يُعدّ الشيخ الحسناوي رمزاً من رموز الفن الجزائري، وأحد أركانه المهمين، لما قدّمه للأغنية الناطقة بالأمازيغية والعربية على السواء، وانطلاقاً من التأثير الكبير الذي عكسه على جملة من الفنانين الذين بنوا أمجادهم الفنية، على ما قدّمه أو تركه، غير أن المعلومات التي تناولت حياته ومساره شحيحة جداً، خاصةً الشخصية منها، برغم الانتشار الرهيب لأغانيه، بالإضافة إلى دوره في نشر التراث الأمازيغي غير المادي، عن طريق كلمات أغانيه التي كتب ولحّن معظمها بنفسه، لكنه وبرغم هذا، عاش زاهداً، بعيداً عن عدسات الكاميرات وأقلام الصحافيين وفضول محبيه، في منفاه الاختياري في فرنسا.
الرجل الذي حمل اسم قبيلته ورحل
وُلد الشيخ الحسناوي، واسمه الحقيقي محمد خلوات، يوم 23 تموز/يوليو سنة 1910، في قرية تعزبيت بإحسناون التابعة لولاية تيزي وزو، ومنها اختار اسمه "الشيخ الحسناوي"، ليحمل الفضاء الذي وُلد فيه أينما حلّ وارتحل، وهذا ما حدث له فعلاً، حيث نسي الناس اسمه الحقيقي، وحفظوا اسمه الفني الذي اشتهر به كفنان، وهي دلالة واضحة على الحب الذي كان يكنّه للفضاء الذي وُلد وعاش فيه جزءاً من حياته، برغم الأوجاع التي عاشها وعايشها، ومنها فقدان أمه وهو في الثانية من العمر، أي أنه لم يحسّ بها ولا بحنانها وعطفها، لهذا بقي شعور الفقد هذا شاحناً رئيسياً ولّد من خلاله الكثير من الأغاني الموجعة. ونتيجةً لذلك تربّى عند عائلته التي قدّمته إلى الزوايا، التي حفظ فيها جزءاً من القرآن واللغة العربية.
اختار اسمه "الشيخ الحسناوي"، ليحمل الفضاء الذي وُلد فيه أينما حلّ وارتحل، وهذا ما حدث له فعلاً، حيث نسي الناس اسمه الحقيقي، وحفظوا اسمه الفني الذي اشتهر به كفنان، وهي دلالة واضحة على الحب الذي كان يكنّه للفضاء الذي وُلد وعاش فيه
عاش الحسناوي جزءاً من حياته الأولى في قريته الجبلية، وكان الوقت كافياً ليرسم في ذاكرته الكثير من المشاهد حولها، ويصنع منها حيّزاً واسعاً من الذكريات، لكن حياة القرى الصغيرة لم تكن لترضي صاحب الأحلام الكبيرة، لهذا قرر الهجرة إلى العاصمة، وبدأ العمل هناك، وهذا في سن العشرين، أي سنة 1930، وقد أقام في حي القصبة العتيق، فضاء المسلمين الضيق الذي عكس هويتهم الجزائرية، وانتماءهم وثقافتهم، في ظل هيمنة وسيطرة الاحتلال الفرنسي (1830-1962) على معظم أراضيهم وكل مدنهم الرئيسية.
حي القصبة... تمرين أوّلي على الغربة
تعرّف في التواءات القصبة وتعرجاتها، على ثقافة جديدة بالنسبة له، بعيداً عن اللسان الأمازيغي الذي اعتاد الحديث به، بحكم ثقافة وهوية المنطقة التي ينتمي إليها، لكنه في الوقت نفسه كان يجيد العربية التي تعلمها في الزوايا، وهو الأمر الذي سهّل عملية اندماجه، لينطلق بعدها في مشواره الفني، ليعانق الحلم الذي كان يحمله على كتفيه، وربما هو أحد الأسباب التي ترك من أجلها قريته، وتغرّب في العاصمة، ليندمج في فرقة محمد العنقة (1907-1978)، الذي يُعدّ رائد الأغنية الشعبية.
