شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أبكت جبال الأطلس وهدهدت المحيط الأطلسي... حادة أوعكي سيّدة الغناء الأمازيغي المغربي

أبكت جبال الأطلس وهدهدت المحيط الأطلسي... حادة أوعكي سيّدة الغناء الأمازيغي المغربي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 21 مارس 202305:11 م

في منطقة الأطلس المتوسط المغربية، تشدُّ الأغنية الأمازيغية الانتباه بكافة ألوانها. وعلى أثير الإذاعة الأمازيغية تُبثّ الكثير من الخالدات. من ضمنها، الصوت الذي تعرفه جبال الأطلس ويعرفه وادي أم الربيع، ومدن وقرى مغربية. هو صوت الفنانة حَادَّةْ أًوعْكِّي، التي تغنَّت بأغانيها أجيال عدة من الناطقين بالأمازيغية وغيرهم، وشكّلت جزءاً من ذاكرتهم الجماعية، وتوهّجت في فترةٍ لم تكن تفرد فيها الإذاعة الوطنية البثّ للّغة الأمازيغية إلا أربع ساعات تنتهي في الثامنة مساءً.

سطع نجم الفنانة حادة أوعكي، في قرية مغربية أمازيغية في ضواحي آيت إِسْحَاقْ (إقليم خنيفرة)، الواقعة بين جبال الأطلس المتوسط قبل أن يضيء الساحة الموسيقية المغربية وتصبح أيقونة الغناء الأمازيغي التي تبكي العشّاق في جبال الأطلس، وتؤنس آخرين على شط المحيط الأطلسي على بعد مئات الكلومترات.

أنجزت حادة أوعكي مجموعةً من الأعمال وأطربت جماهير عريضةً وانتصرت لمواضيع اجتماعية وعاطفية وغيرها وقدّمت الكثير للأغنية الأمازيغية

وُلدت سنة 1953، في أسرة أمازيغية محافظة إلى جانب خمس أخوات وشقيقين. لم تكن في تلك الطفولة الجبليّة الشّاقة تعلم أن نجمها سيتجاوز حدود آيت إسحاق ومدينة خنيفرة، إلى أماكن بعيدة. غنَّت لكلّ شيء وفي كلّ مكان. في المنزل، وهي ترعى الأغنام في جبال الأطلس، وإلى جنب رفيقاتها، وعُمرها لا يتجاوز العشر سنوات قبل أن تعلم أنها تملك الموهبة التي منحتها بحب إلى بقيّة المغاربة.

طلّقت الحياة وتزوجت الفنَّ مبكراً

غناء حَادَّة خلَّف تخوُّفاً لدى الأسرة مما دفع بأبيها إلى تزويجها مبكّراً في سن الرابعة عشر، إلا أنها ستفلت من هذا الزواج بعد مدة قصيرة لتحصل على الطلاق وتتجه نحو بلدة زاوية الشيخ التي تبعد عن مدينة خنيفرة نحو 60 كيلومتراً.

هناك انطلقت مسيرتها برفقة الفنان بناصر أُوخُويا، وهو بدوره أحد رموز الفن الأمازيغي وخلَّف عشرات الأغاني الأمازيغية والشعبية "العربية" مع حادة أوعكي ما زالت الإذاعة الأمازيغية تحتفظ بها حتى الساعة. قرّر الاثنان التوجه صوب الدار البيضاء. كان بْنَّاصْرْ الذي اكتشف صوت حادة، من أخذ بيدها، وفق بعض الروايات، إلى الدار البيضاء وكان سبباً في شُهرتها. هناك غنّت مع مجموعته بالأمازيغية كما غنّت بالعامية المغربية وأدّت أغنيات أطلسيةً صعبة الأداء.

