وحين نريد بدء هذا الحديث ومن أي زاوية كانت، سنعود دوماً لمجموعة عوامل تضعنا مع أسئلة معقدة عن الثقافة المربوطة بالدولة، ولا نعني هنا الثقافة المدعومة من الدولة التي تحرص على تقديم كافة أساليب الدعم للفنانين، وإنما الثقافة المرتبطة بأجندة الحزب الحاكم.
حين أصبحت المراكز الثقافية في سوريا تحت رعاية الحزب، خنقت كل شيء وفرّغته من جوهره وأبعدت الناس عنها.
تبدأ هذه الأسئلة من المعنى والمحتوى اللذين تعاني فيهما هذه الثقافة حين تحاول تحديث مصطلحاتها ومفاهيمها بعيداً عن السائد المطلوب من المنتج الفني الثقافي، كبروباغندا للدولة وتأكيد لسلطتها، وليس انتهاءً بشكل عمارة المكان الذي عليه أن يحتضن أنواع الثقافة المختلفة، وهو، على غرار كل شيء، تحوّل في سوريا وانتقلت ملكيته من الفاعلين/ات المهتمّين/ات إلى الدولة وأيديولوجيتها وموظفيها/موظفاتها.
تغيّرت العمارة الثقافية في سوريا، وافتتحت الدولة المراكز الثقافية في جميع أنحاء البلاد، لكن حين أصبحت هذه المراكز تحت رعاية الحزب، تقدّم فيها مهرجاناته الخطابية ومناسباته الحزبية المعتمدة بشكل أساسي على البروباغندا السياسية، خنقت كل شيء وفرّغته من جوهره، فأبعدت الناس عنها، ولم يبق لنا إلا بعض الأماكن والصالات المتفرقة هنا وهناك.
سينما في الصالحية والمرجة والحميدية
رغم وصول السينما إلى حلب عام 1908، إلا أن صالة "جناق قلعة" التي شُيّدت عام 1916 في شارع الصالحية بدمشق، تعدّ أول صالة عرض حقيقية عرفتها سوريا، وقد احترقت كلياً بعد افتتاحها بشهر.
بعد ذلك بسنتين ظهرت سينما "الزهرة" في ساحة الشهداء أو المرجة، وكانت تعرف شعبياً باسم سينما "باتيه" نسبة للشركة صاحبة أول فيلم عُرض في الصالة، وفي عام 1920، أُنشئت سينما "الإصلاح خانة" بالقرب من سينما "الزهرة"، تلا ذلك بثلاثة أعوام ظهور سينما "النصر" قريباً من سوق الحميدية، لكن مصيرها كان مأساوياً على دمشق، إذ اندلعت النيران فيها بسبب إفلات بكرة الفيلم واصطدامها بمصباح كهربائي عام 1929، ثم انتشر اللهب ليطال الأحياء المجاورة، فكان حريقاً هائلاً دمر عدداً من المنازل والأسواق والأحياء، وبشكل أساسي محلة "السنجقدار"، كما طال الجزء الخلفي من سينما الزهرة فتوقف العمل فيها.
سينما زهرة دمشق في ساحة المرجة - المصدر: موقع التاريخ السوري المعاصر
وفي العام 1924، أنشأ توفيق بن حبيب شمّاس، وعائلته من أوائل العائلات التي استثمرت بالسينما التجارية في سوريا، صالة "الكوزموغراف" في منطقة البحصة، وتحولت لسينما "أمية" لاحقاً، ليتشارك بعدها مع إخوته وأبناء قطان وحداد في إنشاء صالتي "العباسية" و"دمشق"، ولهؤلاء جميعاً يعود الفضل في إدخال السينما الناطقة إلى صالات العرض السورية.