لا توجد أخبار جازمة عن السنة الحقيقية التي بدأ فيها مشواره الفني، لكن أغلبية المصادر تشير إلى سنة 1936، من خلال أغنية "أيما يما" التي غنّاها بالأمازيغية، لكن هناك مصادر أخرى تشير إلى أن الأغنية لحّنها وكتبها وغنّاها عندما كان في قريته، سنة 1928، وهذا قبل هجرته إلى العاصمة، وهي معلومة تم اعتمادها من الذاكرة الشفاهية لأهل المنطقة.
كانت العاصمة الجزائرية بالنسبة للشيخ الحسناوي (تبعد عن مدينته الأم تيزي وزو نحو 105 كلم)، بمثابة تمرين أولي على الغربة، وبرغم حيويتها واندماجها وفضاءاتها المتعددة، غير أنها لم تكن ترضي طموحه وأحلامه. لهذا حمل حقيبته مرةً أخرى، وهاجر واغترب، لكن هذه المرة بعيداً عن الأرض الجزائرية المحتلة، لتكون باريس هي محطته التالية، مدينة الأضواء والفنون والعمران المختلف والحياة الجديدة، لكن في تلك الفترة كانت الأجواء السياسية مشحونةً وساخنةً، وشبح الحرب يخيّم على المدينة التي مكث فيها حتى مطلع الخمسينيات، حيث عاش أجواء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، خاصةً عندما احتُّلت فرنسا من طرف الجيوش الألمانية التي كان يقودها النازي هتلر.
صوت طفولي لا يكبر... وأنين يُبكي الصخر
تحوّلت جراح الغربة وأنينها إلى مصدر إلهام بالنسبة إليه، تشحنه بالألم والحسرة والحنين، فيحولها إلى نصوص شعرية، وألحان موسيقية، وأغانٍ طربية، لهذا انعكس في معظم أغانيه ذلك الشوق إلى قريته ومنطقته وبلاده الجزائر ككل، وكل من يسمع تلك الأغاني، حتى وإن كان لا يجيد اللغة العربية أو الأمازيغية، يتفاعل مع صوته الشجي وألحانه الطربية، وبحة صوته الطفولي الذي لا يكبر.
وذلك بالإضافة إلى سحر الكلمات وآلامها والتي تحرّض على البكاء، خاصةً المغتربين الجزائريين أمثاله، من الذين تركوا بيوتهم ومناطقهم وأسرهم في الجزائر، ممن عاشوا وعايشوا المنفى، لهذا أحسّوا بكل كلمة وكل تنهيدة، لأنها تعكس همومهم ووجعهم الدائم، وهو الإحساس نفسه الذي أحسّ به معهم في باريس، فهم جمهوره الأول، إذ غنّى لهم في المقاهي التي كانوا يجتمعون فيها، أو في البيوت المتداعية والفوضوية التي كانوا يقيمون فيها، من أجل لقمة العيش وإعالة عائلاتهم.
وتقول بعض المصادر إنه توقف عن الغناء وأوقف كل أنشطته بدءاً من سنة 1954 مع اندلاع الثورة الجزائرية، تضامناً مع الثوار والثورة، كما أسّس سنة 1967 دار "Disque Nahon"، لكن مشروعه لم يستمر وتوقف.
المنفى... قدر الحياة والموت
سنة 1968، أنهى الشيخ الحسناوي كل ارتباطاته بالمدن الكبرى، حيث سجّل كل أغانيه التي تم حصرها في 46 أغنيةً، 29 منها باللسان الأمازيغي، والبقية باللهجة العربية، وبعدها انقطع تقريباً وبشكل نهائي عن الفن، وهذا بسبب التجاهل الذي كان يعاني منه، والتهميش الكبير الذي يعيشه، واستقر في إقامة بسيطة للمتقاعدين في مدينة نيس الفرنسية، يتجرع الألم والحسرة بسبب عدم الاعتراف به والتهميش الذي كان يعيشه، وقد رفض وقتها أي زيارة أو لقاء، وقد حاولت مجموعة من فناني القبائل من الشباب في سبعينيات القرن الماضي تقديمه للجمهور، مثل حميدو والمسكود ومسعودي وغيرهم، وأصبحت أغانيه تُبثّ في الإذاعة والتلفزيون.
