قليلة هي العروض المسرحية في دمشق اليوم، لهذا هي مليئة بقصص غائبة لا يوجد مساحة داخلها لكي تُروي ونعرف من خلالها سردية المدينة وصراع الإنسان داخلها، وفي هذه القلة نشر مسرح القباني عن مسرحية جديدة بعنوان "ساعة واحدة فقط" تأليف "زيد الظريف" وإخراج "د. منتجب صقر"، مع صورة البوستر التي كانت عبارة عن حيوان حردون يطوّق وردة بنفسجية بجسده وذيله داخل غابة. نفهم صورة البوستر عندما ندخل إلى المسرحية ونفهم علاقة سامح (الحردون) مع أخته هالة.
هل تعكس المسرحية حالة دمشق اليوم؟
تبدأ المسرحية بدخول فتاة تدعى صبا إلى قبو معتم فيه امرأة تدعى هالة تمشي على عكاز، عُيّنت صبا (الحاصلة على ماجستير في الأدب العربي) لكي تقرأ كتب لهالة بهدف تسليتها، وقد عُيّنت من قبل سامح الأخ الكبير لهالة، التي حُبست طوعياً في هذا القبو بعد حادث سيارة توفي فيه خطيبها فيليب وتسبب لها في عجز في قدمها.
قليلة هي العروض المسرحية في دمشق اليوم، لهذا هي مليئة بقصص غائبة لا يوجد مساحة داخلها لكي تُروي ونعرف من خلالها سردية المدينة وصراع الإنسان داخلها، وفي هذه القلة نشر مسرح القباني عن مسرحية جديدة بعنوان "ساعة واحدة فقط"
بعد الحادث سيطر سامح على أعمال ومنزل العائلة ونراه في المسرحية يسعى خلف الذهب وباقي أوراق الملكية من هالة، تدخل صبا عالم هذه العائلة البرجوازية، متعاطفةً مع هالة التي تعيش في ظلم كبير، لتصبح هي في ساعة عملها الوحيدة في اليوم الضوء الوحيد الذي ينير حياة هالة الخاضعة لسلطة أخيها الذكورية، فيوم يتحدثان عن الحب، ويوم تتخيلان أماكن جميلة في دمشق وأنهما يمشيان داخلها، هاربين من خلال الخيال من واقع وسجن سامح الذي يبدو شخصاً سايكوباتياً، إلى أن تدعو صبا هالة إلى الهرب، ولكن وفي اللحظة الأخيرة تتراجع هالة وتعود إلى المنزل، لنرى أن سلطة السيطرة قد تتعدى الجدارن المادية إلى خلق جدران داخلية تمنعنا من البحث عن الحرية، تنتهي المسرحية بقرار صبا في الرحيل من البلاد مقررة أن تترك أمها التي تمارس عليها سلطة تملكية خُلقت عندها بعد رحيل زوجها بلا سبب أو عنوان، تقرر صبا الذهاب باحثة عن أبيها أو عن فكرة الخروج والحرية التي تجسدت في عقلها بخيال أبيها، ونعود إلى هالة وسامح وهما يبحثان عن فتاة جديدة تحل محل صبا.
مستويات سلطة الذكر في النص
تناقش المسرحية سلطة المجتمع الذكوري على عدة مستويات، الأول بحضور الذكر في حياة الأنثى، مثل حضور سامح الذي لديه حس تملكي طفولي تجاه أخته الذي يجعل من حياتها سجناً وجحيماً، حيث في اللحظة التي وقعت فيها استغل هذه الوقعة لكي يسيطر على حياتها ولكي يرضى غروره وأهدافه الشخصية، ونرى أثر هذه السلطة خصوصاً في العائلة البرجوازية التي تتعدى السيطرة المباشرة، فعندما نجحت هالة بالهروب من المنزل اختارت العودة بحجة أنها لا تريد أن تترك المنزل لسامح وحده، ونراها أيضاً في المشهد الأخير وهي تسأل عن الفتاة الجديدة وكأنها تسأل عن غرض جديد في المنزل، فنرى علاقة الخضوع والحرية في تفاصيل العائلة البرجوازية التي تهمها كلام الناس وأموال العائلة أكثر من الحرية الذاتية التي تستعدي التخلص من كل شيء.