ثم تسارع إنشاء الصالات في معظم المدن السورية الكبيرة، ليصل إلى ذروته بُعيد الاستقلال، ودخلت السينما إلى حياة الناس بفضل مستثمرين أنشأوا صالات السينما الخاصة في أرجاء البلاد، ونذكر منها سينما "دمشق" المملوكة لعائلة ميرابيان في مدينة القامشلي، وأُنشئت قُبيل الاستقلال، وسينما "دجلة" وهي من أوائل صالات محافظة الحسكة وافتتحت عام 1964 لمالكها يوسف إيليا، في حين تعود بدايات السينما في محافظة إدلب إلى عام 1942، حين أنشأ عبد الحميد قوصرة أول سينما على سطح أحد المقاهي في منطقة "البازار"، بينما كانت أول سينما في مدينة حمص هي "الأوبرا" في بداية الأربعينيات، وجلب اللبناني عبدو سعادة أول صالة سينما إلى السويداء في بداية الثلاثينيات.
وفي حين يعود تاريخ بناء أغلب صالات السينما في سوريا إلى أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات، فقد زال معظمها مع ظهور المخططات العمرانية الحديثة، وتحوّلت تلك التي لم تمح كلياً إلى صالات أفراح، ما خلق أزمة حقيقية لهذا الفن، فوثائق دمشق وحدها تذكر بأنها حوت في الخمسينيات 100 صالة سينما، لكن لم يعد فيها مع مطلع العام 2010 إلا 8 تقريباً، بينما مجمل الصالات في باقي المحافظات لا يتجاوز 22 صالة، وبعض المدن لا تحوي أي صالات فاعلة على الإطلاق.
سينما العباسية في دمشق - المصدر: موقع التاريخ السوري المعاصر
دمشق السبّاقة في المسارح
رغم أن موضوع الاستثمار بصالات السينما كان أمراً منتشراً، لأنه لا يتطلب أي معرفة ثقافية أو فنية، ولكنه بالمقابل يحتاج إلى أدوات ومعدات وشكل خاص للقاعة، كان الاستثمار بصالات المسرح أكثر مرونة، ويمكنها أن تبدأ من أي قاعة.
ولئن بدأ الحراك المسرحي السوري مع أبو خليل القباني عام 1871، إلا أن تخصيص أول صالة لتكون مسرحاً عرفته دمشق كان عام 1913، تحت اسم "زهرة دمشق" في ساحة المرجة، وتبعها بعد سنوات قليلة تأسيس مسرح "النصر" في سوق التبن و"القوتلي" في جادة السنجقدار.
إعلان لمسرح زهرة دمشق عام 1913 - المصدر: موقع التاريخ السوري المعاصر
ومع ذلك، ولفترة طويلة، بقيت الأندية المسرحية المستقلة وفرق الهواة الفاعل الأساسي في الحراك المسرحي السوري وخاصة في دمشق، وكانت تعرض في أماكن مختلفة، مثل توفيق العطري الذي اتخذ من قاعة "الكشاف الرياضي" في شارع خالد بن الوليد مكاناً له، في فترة ما بعد 1924، ولاحقاً من بيت وصفي المالح مكاناً لاستضافة أنشطة "النادي الفني" في بداية الثلاثينيات، وأبو الوهاب أبو السعود الذي كان يقدم عروضه قبل 1918 على مسرح مدرسة "الملك الظاهر" في دمشق، ثم في صالة النادي العربي في العهد الفيصلي، وهكذا كان الحال مع كل النوادي المختلفة التي كانت تستطيع تحويل أي مكان إلى مسرح، ومنها النادي الشرقي والمسرح الحر والنادي الفني وأنصار المسرح ودار الألحان للفنون والتمثيل.
انتهت مرحلة المسرح المستقلّ ونواديه مع قدوم الوحدة مع مصر، وليس من العجيب أن أوّل المسارح المدعومة من الدولة آنذاك كان المسرح العسكري، الذي أُسّس تشبّهاً بالمسرح العسكري في الإقليم الجنوبي من البلاد "مصر"، سنة 1958.
