شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أطفالنا بين حضارتين... بين غضبنا من الإبادة و

أطفالنا بين حضارتين... بين غضبنا من الإبادة و"حياد" المدارس الأوروبية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بعد شهر واحد من التحاق طفلي بالمدرسة في العام الماضي، بدأت تظهر آثار أحداث السابع من أكتوبر على بيئة المدرسة.

نشأت خلافات بين الطلاب الإسرائيليين والفلسطينيين، وظهرت شعارات وملصقات، واشتدت التوترات لدرجة أقلقت الأهالي وإدارة المدرسة.

في ضوء هذه الظروف، قررت الإدارة إطلاع جميع الأطفال على ما حدث، فعرضت نشرة أخبار مصورة برسوم كرتونية تشرح أحداث السابع من أكتوبر بطريقة مناسبة للأطفال.

ولحسن حظ ابني، كانت المدرسة محايدة تماماً، ولم يظهر أي انحياز من قبل الإدارة لأي طرف. لاحقاً، أخبرتني المديرة: "المدرسة تقف في صف جميع الطلاب بغض النظر عن انتماءاتهم، ونرغب في توفير بيئة آمنة للجميع".

في ألمانيا، ثمة نشرة أخبار يومية مخصصة للأطفال، تعرض لهم أهم الأخبار التي ينبغي أن يعرفوها، بالإضافة إلى مواضيع توعوية ومعلومات مفيدة ومسلية.

تشمل هذه النشرة مثلاً، أخباراً حول نتائج الانتخابات، ومخاطر تحديات الأطعمة الحارة في المدارس، وقضايا مثل التغير المناخي ومخاطر ظهور الأطفال في محتوى وسائل التواصل الاجتماعي أو فيديوهات يوتيوب التعليمية أو الترفيهية، إذ يُعتبر استخدام الأطفال في هذا السياق كوسيلة للربح شكلاً من أشكال عمالة الأطفال، وهو ممنوع قانونياً في ألمانيا التي تحظر عمل الأطفال لضمان حماية حقوقهم وتوفير بيئة آمنة للنمو بعيداً عن الاستغلال التجاري.

عالم معقد في عيون الأطفال البريئة

في البداية، كنت أشعر بالقلق من تعرض ابني، البالغ من العمر سبع سنوات، لعالم الكبار بما فيه من أخبار وسياسة. حاولت قدر الإمكان الإجابة على أسئلته بأبسط العبارات والمعلومات، لحمايته من أي مشاعر خوف، ولإبقائه في عوالم الطفولة البريئة.

ولكنه كان يلتقط أحياناً معلومات متفرقة أو عبارات معينة، تثير فضوله وحبه للمعرفة، خلال نقاشاتنا في المنزل مع الضيوف، أو من خلال كلمة يسمعها من التلفاز أو في القطار. 

بعد شهر من التحاق طفلي بالمدرسة في العام الماضي، بدأت تظهر آثار أحداث السابع من أكتوبر. نشأت خلافات بين الطلاب الإسرائيليين والفلسطينيين، واشتدت التوترات، في ضوء هذه الظروف، قررت الإدارة إطلاع جميع الأطفال على ما حدث، فعرضت نشرة أخبار مصورة برسوم كرتونية تشرح أحداث السابع من أكتوبر بطريقة مناسبة للأطفال 

عندما سألني عن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، أخبرته بأن "روسيا ترمي الحجارة على أوكرانيا"، ومررت له بعض المعلومات البسيطة والحيادية عن سوريا. ولكن بمجرد أن علم بوجود أخبار يومية مخصصة للأطفال، أصبحت متابعتها جزءاً من روتيننا اليومي.