تبدأ المسرحية بدخول صبا إلى قبو معتم فيه امرأة تدعى هالة تمشي على عكاز، حيث حُبست الأخيرة طوعياً بعد حادث سيارة توفي فيه خطيبها فيليب وتسبب لها في عجز في قدمها.
والمستوى الثاني هو غياب الذكر المتمثل في والد صبا الراحل، وصورته في خيال ابنته التي تبرر رحيله هذا متمنية أن تتواصل معه لتفهم الكثير عن ذاته وذاتها وذات أمها التملكية المتناقضة التي تجعل من حياة صبا صعبة وتدفعها للتبرير والرحيل، ولكن أيضاً قد تكون هذه الشخصية المتناقضة التملكية هي نتيجة عن رحيل الزوج عنها، وهنا تختلف مفردات الخضوع والحرية لدى طبقة صبا وعائلتها التي يبدو لها الرحيل هو الحل الوحيد لإيجاد النجاة متخلين عن كل شيء.
العالم كـقبو
تدور أحداث المسرحية داخل قبو، نرى كيفية تحول القبو لأماكن عدة، مكان موحش وبارد ومظلم، مكان حالم وجميل وخيالي، مكان فارغ للتعبير عن الذات والعودة للماضي، مكان للعائلة، ومكان غريب لصبا، هي رؤية العالم التي أراد المخرج والكاتب إيصالها، عن صورة المدينة اليوم، ودخول مفردات السلطة في ذوات الحالمين في الحرية لكي تدعوهم إلى إما إلى الخضوع وهم يكذبون على ذواتهم، وإما إلى الرحيل كحل أخير للنجاة من المكان والعلاقات داخله ضمن البحث عن أمل ما، ولعل المناقشة والتفكير في هذين الخيارين هو الخيار الثالث الذي يتمثل بالبقاء والمقاومة المستمرة لمفردات الواقع والسلطة.
يمكن إدراك هذه الأفكار التي يناقشها العرض من متابعة الحكاية بشكل سطحي وأولي، ولكن هل يحقق العرض الإدراك العاطفي لهذه الأفكار الذي يجعلنا نبرر ونتعاطف ونتفاجئ ونشعر مع الشخصيات؟ فالمهم في العروض المسرحية هي كيفية المناقشة وكيفية الطرح وليس الفكرة أو الحكاية ذات نفسها، كيف ناقش العرض بعناصره هذه الأفكار؟
بداية كان هناك قصور واضح على المستوى النص، الذي كان مليئاً بكلمات رنانة وفصيحة لا تنتمي للغة المحكية اليومية التي تقدم الشخصيات ذواتها من خلالها، فتبدو بعض الجمل مقحمة إقحاماً يكسر الإيقاع السمعي لدى المتلقي في تلقي الأحداث والحوارات، كما كان هناك قصور واضح في بناء الشخصيات التي ينقصها المنطق في اتخاذ القرارات، لتبدو لنا الأفعال في العرض أفعالاً مقرر حدوثها وليست مبنية على تصاعد نفسي واضح ومنطقي.
فنرى هالة من المشهد الأول في المسرحية تخبر صبا الفتاة الجديدة عن تفاصيل حياتها وصراعها مع أخيها، مع أنه من المفروض لهذا الشخصية أن تكون حريصة أو تضع في اعتبارها أن هذه الشخصية هي أداة من أدوات أخيها في السيطرة عليها، كما أننا نرى صبا من المشهد الأول تقرر مساعدة هالة دون أن تعيش صراعات بسيطة عماذا سيحدث في وظيفتها التي عانت في الحصول عليها ما أن ساعدت هالة على الهروب.