تشي هذه المعلومة بتحوّلات الحال المسرحي في دمشق وسوريا عموماً، فبسطت الدولة سيطرتها، ضمن منطقها الاشتراكي في رعاية الفنون، على قطاعات الحياة الثقافية بكلّ أشكالها، وبالتحديد منذ أواخر عام 1959 حين دعت مديرية الفنون التابعة لوزارة الثقافة آنذاك، النوادي والفرق الفنية والمعنيين بشؤون المسرح والعاملين/ات فيه، إلى اجتماع تمهيدي لبحث موضوع تأسيس فرقة قومية رسمية على غرار فرقة المسرح القومي في مصر، دُعيت "المسرح القومي"، وكان أوّل عروضها عام 1960 بعنوان "براكساجورا" من إعداد توفيق الحكيم، وكانت على مسرح "المقاومة" في حي ساروجا.
انتهت مرحلة المسرح المستقلّ ونواديه في سوريا مع قدوم الوحدة مع مصر، وليس من العجيب أن أوّل المسارح المدعومة من الدولة آنذاك كان المسرح العسكري، الذي أُسّس تشبّهاً بالمسرح العسكري في الإقليم الجنوبي من البلاد "مصر"، سنة 1958
ومنذ تلك اللحظة، أي مع تحديد الشكل الرسمي للفرق المسرحية وتبعيتها للدولة والحزب، انحصرت الفعاليات المستقلّة حتى انعدمت نهائياً، وصار شكل العروض المقدمة على المسارح التابعة للدولة يفترض موافقة من الجهات المختصة، ورقابة مستمرة، وبالتالي أصبحت الصالات المسرحية هي بشكل رئيسي تلك التابعة لمديرية المسارح والموسيقى، وهي ثلاثة مسارح في دمشق: "القباني" الذي أنشئ أوائل الستينيات، وكان أول صالة مسرح رسمية في سوريا بسعة 200 كرسي، و"الحمراء" الذي أنشئ عام 1966 بسعة 400 كرسي، ومسرح "العرائس" المخصص لعروض العرائس والأطفال، بالإضافة لمسرحي دار الأوبرا ومسرحي المعهد العالي للفنون المسرحية، بينما هنالك صالة واحدة في طرطوس وأخرى في اللاذقية بسعة 250 كرسي، فيما غابت المسارح تقريباً عن بقية المحافظات، فيوجد في حماه مجمّع كبير تابع لمديرية الثقافة، أما في حلب مثلاً فلم يكن هنالك من وجود لصالة مسرح واضحة، وكانت كل عروض المسرح القومي تتم في صالة دار الكتب الوطنية، في حين أن إدلب لم تملك صالة، أما المحافظات الباقية مثل حمص والحسكة والسويداء ودرعا ودير الزور، فليس لها إلا صالات المراكز الثقافية.
مسرح الحمراء في دمشق
المكان كرمز
مع بداية الألفية الثالثة، كانت صالات السينما قد اختفت تدريجياً من الحياة الثقافية في سوريا، وأصبح المسرح مربوطاً بشكل شبه وحيد بصالات المسرح القومي التي تعاني الإهمال وغياب الترميمات، وفي حين أن الفساد الثقافي كان قد استشرى في كل التفاصيل، وأصبح من الصعب جداً حماية روح المبادرة لدى الشباب/الشابات الطامحين/ات للمسرح وللسينما، أصبحت هنالك أعراف معقدة مثقلة بالبيروقراطية الأمنية لأي مسرح مستقلّ، ناهيك عن التفكير بسينما مستقلة.