غناء حَادَّة خلَّف تخوُّفاً لدى الأسرة مما دفع بأبيها إلى تزويجها مبكّراً في سن الرابعة عشر، إلا أنها ستفلت من هذا الزواج بعد مدة قصيرة لتحصل على الطلاق وتتجه نحو بلدة زاوية الشيخ حيث بدأت مسيرتها الفنية

تزوجت حادة الفن، وسجَّلت مع بناصر أوخويا أغنيات عديدة وذاع صيتهما ليقدّما حفلات في كل مكان. وكانت أول من غنّت بالأمازيغية خارج حدود المغرب، تراث منطقتها وأغانيها.

شهرة حادة لم تكن شعبيةً إذ سرعان ما وجدت أذناً صاغيةً لدى النخب بكل أشكالها. التقت ملك المغرب الراحل الحسن الثاني في قصر الصخيرات، ثم غنّت بعدها للوزراء ولشخصيات سياسية وغيرهم فحصلت على لقب "أم كلثوم الأطلس المتوسط"، وصار اسمها على كل لسان، فيما احتفل بها الإعلام وأبهجت الأعراس الأمازيغية على امتداد الأطلس، وأصبح أرشيفها يطرب مسامع عشاق الفن الأمازيغي إلى حدود الساعة.

عزلة اجتماعية

من الأطلس المتوسط كانت انطلاقة حادة وإليها عادت. رحلة متعبة وطويلة حافلة بالنجاحات والعطاء، إلا أنها لم تشفع لها لتعيش شيخوختها براحة وأمان. أوساط مقربة من حادة قالت في حديث إلى رصيف22، إنها لم تنَل نصيبها من التكريم اللائق الذي يمنحها عيشاً كريماً، خاصةً أن حقوق المؤلفين لم تكن تُحترم حينها، ولا تحصل على أي عائدات من فنها الذي ما زال يقدَّم بشكل يومي. يعي المقربون من حادة جيداً أنها لم تأخذ حقها من عطائها الفني كما هو الحال عند كثيرين من روَّاد الفن، سافروا به بعيداً.

حاول رصيف22، الاتصال بالأيقونة، لكن الأمر كان صعباً في البداية نظراً إلى ضعف شبكة الاتصالات في المنطقة، وبعد محاولات نجحنا في التواصل معها، لكن المحادثة كانت قصيرةً تقول كل شيء. تحدثت إلينا نجمة الأطلس بصوتها المميز الذي بدأ الزمان يُضعِفه قائلةً إنها مريضة وتعاني من آلام في عينيها، مبرزةً أنها في وضعية صعبة، ولا تستطيع الكلام.

من الأطلس المتوسط كانت انطلاقة حادة وإليها عادت. رحلة متعبة وطويلة حافلة بالنجاحات والعطاء، إلا أنها لم تشفع لها لتعيش شيخوختها براحة وأمان

وضعها الصحي منعها من الحديث إلينا مُطولاً، لكن دقائق معدودات من الحديث إليها كانت كافيةً لنأخذ صورةً واضحةً عن وضعها الاجتماعي الهش، وصوتها الخافت الذي لا يكاد يُسمع، ونبرات الأسى من الصوت وصمتُها عن الكلام، ولعلَّ هذا ما منعها من الحديث عن أحزانها في كلّ مرة دون جدوى.

حَادَّة المتحدية للنمطية ورمز النضال

يقول الأستاذ في جامعة فاس والمهتم بالتراث الأمازيغي مصطفى اللويزي، وهو صاحب مبادرة لتكريم الفنانة حادة أوعكي نُظّمت في مهرجان "إيدُّورَارْ" عام 2017، في تصريح لرصيف22: "كلما استمعت إلى أغنيات حادة، خاصةً أغنية "إِيمْطَّاوْنْ" (الدموع)، يزداد يقيني بأن النجمة الأمازيغية الكبيرة تستحق كل الحب، وكل التقدير وأكثر من تكريم" .

كما يشير إلى أن حادة أوعكي تذكّرنا بجيل من الفنانات ناضلن من أجل ما يعشقن القيام به، إذ لم يكن الفن متاحاً لمثيلاتهن، وقاومن كثيراً ضد عوائق متعددة أبرزها مرتبط بالأفكار النمطية والمسبقة والجاهزة. كما أن في أغانيها شعريةً خاصةً، تجمع بين الكلام البسيط الموزون، واللحن الأمازيغي العذب، وتموجات الصوت الطبيعي النادر الذي لا تُقَوِّمُهُ آلة ولا تصححه الإعدادات الرقمية.


"إن حادة بهذا تذكرنا بالشاعرة المغربية مْرِيرِيدَة نَايْتْ عْتِيقْ (وهي شاعرة مغربية أمازيغية عُرفت بتمردها وقوة كلامها)، تلك الشاعرة المتمردة على القوالب الجاهزة، وهي مثال كذلك للعزيمة والإصرار اللذين ميّزا مسيرتها الفنية والإنسانية"، يقول اللويزي.

ويضيف: "حادة أوعكي التي ارتبط اسمها بالفنان بناصر أوخويا، لم ينصفها الإعلام العمومي، كما استعملت الإذاعة الأمازيغية أغانيها من دون تأدية حقوق التأليف ولا الغناء".

وعن النسيان والإهمال الذي يطال فنانة الأطلس الخالدة حادة أوعكي، يقول اللويزي: اليوم تحتاج حادة إلى تكريم على مستوى رفيع عرفاناً لما قدمته وتكفيراً على إهمال وتهميشٍ طالاها على مستوى مسيرتها، تكريم رسمي يحقق نوعاً من العدالة وجبر الضرر لفنانة لم تطلب شيئاً من أحد.

صوت شجر الأرز في الجبال

أما الحسين مباركي، الباحث في الثقافة الأمازيغية، فقد قال في تصريح لرصيف22، إن الفنانة حادَّة أوعكي أعطت الشرارة الأولى للمرأة لتأخذ الريادة وتسمّى المجموعة الموسيقية باسمها.

في نظره لم تصل حادة أوعكي إلى هذه الطفرة في الفن الأمازيغي، أي زعامة العنصر النسوي، لأنها عاصرت بناصر أوخويا وآخرين كانوا من العيار الثقيل، لكنها حققت المناصفة إذ في الغالب نتحدث عن مجموعة أغنيات بناصر وحادة أوعكي. وبعد ذلك أخذت المرأة مكانتها في الساحة الفنية. ومع ظهور "الحركة الأمازيغية" بدأ مصطلح "الشيخة" الذي يحمل صوراً نمطيةً في العامية المغربية يتلاشى ليحل محلّه مصطلح تَنَازُورْتْ الأمازيغي، ويعني الفنانة.


حسب الباحث، فإن حادة أوعكي فنانة عُرفت بالتمرد على العقلية الذكورية والتزمّت المذهبي، خصوصاً أنها تنتمي إلى منطقة يغلُب عليها الطابع الديني التابع للزاوية الدلائية سابقاً، وهي زاوية مغربية يُعرف أتباعها بأهل الدلاء آيْتْ إِديلاَ أو الدِّلاَئِيُّونْ، وكانت عبارةً عن حركة دينية علمية ثم حركة سياسية ظهرت في القرن السادس عشر.

حادة أوعكي فنانة عُرفت بالتمرد على العقلية الذكورية والتزمّت المذهبي، خصوصاً أنها تنتمي إلى منطقة يغلُب عليها الطابع الديني التابع للزاوية الدلائية سابقاً

يقول مباركي إن انفراد حادَّة يتجلى في كونها كرَّست وقتها للفن على حساب حياتها الشخصية، فهي لم تندم أبداً على عشقها للفن وعطائها الخالد إذ تركت بصمةً معروفةً في الأداء بحنجرتها والعزف على أحبالها الصوتية في زمن لم نكن نعرف فيه ما يسمى بالمؤثرات الصوتية.

يرى المتحدث أنها "لم تنسَ الاستمتاع بجمال جسدها الذي جعلت من وشمه لوحةً فنيةً"، وكان حينها منتشراً بين بنات جيلها في المغرب، "لأن الوشم من وسائل التزيّن والتمييز بين القبائل، وهو فن التعبير من خلال الجسد في نظر الأنثربولوجيين والفنانين، وذلك برغم انتقاد الآخرين لها خصوصاً الذين يشنّون حرباً ضد حرية المرأة بما في ذلك وشمها لجسدها"، يقول مباركي.

وفق المتحدث فإن الأغاني التي أدّتها حادة أوعكي، لامست الكثير من المجالات على المستوى المحلي أي الأطلس المتوسط والمستوى الوطني من أوضاع ومواضيع اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية وغيرها عبر أغنيات إِيمْطّاوْنْ (الدمعة)، وأَثَّاسَا  (يا كبدي)، وثَايْرِي ثْعْمَايِي  (أعمتني الصّبابة)، وأُوسَارْ (مستحيل أن أعيدها مرّة أخرى)، وعِيْنْ زُورَة. 

يشدد الباحث على أن حادة أوعكي، الوجه المخضرم الذي تعرفه الأجيال في الأغنية الأطلسية، لها حنجرة قادرة على مسايرة إيقاعات عدة والتكيف مع الكثير من الآلات الموسيقية من كمان و"وْتَارْ" و"ليرا الأطلس" (آلات وترية) وغيرها.

ذاكرة هوية

من جهته، يرى الأستاذ الجامعي في جامعة فاس في المغرب والناشط الأمازيغي الحسان حجيج، في حديثه إلى رصيف22، أن الفنانة حادة أوعكي ارتأت الآن "أن تعيش آخر أيامها في انسجام مع ذاتها، بعد أن أثارت انتباه الكثيرين في الفن وغيره. ولا زال المغاربة يتذكرون أغانيها ولا زال صوتها يقرع آذان محبيها سواء من استمع إليها بالدارجة المغربية أو بالأمازيغية. وهذا ما جعل من دائرة المحبين تتسع لتشمل الكثيرين خصوصاً أنها غنّت في الأعراس والمناسبات أو في سهرات خاصة في محاولة منها لتعويض القهر الذي عاشته في صغرها".

يقول حجيج، إن حادة أنجزت مجموعةً من الأعمال وأطربت جماهير عريضةً و"انتصرت لمواضيع اجتماعية وعاطفية وغيرها وقدّمت الكثير للأغنية الأمازيغية، وهي مصدر إشعاع، جعلت الكل يستمتعون بصوتها الجهوري الذي يخلخل الآذان والوجدان، إنها ذاكرة وطنية لا ولن تمّحي. أتمنى من الغيورين على الثقافة الأمازيغية أن يكرّموها وأن ينتبهوا إلى حالها ويخرجوها من الضيق إلى رحابة تكريم وطني يليق بها".

حسب حجيج فإن الغناء كان وسيلتها الوحيدة للهروب من الواقع المرير خاصةً أنه تم تزويجها في سن مبكرة برجل يكبرها سناً وعاشت القهر بسبب قساوة القدر والزوج، الذي شكّل لها مشكلة وجودية، لكنه جعلها تفرّ إلى فضاءات أرحب تضمن لها عيشاً وتشعر فيها بأنها تمارس حياتها ببساطة، كما يؤكد حجيج. ويضيف أن علاقتها مع الفنان بناصر أوخويا لم تكن فنيةً بل تجاوزت ذلك إلى العلاقة الإنسانية ليُشكّلا ثنائياً فريداً، إذ امتازت حادة بصوت عذب وقوي فيما كان بنَّاصر عازفاً ماهراً على الكمان، مما ولّد انسجاماً ذاع صيته في كلّ ربوع المغرب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image