسيقي الأمازيغي في الريف، الذي تمثله الفنانة المعتزلة ميمونت ن سلوان، باعتباره تعبيراً تجاوز نسبياً الأغنية الاحتفالية التي كانت تؤديها النساء الريفيات في الأعراس ضمن إطار تلقٍّ محدود، أو أغاني الموسيقيين المحترفين "إمذيازن".
يقول الباحث في المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، محمد أوبنال: "هجرة الريفيين إلى العمل في الجزائر، عندما كانت تحت الاحتلال الفرنسي، ساعدت على تكوين وتشكّل أولى الألحان الشرقية التي تطورت مع وصول الراديو ومشغل التسجيلات (الفونوغراف). وقد ساهم هذا في ظهور موسيقى تجمع بين الألحان الشرقية والمحلية".
وأضاف أوبنال في حديثه إلى رصيف22، أنه أيضاً "بعد نهاية الخمسينيات، ولّدت أحداثٌ سياسية هجرةً قرويةً قسريةً من القرى في الريف شمالي المغرب نحو أوروبا بالخصوص، وبعض المراكز الحضرية شمالي المغرب. وساهمت هذه الحياة الحضرية الجديدة، وعودة المغتربين كل موسم صيف، في بروز ممارسات غنائية وموسيقية جديدة، اعتمدت أساساً على استيراد تقاليد ونماذج غنائية وموسيقية كانت شائعةً حينها، وتكييفها مع السياق المحلي في الريف الأمازيغي".
يوضح الباحث في المعهد الملكي الأمازيغي، أنه "خلال الفترة هذه بدأ جيل جديد من الفنانين باستخدام آلة العود، وغناء الألحان الشرقية بأمازيغية الريف. وكانت ميمونت ن سلوان، إحدى الفنانات التي غنّت بالعربية أمام الجمهور، إلى جانب مغنيات ومغنين آخرين من جيلها، تخصصوا في ترجمة الأغاني الشرقية إلى الأمازيغية، مع الاحتفاظ بلحنها الأصلي".
ظلت الفنانة الأمازيغية ميمونت ن سلوان، أيقونةً للأغنية الأمازيغية الرومانسية لدى أبناء منطقة الريف، إذ ترعرعت بعفويتها في قلوبهم وذاكرتهم، من خلال فنها العفوي الذي أضحى مدرسةً ورمزاً من رموز الإبداع والجمال
وقد تعزز هذا التحول في الغناء، "في المراكز الحضرية والقروية ابتداءً من السبعينيات، مع تحسن ملحوظ في الوضعية الاجتماعية والاقتصادية في مناطق الريف، من خلال تحويلات مالية للمغتربين المغاربة في أوروبا إلى عائلاتهم في منطقة الريف، الأمر الذي سيؤثر حتماً على الحياة الثقافية في المنطقة"، يتابع الباحث في المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، محمد أوبنال.
تحولات اجتماعية وغنائية
ضمن هذا التحول، سيدخل إلى قرى ومدن وبلدات الريف الراديو وأجهزة "غرامافون" أو "الحاكي"، ثم الأشرطة الصوتية (كاسيت) في فترة أخرى، ما خلق شبه "ثورة" على مستوى الموسيقى والغناء في المنطقة.
ومع ظهور هذه المستجدات التكنولوجية، استعجل أمازيغ الريف في استبدال طقوس غنائية تراثية بأشرطة وأقراص صوتية، أو استدعاء مجموعات غنائية، أو نجوم غناء تلك الفترة على غرار الفنانة ميمونت لإحياء حفلات الأعراس والأفراح عموماً.
في هذه الفترة، ستضطر الفنانة ميمونت ن سلوان إلى ركوب حافلة تقطع بها مسافة أكثر من 700 كيلومتر من مدينتها الناظور نحو المركز الرباط والدار البيضاء، لتسجيل أغانيها التي ظلّت حيّةً إلى يومنا هذا، فأصبحت صورتها على أغلفة كل قرص غرامافون أو شريط كاسيت، ثم ظهرت بعد ذلك في تسجيل فيديو.
وبفضل هذا الريبيرتوار الغنائي المهم، ظلت الفنانة الأمازيغية ميمونت ن سلوان، أيقونةً للأغنية الأمازيغية الرومانسية لدى أبناء منطقة الريف، إذ ترعرعت بعفويتها في قلوبهم وذاكرتهم، من خلال فنها العفوي الذي أضحى مدرسةً ورمزاً من رموز الإبداع والجمال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Sam Dany -
منذ 13 ساعةانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ 17 ساعةلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ يوموحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ يومينالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ يوميناهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
رزان عبدالله -
منذ أسبوعمبدع