أما المكان المعماري الذي يحتضن عادة مجمل الحالات الثقافية، ويرمز لحضور أو غياب الثقافة في بلد ما، كان له في سوريا على الدوام حالة إشكالية، فالرسمي منه لا ينتج عروضاً إلا بشقّ الأنفس، ما يجعل العاملين/ات فيه "مناضلين حقيقيين ويكادون أن يصيروا قديسين في الظروف القاسية والمتقشفة التي يعملون بها، إناثاً وذكوراً"، كما صرح الكاتب والمترجم نبيل الحفار عام 2007، وهو ذاته المكان الذي سقط فعلياً مع مجمل ما دُمّر من البلاد. وحتى العمار الذي لم يدمّر فعلياً خلال الحرب، كان مآله يشبه الانحسار والانزياح الثقافي الذي حصل فعلياً منذ سبعينيات القرن الفائت.
مع بداية الألفية الثالثة، كانت صالات السينما قد اختفت تدريجياً من الحياة الثقافية في سوريا، وأصبح المسرح مربوطاً بشكل شبه وحيد بالمسرح القومي الذي يعاني الإهمال، واستشرى الفساد الثقافي في كل التفاصيل، وأصبح من الصعب حماية روح المبادرة لدى الفاعلين الثقافيين
ففي دمشق حيث أغلقت دار الأوبرا أبوابها في وجه أبنائها/بناتها المسرحيين/ات ولم يعد لديهم/ن القدرة على العرض فيها، وتحولت مسارحها الأساسية لأدوات دعائية تحتضن ما تيسر من المسرحيات القومية، لم يبق أمام الناس إلا قاعتي المعهد العالي للفنون المسرحية اللتين تحتضنان الآثار الباقية المتبقية للمسرح في البلاد، في حين أن السينما أصبحت مرتبطة بإنترنيت جيد ومواقع قادرة على اختراق منصّات البث العالمية، ولابتوب جيد ضمن كهرباء مناسبة لا أكثر.
ولا يمكننا في خضم كل هذا أن ننسى الحديث عن التجارب المسرحية أو السينمائية المنفردة التي حاول أصحابها/صاحباتها تحدي الموجود وتغييره، ونذكر منها مثلاً البحث عن أماكن عرض مسرحية بديلة مع المخرج والدراماتورج أسامة غنم ومسرحيته "حدث ذلك غداً" في "محمصة الشطا" بدمشق القديمة، والممثلة والمخرجة نورا مراد مع فرقة "ليش" وعروضها المتنوعة، ومنها "ألف مبروك" في قلعة دمشق، والمخرج سامر عمران والممثل محمد آل رشي في "المهاجران" التي عرضت بقبو مخصص ليكون ملجأ تحت إحدى الحدائق، أو المعاهد المسرحية الخاصة التي فتحت المجال لعروض محدودة العدد وتجريبية، مثل عرض "ارتجالية أوهايو ووقع الخطى" في مدرسة الفن، أو خلق النادي السينمائي مع المخرج عمر أميرالاي في خمسينيات القرن المنصرم واستمراره حتى 1988، أو حتى عودته في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق لاحقاً، وغيرها الكثير من الأنشطة والمحاولات التي جرّبت أن تخرج الثقافة في سوريا، من حدود إسمنتية أمنية مسيطر عليها نحو مكان يعيش فيه الناس فعلاً.
مع ذلك، لم تنجُ تلك المحاولات فعلياً من تضييق وتقييد، إذ إن التجمّعات خارج الأطر المؤسساتية في شوارع البلاد هي موضوع معقّد، ازدادت صعوبته مع بداية الثورة السورية التي زادت الضغط، ليتحول الفعل الثقافي بالمجمل إلى أداة إيديولوجية، وصارت الأماكن البديلة تهمة جاهزة لأي فعل ثقافي. وهكذا، فما كان ليبدو في لحظة أنه تصميم خروج عروض المسرح والسينما من أماكنها التقليدية في دمشق شكلاً ومضموناً، صار اليوم لحظة ضغط إضافي للعودة إلى المنصّات والمواضيع "المشروعة"، ليبقى الاستثناء في تلك الأمور شجاعة وتحدياً واضحين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...