شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"أن يروي لنا ممثل فرنسي عن دمشق"... إضافة فرنسية أم خسارة عربية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والمهاجرون العرب

الأحد 14 يناير 202412:46 م

عرضت في مدينة تروا الفرنسية مع نهاية عام 2023، مسرحية "طيران فوق عالم قذر" للكاتب السوري فارس الذهبي، وقد لعب دور البطولة فيها الممثل الفرنسي آلان دومانجيه، وأخرج العرض الذهبي نفسه بالشراكة مع الرسام إبراهيم رمضان الذي أنجز المادة البصرية المرافقة للعرض.

كانت المواد البصرية المرافقة للعرض أساسية في نقل المتفرج مباشرة إلى دمشق، إلى حاراتها الضيقة وباحات أرض الديار الواسعة فيما يتطاير الحمام، كما كانت أحياناً تعبيراً عن العالم المهشم الذي يعيش فيه البطل.

كانت تجربة خاصة ومؤثرة أن يروي لنا ممثل فرنسي عن دمشق، أن يأخذنا معه في جولة في عمق مدينتنا، وأن يتبنى تلك الرحلة لنصدق أنه كان هناك معنا يوماً ما.  

المسرحية تكسر العديد من التابوهات العربية، فهي مسرحية مونودراما (لممثل واحد)، كمسرحيات سابقة كتبها الذهبي نذكر منها مولانا وطباخ روحه اللتان عرضتا سابقاً في فرنسا باللغة العربية، تروي "طيران فوق عالم قذر" حكاية شاب مثلي الجنس، وتستعرض أشكال الضغوط المجتمعية والقهر الذي يتعرض له البطل في إطار سلطة سياسية قمعية ذكورية، تؤدي به في النهاية إلى مصير مأساوي.

تجربة خاصة ومؤثرة أن يروي لنا ممثل فرنسي عن دمشق، أن يأخذنا معه في جولة في عمق مدينتنا، وأن يتبنى تلك الرحلة لنصدق أنه كان هناك معنا يوماً ما

كان العرض فرصة كي يلتقي رصيف22 بالكاتب والمخرج فارس الذهبي لطرح مجموعة من الأسئلة حول أهمية عرض مسرحية كتبت بالعربية ولكنها لم تنشر وتعرض إلا باللغة الفرنسية. 

يؤكد الذهبي أن نصه "ليس رحلة استشكاف في عالم الجندر، فهذه العوالم معقدة جداً وصعبة من الناحية النفسية والدرامية، ولكن النص بكل تأكيد هو استعراض سريع للتطورات النفسية التي يعيشها صاحب التوجه الجنسي المثلي، عبر سرد قصة بطل القصة، وسط بيئته الواقعية التي نعرفها كعرب و سوريين، ومن ثم متابعة سقوطه التراجيدي في مجتمع لا يقبل إلا بإدانته". يضيف الذهبي أن ما استهواه في تناول الموضوع هو أن "العابرين جنسياً ومثليي الجنس من مهمشي المجتمعات حول العالم، والمهمشون هم نقاط مليئة بالحكايا والتبدلات الدرامية. وبقراءة سريعة، أعتقد أن شخصية العابر الجنسي أو المثلي هو شخصية تتطابق مع تعريف الشخصية التراجيدية كما تم تعريفها في كتب المسرح التقليدية، فهي تمتلك أهم عناصر الشخصية التراجيدية".

"العنف ليس حاضراً في مسرحياتي فقط، في الشرق الأوسط لا يمكن إدراك حياة دون عنف، في المدارس، في البيوت، في العمل وفي الشوارع، عنف نفسي وآخر جسدي، عنف ضد المرأة وعنف ضد الرجل وضد الطفل". فارس الذهبي 

يحتل العنف مساحة كبيرة في مسرحيات الذهبي ولكنه يفرد له مساحة خاصة في مسرحيته الأخيرة، وعند سؤاله عن السبب، أجاب: "العنف ليس حاضراً في مسرحياتي فقط، العنف حاضر في حيواتنا جميعاً، في الشرق الأوسط لا يمكن إدراك حياة دون عنف، العنف في كل مكان، وهو متجسد في درجات، عنف في المدارس، عنف في البيوت، عنف في العمل وفي الشوارع، وفي المعامل وفي الحقول، عنف نفسي وآخر جسدي، عنف ضد المرأة وعنف ضد الرجل وضد الطفل، هنالك صنوف حسب الطلب للعنف في بلادنا، لذلك حاولت الاشتغال على العنف كمادة والعبث بتكوينها، الذي يتخذ عادة شكلاً مرعباً، و لكنه عنف غبي، اشتغلت على مطّ اللحظة من أجل ايجاد لحظات فنية في قلب العنف، ليس من أجل تجميله، بل من أجل إفراغه من محتواه، وتعريته ، وتعرية جدواه، فالعنف لا يجدي أبداً، وهو فعل غير رادع، على عكس المطلوب منه، لذلك فإن قليلاً من التأمل في العملية العنفية يجعلها فاقدة للمعنى".

كانت المسرحية قد نشرت عام 2022، وهي كتاب الذهبي الأول باللغة الفرنسية بعد أن نشر كثيراً من الكتب والمسرحيات باللغة العربية كزفرة السوري الأخيرة، وضحك عابر في بلاد الحزن الدائم.  وحول أهمية نشر المسرحية بالفرنسية أشار الذهبي إلى أن: "عملية عبور أي كتاب من لغة إلى لغة هي مسألة مهمة جداً، وتعني فتح باب مهم جداً لتأويل النص ولفهم مختلف للمضمون من قبل ثقافة مختلفة،" أضاف الذهبي أن: "هذا هو سحر الترجمة، أو الخلق الإبداعي بلغات أخرى مغايرة لثقافة المؤلف، سحر وأثر الحكاية قد يكون مختلفاً بين الشعوب، ولدينا عبر التاريخ كم كبير من الحكايات والروايات التي عبرت لغاتها لتسحر شعوباً أخرى وتؤثر في بنية تفكيرهم".

