عندما قرأت ما يقوله رولان بارت عن الصورة، فهمت بالضبط ما يسحرني في بعضها. في الصورة لا يعبر الحدث مطلقاً نحو شيء آخر، فهي تكرار ميكانيكي لما لا يمكن أن يتكرّر وجودياً، إعادة لا نهائية لذلك الجزء الذي أحتاجه، من الكل الذي أراه.
ترنيمة متتالية من "انظروا، ها هو"
كان اهتماماً آخر يخص الصورة جذب انتباهي منذ فترة، يمكن بقليل من التأمل رؤية جوانب عدة فيه. وهو جروبات فيسبوك التي تمتلئ بمحترفي الفوتوشوب، والتي يدخل أعضاء تلك المجموعات وينشرون صورة مرفقة مع طلب بتعديل كذا وكذا فيها، وتمتلئ التعليقات بنتائج متفاوتة في الاحترافية، بالتعديلات التي طلبوها. حتى أن التعديلات تكون مبهرة أحياناً في ما تحمله من تأويلات لما طلبه صاحب الصورة.
مثل رجل ستيني يطلب أن تُعدل صورته وهو شاب، صورته التي قد طالتها الرطوبة وبدأت ملامحه تُمحى منها، وكأنه الزمن وقد زحف على سطح الصورة وترك آثاراً مادية عليها. لنرى النتائج في التعليقات، بين من نفّذ المطلوب حرفياً وأزال الرطوبة، وبين من رأى في الأمر شيئاً آخر وراء المطلوب، فنجده يجامل الرجل بتبديل التيشيرت القديم الذي يرتديه ببدلة أنيقة، أو يزيد أحدهم على ذلك بأن يلمّع أسنانه ويجعل ابتسامته في الصورة أكثر بريقاً…
أو آخر يكتب على صورته: "ممكن تعديل صورتي بحيث أبدو كإنسان طبيعي". يظهر في الصورة أن ثمة تشوّه كبير في وجهه. يقوم المحترفون والهواة بعملهم في التعليقات، ولأني شاهدت المنشور بعد فترة من نشر الشخص المذكور له، وجدته وقد قام بتعديل صورة ملفه الشخصي بأحد النتائج التي كانت مُرضية له، نتيجة يظهر فيها كما أراد. كان "الإنسان الطبيعي" الذي أراده في الحقيقة بعيداً جداً عن الشخص في الصورة الحقيقية، وربما قد صار بعد التعديل يشبه أحد أقارب الشخص الذي ضبط ملامح وجهه.
لماذا نخشى رؤية أنفسنا؟ يمكن إرجاع الأمر لهيستريا قديمة، والرغبة في أن نكون آخر طوال الوقت، فصل الزمنية عن الحدث شيء قديم. ربما نُفضل أن نغرق في تصورات عن أنفسنا والأشياء من حولنا عن أن نراها كما هي فعلاً... مجاز
لماذا نخشى رؤية أنفسنا؟ يمكن إرجاع الأمر لهيستريا قديمة، والرغبة في أن نكون آخر طوال الوقت، فصل الزمنية عن الحدث شيء قديم. ربما نُفضل أن نغرق في تصورات عن أنفسنا والأشياء من حولنا عن أن نراها كما هي فعلاً.
غير تلك الأمثلة على التعديل، والتلاعب بصور موجودة بالفعل، أي لها تاريخ قد التقطت فيه، ويتذكر صاحبها على الأرجح كيف كان شعوره وقتها، وبعيداً عن السؤال الملح عندي عن كيف يمكن النظر لتلك الصورة بعدما أخضعت لتغيرات قد تكون جذرية، مثل أن تبدو بدون آثار الحادث الذي دمر وجهك؟ ثمة أيضاً نوع آخر من اللعب في الصور، تُدمج فيه صورتين أو أكثر، لأسباب مختلفة معاً. فتاة تطلب أن تُدمج صورتها مع صورة أبيها المتوفي حديثاً، وتعلّق بأنها اكتشفت بعد موته أنها لا تملك أي صورة تجمعها به. تضع صورتين يبدو واضحاً الفرق الزمني بين التقاطهم، إذ تبدو صورة الأب في أول الألفية، وصورة الفتاة حديثة.