كما نرى شخصية سامح الذي بالغ في دور السايكوباتي ذي هدف وحيد وهو المال، فتبدو الشخصيات أنماطاً أكثر منها شخصيات ذات أبعاد نفسية تبرر أفعالها، فمع وجود أبعاد ثانية للشخصية تتمثل في قصة الحب التي عاشتها هالة وانكسارها النفسي الذي انعكس على انكسارها الجسدي الذي منعها من الخروج، هذه كلها تتمثل في حياة صبا مع خيال أبيها وحضور والدتها وحبيبها العسكري ورحلة بحثها عن الأمل والنجاة، وتتمثل أيضاً في ماضي سامح الذي نرى أن شخصيته ما هي سوى انعكاس أثر صدمة فقدان والدته وبحثه عن الجدوى التي وجدها في المال فعلقت شخصيته بشخصية طفل بعمر السابعة.
إلا أننا نرى هذه الأبعاد عبر منولوغات الشخصيات التي تفتح لنا هذه الأبواب في حياة الشخصيات، ولكننا لا نراها في سلوكها وأفعالها اليومية ضمن أحداث المسرحية، لهذا نرى انفصالاً في المعنى ما بين المنولوغات وسلسلة أحداث المسرحية، إلا في النهاية مع هالة عندما تقرر العودة عن قرار هربها ويتجسد صراعها النفسي والطبقي مع سلوكها ومصيرها في الحكاية.
تناقش المسرحية سلطة المجتمع الذكوري على عدة مستويات، الأول بحضور الذكر في حياة الأنثى، مثل حضور سامح الذي لديه حس تملكي طفولي تجاه أخته الذي يجعل من حياتها سجناً، كما نرى أثر هذه السلطة في العائلة البرجوازية
وإذا انتقلنا من منطق الشخصيات المكتوبة إلى المنطق الأدائي نجد مقترحات أدائية مبتورة مثل العرج في شخصية الهالة التي قد نبني عليه كل منطق شخصية الذي يعكس عجزها الداخلي، فنرى هذا العجز في المشهد الأول فقط ويختفي فجأة بعدها ليبدو الكثير من البوح الذي باحته هالة لصبا في المشهد الأول عن عدم مقدرتها في خدمة ذاتها غير منطقي وبلا معنى، كما أن العرض كان حافلاً بالثرثرة الحركية التي لم تساعد على خلق ميزانسين للعرض، فكانت تتحرك الشخصية من مكان إلى مكان أثناء حديثها لعدم وجود فعل واضح تقوم فيه، وهذا يستعدي مبالغة في الحركة تنعكس على الأداء فتعزز تقديم الشخصيات كأنماط في سلوكها وكيفية حديثها وحركتها، حيث لا خصوصية حركية تم إكمالها للنهاية، فحتى حركة سامح المستمدة في حركة الحردون والتي خلقت نوع من الكوميديا وقعت في فخ النمط والمباشرة في الطرح التي كانت موجودة في الجمل الرنانة في النص.
كل هذا القصور في عناصر العرض جعل من العالم الماثل أمامنا غير حقيقي، وصراع الإنسان داخله غير حقيقي، فتبدو اللحظات الأكثر درامية في العرض مضحكة في وقت الإضحاك غير مقصود في التلقي.
أثناء العرض تسأل هالة صبا "هل الحب كاف؟" لعلي خرجت من العرض بهذا السؤال فقط مع صورة الحردون الذي يحبس الوردة البنفسجية، هل الحب كاف؟ هل العمل كاف؟ هل رغبتنا بطرح صراع وأفكار كافية؟ هل هذا انعكاس ما نعيشه في دمشق القبو اليوم؟ انعكاس اقتصادي وسياسي واجتماعي يجعل من المحاولة في خلق سردية قاصرة تعبر عن قصور المدينة ذاتها في لحظة تاريخية إشكالية بدأت تخلق واقعاً يومياً مخفياً كئيباً وقاسياً لا يكفي داخله الحب أو الرغبة فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...