منذ ذلك الحين، توسعت معلوماته واهتماماته بشكل ملحوظ. قبل فترة، سمع في نشرة الأخبار أن ترامب اتهم المهاجرين بأنهم يأكلون الحيوانات الأليفة في أمريكا، وكان عرض الخبر بطريقة دقيقة تناسب تفكير الأطفال. بعد عدة أسئلة عن ترامب، توصل ابني إلى استنتاج مشابه لما توصل إليه سابقاً عن بوتين عندما اكتشف أنه يطلق النار على أطفال أوكرانيا وليس الحجارة، إذ رأى أن ترامب "ديكتاتور"، وافترض أنه ربما لم يجد من يحبه أو يقرأ له القصص عندما كان صغيراً فتحول إلى شخص كاره لا يعرف كيف يحب ويستمتع بالجمال في هذا العالم. وفي اليوم التالي لإعلان نتائج الانتخابات الأمريكية، عاد إلى المنزل عابساً بعدما علم أن ترامب قد فاز، لكنه قال لي: "لحسن الحظ، لا يمكنه الترشح للانتخابات مرة أخرى".

تربيتهم في قلب التحديات العالمية

يكبر أطفالنا في أوروبا في بيئة تختلف تماماً عن تلك التي اعتدناها في سوريا، حيث يعيشون في عالم يتسارع فيه التطور نحو الذكاء الاصطناعي والروبوتات، مع تدفق غير مسبوق للمعلومات. وكمسؤولين عن تربيتهم، ينبغي علينا كآباء وأمهات أن نتكيف مع هذه البيئات الجديدة التي ينشأ فيها أطفالنا، ليس فقط لفهمهم وتوجيههم بشكل أفضل، ولكن أيضاً من أجل تأقلمنا نحن مع الحياة هنا واكتساب مهارات تعزز فرصنا في سوق العمل، مما يضيف أعباء إضافية علينا. 

لحسن حظ ابني، كانت المدرسة محايدة، لاحقاً، أخبرتني المديرة: "المدرسة تقف في صف جميع الطلاب بغض النظر عن انتماءاتهم، ونرغب في توفير بيئة آمنة للجميع".

وفي هذه المدن الكبيرة التي نعيش فيها، نواجه تحديات دائمة ومتجددة، ربما لم تخطر على بالنا يوماً؛ إذ نسمع بشكل متكرر عن تورط مراهقين وأطفال في عصابات الاتجار بالمخدرات أو الجريمة المنظمة، وربما ينزلقون نحو التعاطي والإدمان، وقد ينحاز بعضهم إلى التطرف كرد فعل على أزمات الهوية أو نتيجة عنصرية بد يتعرضون لها، خصوصاً في ظل العيش بين ثقافتين قد لا تكمل إحداهما الأخرى، ثقافة البيت وثقافة المجتمع الخارجي.

ورغم صعوبة هذه التحديات، يظل السؤال الأهم: كيف يمكننا حماية أطفالنا في بيئة يسمعون فيها يومياً أخبار الحروب والكوارث؟ وكيف نساهم في تربية أطفال يهتمون بالقضايا السياسية والإنسانية من دون أن ينجرفوا إلى أفكار متطرفة، بحيث تصبح هذه الاهتمامات جزءاً من حياتهم وليست محور حياتهم بأكملها؟ وكيف نحقق التوازن بين تزويدهم بالوعي اللازم وتوفير الأمان النفسي لهم، ليكبروا وهم قادرون على التمييز والتفكير المستقل؟

غالبية المحتوى العربي المرئي المتعلق بالأطفال يفتقر إلى الدراسة الجادة وغالباً ما يكون هدفه الوحيد هو الربح، مما يجعل من الصعب العثور على محتوى حيادي يقدم المعلومات والنصائح والتسلية دون أن يتضمن أفكاراً مسممة دينياً أو سياسياً أو أيديولوجياً. ومن المستحيل أيضاً العثور على نشرة أخبار موجهة للأطفال، حيث لا يُعتبر تثقيف الطفل مصدر اهتمام جاداً، بل ربما تتجه العديد من الجهات إلى أدلجة الطفل أو دفعه نحو التشدد. لذا، تصبح مسؤولية توفير المعلومات الآمنة وكيفية التعامل مع أخبار الحروب والكوارث للأطفال ملقاة على عاتق الأهل وحدهم. الخيارات أمامهم محدودة، فلا يبقى أمامهم سوى تبسيط المعلومات للطفل وشرحها بطريقة منطقية أو علمية، مع تقديم الأسباب وراءها، بالإضافة إلى تأمين بيئة عائلية دافئة تحتوي الطفل وتخفف من مخاوفه، مع أخذ هذه المخاوف على محمل الجد ومناقشتها بشكل مفتوح.

أنا وابني بين الثقافات المختلفة

إذا كان الخيار يعود لي، فأنا لا أتمنى أن يدرس ابني أياً من الاختصاصات التي درستها (الموسيقى ومن ثم السياسة)، لأن الأولى "لا تطعم خبزاً"، والثانية "لا تجلب إلا التوتر والصداع". لكني بالتأكيد لن أتدخل في توجيهه أو في اختياراته. سأحاول، على الأقل، وأنا أراه مهتماً بالقضايا العامة، أن أساعده على ألا يكون سهل الانجرار وراء أيديولوجيات متطرفة، أو أن يتبنى آراء وقضايا لمجرد إعجابه بمن يحملها، أو أن يصبح شخصاً يحمل السلاح يوماً. على الأقل، سأبذل جهدي. 

غالبية المحتوى العربي المرئي المتعلق بالأطفال يفتقر إلى الدراسة الجادة وغالباً ما يكون هدفه الوحيد هو الربح، مما يجعل من الصعب العثور على محتوى حيادي يقدم المعلومات والنصائح والتسلية دون أن يتضمن أفكاراً مسممة دينياً أو سياسياً أو أيديولوجياً. ومن المستحيل أيضاً العثور على نشرة أخبار موجهة للأطفال

خلال تطور طفلي، لاحظت كيف يتغير تعريفه لنفسه مع مرور الوقت. عندما كان الخامسة من عمره، كان يعرف عن نفسه كسوري ألماني. ومع الأسف، ابني لا يحمل جنسيتي السورية، لأن المرأة لا تستطيع تمرير جنسيتها لأطفالها. لاحقاً، صار يقدم نفسه كألماني فقط. في مناسبات قليلة يقول إنه من سوريا، البلد التي لا يعرفها ولن يتمكن من زيارتها في المستقبل القريب بسبب مواقف أمه السياسية.

حتى الآن، لا يعرف ابني شيئاً عن الأديان سوى ما يلتقطه من المدرسة، حديثاً عرف بوجود المسلمين، لأن صديقه التركي في المدرسة أخبره بذلك. ويعلم فقط عن المسلمين أنهم لا يأكلون لحم الخنزير. وقد فسر الأمر ببراءة الأطفال بأن المسلمين ربما لديهم حساسية تجاه لحم الخنزير، مشبهاً بحساسية البعض من المكسرات.

عندما أخبرته قبل شهر أنني أنتمي إلى ثقافة إسلامية، رأيت في عينيه تساؤلات كثيرة لم يستطع التعبير عنها. نظر إلي باندهاش وقال: "لكن أنتِ ليس لديك حساسية من لحم الخنزير؟" ثم غادر الغرفة من دون أن يسألني المزيد أو يحاول استيعاب ما يعنيه ذلك. يبدو أن الموضوع كان أكبر من قدرته على الفهم أو صياغة أسئلة تناسب تساؤلاته الداخلية.

أسعى لتبني منهجية تربوية تدعم تطور طفلي في بيئة متعددة الثقافات، بما يضمن تجنب الانجراف نحو التشدد أو الوقوع في أزمات الهوية. أركز على أهمية الحوار المستمر كوسيلة أساسية لتعزيز التفكير النقدي، حيث أحرص على بناء النقاشات حول طرح الأسئلة بدلاً من تقديم إجابات جاهزة، مع توفير خيارات محددة تتناسب مع مرحلته العمرية وتوجيهها بالقيم الأخلاقية والمعايير العلمية.

إضافة إلى ذلك، أرى في السرد القصصي والتجارب الحياتية وسيلة فعالة لتعزيز القيم الإنسانية مثل العدالة، والتسامح، واحترام حقوق الإنسان، من دون فرض قناعات جاهزة أو مواقف محددة، مما يتيح للطفل المجال لتطوير مواقفه الأخلاقية بشكل مستقل. كما أشدد على أهمية التحقق من مصادر المعلومات وتجنب التسرع في تبني الأفكار، مع إظهار احترام لآرائه كوسيلة لتعزيز ثقته بنفسه وتشجيعه على التفكير التحليلي والنقدي. هذا النهج يهدف إلى تمكين الطفل من اتخاذ قرارات مستنيرة ومتزنة، مع الحفاظ على توازنه النفسي والاجتماعي. 

عندما أخبرت طفلي أنني أنتمي إلى ثقافة إسلامية، رأيت في عينيه تساؤلات كثيرة لم يستطع التعبير عنها. نظر إلي باندهاش وقال: "لكن أنتِ ليس لديك حساسية من لحم الخنزير؟".

لكن تطبيق هذه الأفكار ليس بالأمر السهل، خاصة في ظل البيئة المتنوعة والمفتوحة التي توفرها المدرسة، حيث يتفاعل مع أطفال من خلفيات ثقافية مختلفة، ويواجه تحديات مثل التنمر، والأفكار الراديكالية، وضغوط مسابقات حول ماركات الألعاب أو وجهات العطلات الصيفية. ومع ذلك، تبقى التحديات الأكبر هي تلك المرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة، خاصة ألعاب الكومبيوتر والموبايل، التي أصبحت سماً قاتلاً يهدد أجيالاً كاملة.

في منزلنا، اخترت عدم السماح باستخدام هذه الألعاب، وشرحت له أسبابي بوضوح. ورغم اقتناعه، يبقى يعبر عن شعور كسره اليومي لعدم تمكنه من المشاركة في هذه النقاشات مع أصدقائه في المدرسة. هذه المواقف تؤكد لي أن التربية في الغربة تحمل تعقيدات إضافية، إذ تتطلب مني جهداً مستمراً لمواكبة تطورات طفلي وفهمها، ما يجعلني أشعر أنني لا أملك رفاهية التوقف أو الاستراحة. التربية هنا ليست مجرد عملية توجيه، بل رحلة دائمة من التعلم والنمو الشخصي لتوفير الدعم الذي يحتاجه طفلي في بيئة معقدة ومتنوعة.

مهمة معقدة ونوستالجيا إلى عالم أبسط

هذه هي المهمة الصعبة والمسؤولية الأكثر تعقيداً، فمهما بذلت من جهد ستبقى هناك أمور قد لا تتمكن من إحاطتها بالكامل في تربية أبنائك. الأمر أشبه بمسار طويل تسعى فيه لحمايتهم وتوجيههم، لكنك تدرك أن كل تجربة يمرون بها قد تحمل تحديات جديدة لا تستطيع توقعها ويحيرك التعامل معها. في لحظات التعب والحيرة، أعود بذاكرتي إلى طفولتي، إذ كنا نعيش مع قناتين تلفزيونيتين فقط ونشرة أخبار الثامنة والنصف المفبركة، إلى جانب قصص سلسلة "الينبوع الأخضر"... يا لها من طفولة ساذجة، حملت بساطتها صعوبات لاحقة، لكنها كانت سهلة، بلا تعقيد أو ضغوط، إذ لم نكن نحتاج للقلق بشأن عالم متغير ومعقد كالذي نعيشه اليوم، لم نسمع كأطفال بالعديد من الحروب والكوارث ولم نر بأم أعيننا إبادة جماعية. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image