هناك مثل اتفاق ضمني بين أصحاب هذا النوع من الطلبات بانعدام غرابة ما يطلبون. يكتبون جملاً حزينة في تأويلاتها، وتصلح أغلبها لتصير قصصاً مليئة بالدراما، إلا أنهم كمن تخطوا مرحلة الحكي تلك، يذهبون مباشرة للمطلوب.
قالت جدتي بتلقائية: "بس هو مكانش بيضحك لما أخد الصورة دي"
أدعو من يلقاني أن يمسك بي، ولا يتردّد لثوان
يصف بارت ضيقه عندما بدأ اهتمامه يتزايد بالفوتوغرافيا، لأنه لم يجد من يتحدث عن تلك الصور التي تعجبه ولا يعرف سر هذا الإعجاب، أو لماذا تلك بالذات، فقرّر، بناء عليه، أن "يصير همجياً، بلا ثقافة في مواجهة الصور"، أي يحاول السير متلمّساً عمق كل صورة، مُنحياً مناهج وتحليلات المتخصصين.
أخذت أبحث عن الشاعري في تلك الصور، وعما أعجبني تحديداً في هذه المنطقة. تلك المجموعات التي تضمّ أناساً، منهم من يريد أن يزرع ذكرى، يعلم أنها ليست حقيقية مع أبيه، في ألبومه الشخصي، كالمثال المذكور. وهذا به سحر غريب، وكأنه يطفئ الجزء العقلاني داخله الذي يلحّ بالتأكيد على أنه ما تلك بذكرى حقيقية، وينفي مدى واقعية تلك الصورة الممسوخة. سيخمد هذا الصوت، ليحظى بمشهد ربما تخيّله كثيراً يجمعهم سوية.
وآخر يفضل أن يدّعي أن هذا الرجل الذي في الصورة هو نفسه، رغم عدم الشبه، فقط ليشعر بأنه ذو وجه طبيعي، لا تشوهات فيه. سيستخدم الصورة كواجهة لملفه، اعتماداً على نفس مبدأ الاتفاق الضمني الذي شارك فيه الجميع دون أن يقولوا ذلك. تلك هي الصورة التي تمنى لو كان عليها.
لون الماء ليس كلون الإناء
لن أتحدث كثيراً عن الأرشيف. لن أقول جديداً. فقط أفكر في الاختلال الذي سيصيبه، وأذكر كيف وقفت جدتي ضد عملية، سأغالي في وصفها بالتخريبية، حاولت خالتي القيام بها، حيث جعلت صورة جدي المعلقة في صالة بيت العائلة، تلك الصورة التي صارت جزءاً من حياتنا، والتي يظهر فيها بوجه متجهّم من أثر المرض الذي ألمّ به في آخر حياته، وتخلو من ابتسامة طالما تحدثوا عن عذوبتها. كانت الصورة تُظهر شخصاً عكس ما يصفه أي ممن عرفوه. أكثر الناس ضحكاً وتفاؤلاً. كانت تلك الصورة الوحيدة التي نمتلكها له كبيراً، لذلك علقوها. قامت خالتي بتعديلها لتجعله يظهر مبتسماً. وعندما أرتها لجدتي ، غضبت بشدة، ورفضت تماماً فكرة تعليقها. ولما لم تجد مبرّراً يقنع البقية بحسمها في الرفض، قالت بتلقائية: "بس هو مكانش بيضحك لما أخد الصورة دي". لم يعلق أحداً بعدها، ولم تُعلق الصورة وانتهى أمرها للأبد. هي تعرف كيف كان جدي، وتعرف أن الصورة لا تشبهه، ولا تقول شيئاً عما كان بالفعل. هي تفكر في الأمر بهذه الطريقة ولا تقدر على صياغته، لكني متأكد أنها تشعر به على هذا النحو.
يمكن أصلاً استخدام تبرير جدتي لرفضها القاطع، لإثبات العكس، أي أنه بنفس المنطق يمكن القول إنه كون تلك الصورة لا تعبر عما كان بالفعل، فلما لا يمكن تعديلها لتشبهه أكثر، بما أن الجميع يعرف كيف كان؟
أقول هذا وأنا مثلها أميل لهذا القرار الأكثر شاعرية من الآخر الذي يجعل الذكريات سائلة. وأقول ما فكرت فيه حول الأرشيف. بعد ثلاثين عاماً أو ربما أقل بكثير، سيكون الأرشيف الشخصي لأي عائلة قد تحوّل من خلال فلاتر كثيرة لمسخ، تم تعديله إلى ما لانهاية، صار سائلاً ولن نقدر أبداً على استنطاقه.
بمجرد أن ألمح كاميرا في الأفق، أفشل تماماً في أن أكون نفسي، حتى أني أشعر بغرابة وجهي عني دون أن أراه. آخذ كافة الوضعيات التي آمل في أن تجعلني "أنا" وأفشل تماماً... مجاز
عند التفكير في الصورة كأرشيف، خصوصاً تلك الصور العادية في ألبومات العائلة مثلاً. وكيف أستطيع عند التقليب في صندوق الصور هذا أن أخمن الكثير عن نوع الحياة التي عاشوها، الطعام في المناسبات، ملابسهم التي تحكي الكثير عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها في فترة معينة، واستكمالاً لهذا النمط من تزيين حياتنا في اللحظة الحاضرة، دون تفكير في أننا نفقد حاضرنا الذي سيصير عما قريب ماضياً، ليتحول إلى أرشيف خرب غير قابل للتأويل، ولا يكشف شيئاً. هو ممتلئ بالفعل بالدلالات المتعمدة والمفتعلة.
في كل صورة سرد بصري. تجاوز ما هو مرئي لما هو كامن، أي يمكن أن نتعامل معها كنص، قابل لكل تأويل وإسقاط ممكن. الصورة خفية، وهي ليس ما نراه من أول نظرة عادةً، بل ما يأتي بعد قراءة وبعض نظر، تماماً مثل "الكلمة هنا والمعنى هناك"، يمكن أن نقول الصورة هنا ودلالاتها هناك، خلف عين موضوع الصورة "الشخص المُصَور".
في تلك الحالة لن يوجد هذا الـ "هناك" لأنه غير موجود أصلاً، ما هو إلا صوراً وضعناها عن أنفسنا، أو نود زرعها في عين من يرانا.
نغرق في دلالات متعدّدة كلها أبعد عن حقيقة ما نحن إياه، أو شبيهة بشخص ما نود أن نكونه كما في الأمثلة السابقة، ومع الوقت، نربي أفكاراً مشوهة عن أنفسنا، مزيجاً بين ما نراه في ونحب أن نكونه، وما هو فينا أصلاً ولا نتبيّنه بوضوح، لاستغراقنا في التطلع للآخر دوماً أملاً في أن نكون هو، وخوفاً من الاستغراق في أنفسنا حتى لو من باب معرفتها أكثر. هذا ليس خطاباً صوفياً ولا شيء، بل ما أفكر فيه حتى تجاه نفسي.
في كل صورة تلتقط لي، لا أكف عن تقليد نفسي
أنا الذي قد أكون المثال الأقرب لما يقوله بارت "إنه أنا الذي لا يشبهني"، حيث بمجرد أن ألمح كاميرا في الأفق، أفشل تماماً في أن أكون نفسي، حتى أني أشعر بغرابة وجهي عني دون أن أراه. آخذ كافة الوضعيات التي آمل في أن تجعلني "أنا" وأفشل تماماً.
إيماءة خفيفة غير ملحوظة من أحد أطرافي تشبهني، أو عيني التي تنظر بعيداً عن بؤرة الكاميرا بدون قصد، ما هي إلا التيه الذي يشبهني فعلاً. هكذا، فإن جزءاً صغيراً جداً مني في كل صورة أُخذت لي، وأريد إجمالاً لتلك الصور المتحركة والمهزوزة بين ألف صورة مختلفة، أريد منها أن تتطابق معي، لأن الصورة هي التي تبدو ثقيلة، ساكنة وعنيدة، وهذا أنا، الذي أبدو خفيفاً، مُشتتاً، منقسماً، كعفريت العلبة، أو هكذا يرى بارت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...