اختار في سنواته الأخيرة العيش في جزيرة "لارينيون" (La Réunion)، وهي مستعمرة فرنسية واقعة في أقاليم ما وراء البحار، في المحيط الهندي، شرق مدغشقر، وغالبية من يعيشون فيها من الهند وباكستان، بالإضافة إلى العديد من الجنسيات الأخرى، وهو الفضاء الطبيعي الذي انقطع فيه الشيخ الحسناوي، واختاره منفى اختيارياً له، خاصةً أنه يشبه في مناخه ومناظره الطبيعية المنطقة التي وُلد فيها، لهذا ربما وجد فيها العزاء الأخير، ولقد توفي فيها يوم 6 تموز/ يوليو سنة 2002، ودُفن في أحد مقابرها.
أغانٍ للأحزان وأخرى للأحزان أيضاً
جاءت معظم أغاني الشيخ الحسناوي حزينةً وموجعةً إلى حد البكاء، وقد أحست بها أجيال عدة من الجزائريين، ولا تزال لغاية اليوم أحد المراجع المهمة التي صنعت ثقافة وتراث منطقة القبائل والجزائر ككل، وأكثر من هذا تأثر العديد من الفنانين بها، وأعادوا غناءها من جديد، حتى أنها صنعت مجد العديد منهم، من بينهم كمال مسعودي (1961-1998)، الذي يُعدّ من بين أهم مطربي الشعبي، بالإضافة إلى العديد من الفنانين الآخرين، وربما أهمهم الفنان لونيس آيت منقلات (1950)، ومعطوب الونّاس (1956-1998) الذي يُعدّ الفنان الأكثر شيوعاً في منطقة القبائل، والقائمة طويلة.
جاءت معظم أغاني الشيخ الحسناوي حزينةً وموجعةً إلى حد البكاء، وقد أحست بها أجيال عدة من الجزائريين، ولا تزال لغاية اليوم أحد المراجع المهمة التي صنعت ثقافة وتراث منطقة القبائل والجزائر ككل
ومن بين أهم وأشهر أغاني الشيخ الحسناوي أغنية "لاميزون بلونش" ("البيت الأبيض") التي غنّاها باللسان الأمازيغي، وتحسّر فيها على هجرة العديد من الرجال من مناطقهم من أجل لقمة العيش، تاركين خلفهم النساء فقط، وحملوا حقائبهم وتوجهوا بها إلى المطارات والمنافي، ولقد وصفت تلك الحالات بالكثير من العاطفة، انطلاقاً من الحزن والفراق والوداع من طرف العائلة والقبيلة والمنطقة والبلاد ككل، ولقد أعاد الكثير من الفنانين هذه الأغنية، بالإضافة إلى أغنية "يا نجوم الليل" التي غنّاها ونالت شهرةً واسعةً، وقد أعادها الفنان كمال مسعودي وصنعت مجده الغنائي.
ومن الأسباب التي يرجّح البعض أنها وراء حزنه الكبير أيضاً، قصة الحب الكبير الذي كان يكنّه لشابة اسمها "فاضمة"، ولم يستطع الزواج منها لأنه كان فقيراً، لهذا هاجر إلى فرنسا ولم يعد إلى الجزائر، وقد قصدها أو كتب عنها العديد من الأغاني المهمة، وقد سمّاها بشكل مباشر في أحد أغانيه "Fadhma"، لكن لا يوجد حالياً من يؤكد هذه الفرضية.
"يا نجوم الليل معاكم سهران
يا نجوم الليل معاكم سهران
ما عندي لا حبيب لا والي مرمي في البلدان
ما عندي لا حبيب لا والي مرمي في البلدان
كي نشوف الديار بضياهم ضاويين
الليل مع النهار عبادهم زاهيين
كي نشوف الديار بضياهم ضاويين
الليل مع النهار عبادهم زاهيين
وأنا دمعي مطار على خدودي جاريين
غابولي لفكار بحمتهم بردان
وأنا دمعي مطار على خدودي جاريين
غابولي لفكار بحمتهم بردان
********
يا نجوم الليل معاكم سهران
يا نجوم الليل معاكم سهران
ما عندي لا حبيب لا والي مرمي في البلدان
ما عندي لا حبيب لا والي مرمي في البلدان
خليت بلادي ودخلت لبلاد الناس
اتكواو كبادي الليل والنهار حواس
خليت بلادي ودخلت لبلاد الناس
اتكواو كبادي الليل والنهار حواس
هايم وانادي صبري قطع لياس
الفراق والبعادي بيهم حالي مشيان
هايم وانادي صبري قطع لياس
الفراق والبعادي بيهم حالي مشيان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه