في ظل المخاوف التي تحيط بالمرحلة الانتقالية الجديدة في سوريا، يثير تشكيل حكومة إنقاذ ذات طابع أحادي اللون، وفقاً للسير الذاتية لأعضائها، الكثيرَ من التساؤلات، لا سيما مع غياب وزارة الثقافة عن التشكيل الجديد، ويواجه العاملون في المجال الفني حالةً من الضبابية بشأن مستقبلهم المهني خلال المرحلة القادمة، خاصةً مع انتشار شائعات حول تحويل مسرح جامعة دمشق إلى مصلّى، ما يزيد من تعقيد المشهد الثقافي السوري في المرحلة المقبلة.
ومع ذلك، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بإعلان "اللاجئان"، وهو أول عرض مسرحي في سوريا الجديدة بتوقيع الأخوين أحمد ومحمد ملص أو "التوأم ملص" اللذين عادا من فرنسا برفقة العديد من العائدين من منافيهم، بعد الإعلان عن سقوط النظام وانتهاء سنوات الإقصاء القسري.
تم افتتاح "اللاجئان" لأول مرة في مهرجان غرينوبل المسرحي في فرنسا، نهاية عام 2016، وجال في أكثر من عشرين مدينةً فرنسيةً، كما عُرض أيضاً في بلجيكا، وأربيل، والحفل الفرنكفوني في الأردن، ومهرجان قرطاج المسرحي في تونس، وتحوّل إلى نسخة عربية عُرضت للسوريين في برلين، وفي مهرجان "الرحالة" في الأردن حيث حصد جائزة أفضل ممثل مناصفةً مع الممثل التونسي محمد الخوجا، وأصبح عرض دمشق بتاريخ الـ21 من كانون الأول/ديسمبر الماضي، أي بعد ثلاثة عشر يوماً من سقوط النظام، هو العرض رقم 70 منذ بداية عرضه.
يواجه العاملون في المجال الفني حالةً من الضبابية بشأن مستقبلهم المهني خلال المرحلة القادمة، خاصةً مع انتشار شائعات حول تحويل مسرح جامعة دمشق إلى مصلّى، ما يزيد من تعقيد المشهد الثقافي السوري في المرحلة المقبلة
كان المفترض أن يتم العرض على خشبة مسرح القباني، لما يحمل من رمزية مرجعية إلى حادثة إحراق مسرح "أبو خليل القباني"، في دمشق قبل أكثر من مئة وخمسين عاماً من قبل متشددين، لكنه لم يتم كما المراد، فلم يفتح المسرح أبوابه للأخوين لتنصّل مديرية المسارح والموسيقى من مسؤولية اتخاذ قرار فردي بفتح المسرح دون الرجوع إلى جهة عليا توعز بذلك، حيث أحالت الأخوين على وزارة الثقافة المستبعدة من الحكومة الجديدة، كونها كانت الجهة المرجعية لمديرية المسارح في السابق، والخالية تماماً الآن من أي موظف باستثناء الوزيرة الوحيدة في مكتبها، والتي ما كان منها سوى إرسال طلب للموافقة على العرض إلى قناة التلغرام الخاصة بـ"إدارة العمليات العسكرية" في موقف سوريالي كامل يكشف مدى الإقصاء والخوف المكرّسين لدى موظفي الدولة والسوريين عموماً من اتخاذ أي قرار فردي قد يحاسَبون عليه لاحقاً.
في اليوم المحدد للعرض، انتظر الأخوان الموافقة حتى الخامسة والنصف من بعد الظهر لكنها لم تصل، وكان حلّهما البديل الذي سبق أن صرّحا به من خلال صفحتهما الشخصية على فيسبوك، العرض في الشارع أمام المسرح إن لم يفتح أبوابه.
اللافت في إعلان فيسبوك، التعليقات عليه: "رجعنا لطلب موافقات أمنية لحتى نعمل مسرح؟"، و"يفتح كما فتحت السجون والمعتقلات لتصبح حتى مسارحنا حرّةً من جديد"، و"هذا هو المسرح، هذه هي الثورة والمقاومة... برافووووو"، و"سنونوّة واحدة تبشر بالربيع"، و"لازم تعرضوا بالمسرح منشان نكتب مسرح القباني ‘صديق’"، و"إذا كان مسكّر اخلعوا الباب وفوتوا... في سوريا الجديدة يجب ألا يُحرق مسرح القباني مرتين".
بعد التواصل مع بعض الأصدقاء، أُلغيت فكرة العرض في الشارع بسبب البرد والخوف من التسبب في الفوضى، وتم استبدال مكان العرض بمسرح الخيّام القريب، وهو مسرح يقوم باستثماره أحد الأشخاص ليقدّم على خشبته عروضاً تجاريةً للأطفال، ولم يحظَ باهتمام وزارة الثقافة يوماً وكان خارجاً عن سلطتها، حيث توزع الأصدقاء في الطريق بين المَسرحين ليخبروا الجمهور عن مكان العرض الجديد.
كان يوماً استثنائياً أرجعني إلى دمشق ما قبل الـ2011، وذكّرني بأيام مهرجان دمشق المسرحي حين كنّا نسرع الخطى بين مسرح وآخر لحضور العروض، وكذلك الأحاديث والنقاشات التي كنت أسمعها لكن بصوت عالٍ هذه المرة ومن دون خوف.
تدريجياً، امتلأت صالة مسرح الخيام التي تتسع لنحو 500 متفرج، مع وجود الكثير من المصوّرين ووكالات الأنباء لما عُرف عن مواقف الأخوين المعارضة للنظام في السابق، وانحيازهما إلى الثورة السورية منذ بداياتها. أضف أنّ هذا العرض دعائيّ للثورة؛ مسرح بلا رقابة ولا مقصّ رقيب.
تمّت جميع التحضيرات للعرض على عجل؛ ديكور ارتجالي مكوّن من مقعدين وطاولة صغيرة عليها كمبيوتر محمول، أما البانوهات التي غطّت خلفية المسرح، فهي ذاتها التي كانت تُستخدم في العروض السابقة على هذه الخشبة، حتى أن الملابس مستعارة من المسرح.
بدأ الحدث بتقديم من الأخوين: "يتحدث العرض عن الغربة ونحن نعيش داخل سوريا في غربة أيضاً أو في حالة لجوء... نشكر الشهداء الذين كانوا السبب في وجودنا الآن في هذا المكان، ونريد القول للأخوين بشار وماهر... أنتم برّا... بينما الأخوان ملص هنا"، فتعلو الهتافات في الصالة وتجتاحها موجة من التصفيق.
العرض مزيج من السورية المحكية واللغة الفرنسية. سوريان يقتسمان شقةً في فرنسا، أحدهما كهل أبيض الشعر بينما الآخر شاب، يظهر على الخشبة برأس مضمّد، فقد صدمته سيارة بيجو، وهذا أمر طبيعي في فرنسا، فهي سيارة فرنسية الصنع، في تلميح إلى سيارات البيجو 504 التي كانت شائعةً لدى المخابرات السورية.
ومع تقدّم العمل، تظهر ملامح الشخصيات أكثر وضوحاً، فالكهل يتقن الفرنسية، يقرؤها ويستمع إلى أغانيها، بينما الشاب لا يتقن اللغة ويعاني من صعوبة الاندماج في المجتمع الفرنسي، إلا أن كلاً منهما يشعر بالوحدة في هذا المكان، إلى درجة أن الشاب يفكر بطريقة يعترف فيها بحبه للجارة الفرنسية ذات الـ75 عاماً، فقط لأنه وحيد، ويريد من يؤنسه.
يرنّ الهاتف ويرد اتصال من دائرة اللجوء بقطع الراتب عنهما، وتحديد موعد مقابلة، فيراجعان خريطة مترو الأنفاق للوصول إلى هناك، وما أن ينجحا في تفكيك رموز الخريطة حتى يقرّا بفرح بأنهما لا بد أن يكونا فرنسيين أصيلين طالما استطاعا فعل ذلك، وعليه يرتديان ملابسهما الزاهية ويستعدان للخروج.
في اليوم المحدد للعرض، انتظر الأخوان الموافقة حتى الخامسة والنصف من بعد الظهر لكنها لم تصل، وكان حلّهما البديل الذي سبق أن صرّحا به من خلال صفحتهما الشخصية على فيسبوك، العرض في الشارع أمام المسرح إن لم يفتح أبوابه
لكن محاولة الاندماج الكامل في المجتمع الفرنسي تفشل، فيصابا بالإحباط ويقررا الانتحار بوردة لعدم وجود سكاكين في شقتهما في إحالة إلى رواية "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، للروائي الراحل خالد خليفة، ويقترح الشاب على الكهل أن يرحل، فيجيب: "مو شي محترم إنو تقللي ارحل... أنا ماني رئيس جمهورية"، ما يستدعي التصفيق في الصالة.
يتخلل العرض الكثير من الأغاني الفرنسية التي ترقص الشخصيتان على أنغامها أحياناً، ومع تغيّر اللحن إلى العربية إلى أغنية "ع المايا ع المايا عل عين يا ملّايا"، تقول إحدى الشخصيتين إنها كانت ترقص على أنغامها في جنوب سوريا، بينما تقول الأخرى إنها كانت ترقص أيضاً على أنغامها في شمالها، ليبدأا الرقص معاً في إشارة إلى وحدة الشعب السوري من الشمال إلى الجنوب، وهما يرتديان تيشيرتات تحمل العلم السوري الجديد.
لست هنا في صدد تفكيك البنية والأداء ومناقشة الشكل الفني الذي مال نحو الإسكتشات أكثر من كونه عرضاً مسرحياً متكامل العناصر، إنما الحالة الجمعية غير المعتادة التي رافقت العرض، ففي الختام صفق الجمهور كثيراً وردد شعارات: "عاشت سوريا حرّةً أبيةً"... "عاش الشعب السوري العظيم".
هناك، وفي ذلك اليوم، التقيت أصدقاء لم أرَهم منذ سنوات وباركت للكثيرين بوصولهم إلى سوريا بالسلامة، وسمعت مقتطفات من حوارات مؤلمة جداً:
- "بكرا بدّي زور صيدنايا والفرع 215".
- "ما كنت عم فكّر جيب ولاد لأنو ما عندي وطن... هلأ صار"...
وأحاديث كثيرة أخرى وكأن سوريا في حالة عزاء لكن دون ورقة نعي.
ما أتمناه فقط أن من عادوا سيبقون معنا هنا، خلال المرحلة الصعبة القادمة، لا أن تكون مجرد زيارة عابرة لقضاء فترة الأعياد وزيارة القبور، يعودون بعدها إلى بلدان لجوئهم التي تحولت على مدى السنوات الطويلة الماضية إلى أوطان بديلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ ساعةاهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
Taro isyo -
منذ 10 ساعاتTest
Karem -
منذ يوميندي مشاعره وإحساس ومتعه وآثاره وتشويق
Ahmed -
منذ أسبوعسلام
رزان عبدالله -
منذ أسبوعمبدع
أحمد لمحضر -
منذ أسبوعلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...