وتعقيباً على نشر ومن ثم عرض مسرحية "طيران فوق عالم قذر" أشار الذهبي، إلى أنها مساحة مهمة بالنسبة له، لتجديد السرد، الذي فقد لمعانه في الثقافة العربية، إذ: "تراجعت الثقافة في مقياس الأهمية إلى مراتب دنيا جداً، في مواجهة أولويات المأكل والملبس والحياة اليومية والأمان الاقتصادي، مضاف إليها أزمات لا تصدق في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هذا الأمر يتردد في أغلب الدول العربية التي تعيش أزمات سياسية واقتصادية حادة، جعلت من المنتج الثقافي أمراً غير مهم، وخاضعاً للوبيات الثقافة التي تداور الثقافة فيما بينها".

ما يميز تجربة نشر "طيران فوق عالم قذر" عن غيرها من الأعمال المترجمة عن العربية أن الأصل العربي لم ينشر، وقد لا ينشر بحسب الذهبي، والسبب: "يتعلق بفقر الحياة الثقافية العربية المعاصرة".

لعل ما يميز تجربة نشر طيران فوق عالم قذر عن غيرها من الأعمال المترجمة عن العربية أن الأصل العربي لم ينشر، وقد لا ينشر بحسب الذهبي، والسبب "يتعلق بداية بفقر الحياة الثقافية العربية المعاصرة. التفاعل في حدوده الدنيا، و النقاش والحوار في أحط مستوياته، ربما نحن لا نعيش في زمن الثقافة الجدية، ثقافة الاستهلاك تبتلع كل شيء، وليس هنالك إمكانية لتفاعل، أي تفاعل مع أي فكرة موجودة في الكتاب".

يضيف الذهبي شارحاً: "المؤلف يعمل على مشروعه لمدة قد تقارب السنة، ولكن النتائج تكون باهتة، لدرجة الحزن، وأنا لا أتحدث عن نفسي فقط، أتحدث عن أغلب المثقفين العرب، وأنا أعيش وأعمل في قلب الوسط الثقافي السوري والعربي منذ عشرين عاماً، وعلى اطلاع كامل على العملية الثقافية في دول مثل سوريا ولبنان ومصر والأردن، وأعرف آليات الطباعة والنشر والعرض والحوار والندوات والصحافة الثقافية والفنية، وعلى أي أساس يكون تكريس كتاب معينين، وتجاهل آخرين، وعليه فإن هذه العملية برمتها بالنسبة لي هي أمر مؤسف و لا يلبي طموحاتي الثقافية، أقول هذا و أنا مسؤول عنه، وأنا عارف أن أغلب الكتاب العرب من كبارهم وصغارهم متفقون معي في نفس الرأي، وقد لا يقولون نفس الكلام ولكنهم يعلمون أن هذا و واقع الثقافة العربية، أكثر من 99% من الكتب العربية لا يطبع منها أكثر من 300 نسخة، ويباع منها الثلثين خلال ثلاث سنوات، و90 % من الكتب لا يعاد طبعها حتى لو كانت ممتازة، أغلب الأنواع الأدبية من شعر و قصة و مسرح و دراسات ثقافية، لا يرغب الناشرون في نشرها، بل يتذرعون بأمور تقنية لتفادي نشرها، الناشر يرغب في منتج روائي بالدرجة الأولى، لدرجة أن الناشر يفضل نشر رواية لكاتب مغمور على نشر مجموعة شعرية لكاتب متوسط الشهرة. هذا غير موجود في السوق الأدبي الحر، تكفي جودة الكتاب حتى تأتي للكاتب عشرات الايميلات من القراء لشرح مشاعرهم عن الكتاب و لمناقشة أفكار الكتاب و جودته" كما أن الجمهور بعد العرض في فرنسا يحاور الكاتب والمخرج ويسأله عن نقاط محددة في العرض مما يجعل التجربة تستحق أن تخاض رغم تحدياتها، خاصة أن العرض انتهى بدعوة إلى الحوار حول العرض مع بطله ومخرجيه.

"المؤلف يعمل على مشروعه لمدة قد تقارب السنة، ولكن النتائج تكون باهتة، لدرجة الحزن، وأنا لا أتحدث عن نفسي فقط، أتحدث عن أغلب المثقفين العرب". فارس الذهبي

إن تعاون كاتب ومخرجين سوريين مع ممثل فرنسي ونشر مسرحية سورية باللغة الفرنسية يشكلان إضافة مهمة للحكاية السورية في أوروبا، ولكنها بالمقابل خسارة كبيرة للثقافة العربية. من المقلق أن ينتشر شعور بين الفنانين العرب بأن لا مكان لأعمالهم في بلادهم، ومن المحزن أن يفقدوا الدوافع التي كانت تحمسهم للنشر بالعربية، وللعمل على عروض بلغتهم الأم بسبب رفض القائمين على الثقافة العربية العربية لمقاربة أي موضوعات إشكالية، ولعل المتهم الأول والمتسبب بهذه الخسارة هو القوائم التي لا تنتهي من الممنوعات والتابوهات التي تمنع الأفكار الحرة من التدفق دون رقابة. لعلنا في انتظار أن تتحرر بلداننا من كوابيسها ليس لنا إلا أن نهنئ الثقافة الأوروبية على المواهب السورية والعربية التي تكتبسها والأصوات المنوعة التي تنضم إليها وتعبر عن كل الألوان والآراء.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image