شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ثلاثة أيام من الأرق المستمرّ للتأكد أن السفّاح لن يعود

ثلاثة أيام من الأرق المستمرّ للتأكد أن السفّاح لن يعود

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الثلاثاء 10 ديسمبر 202412:52 م

"لم أنم منذ عدة أيام"... الجملة التي على مدار سنوات طويلة، أردّدها كثيراً، أمام عشرات الأصدقاء، وأمام معالجين نفسيين لم أعد أتذكر أسماءهم. جملة، أقولها دائماً، كمن يفتح باباً مغلقاً على الخراب والخوف والرعب المدفون في داخله.

خُلاصة الأرق المزمن، والمانشيت العريض على جبين كلّ سوري يسأله الآخرون عن هشاشته. الجواب المباشر والشامل عن السواد الباهت حول الهويّة. هويّة السوري الّذي "تجرّأ" يوماً ما، أن يحلم "بالحريّة" فحُرم النوم.

لا أحد يكاد يصدق أنّنا احتجنا، بدون أي مبالغة، إلى ثلاثة أيام كاملة من الاستيقاظ المستمر، فقط لنتأكد تماماً من أن "سفّاح سوريا" هرب. ثلاثة أيام بلياليها من الترقّب والقلق والسهر، فقط لنصدق أن "الأسد" فرّ مثل جرذ، وأنّ الشعب الّذي هُجّر في "باصات خضراء" عاد في النهاية، ليستردّ الأرض، خضراء.

هناك، على أطراف المدن البعيدة في أقصى شمال البلاد، بالدموع والزغاريد، مهّدت الأمهات الثّكالى لأبنائهن الثائرين، "الطّريق" نحو قصر الطاغية المسوّر بالمتاريس.

لا أحد يكاد يصدق أنّنا احتجنا، بدون أي مبالغة، إلى ثلاثة أيام كاملة من الاستيقاظ المستمرّ، فقط لنتأكّد تماماً من أن "سفّاح سوريا" هرب

لم يختبر شعب، كما يختبر السوريون اليوم، شعور اختلاط الخوف بالسعادة، شعور اختلاط النصر بالهزيمة. إنه من المبكي حقاً أن يتبدّل إحساس الإنسان في أقل من عشرة أيام، من أقصى العجز المطلق إلى أقصى الشعور بالسعادة. إنسان على مدار سنوات طويلة (فقط لأنّه طالب بحريته) مُسحت بجسده كل شوارع العالم، وسُحقت روحه تحت جنازير الدبابات وبساطير العسكر.

إنّها المفارقة، التي تعيد للسوري ثقته بهويّته، وتدفعه لأن يقول بالفم الملآن: "صار عندي بلد". المفارقة الّتي تضعه في الوقت نفسه أمام مرآة هائلة، تعكس له بكل وضوح ودون أي لبس، صورته الّتي لطالما حلم أن يراها، دون أن تظهر في كادرها فوهات البنادق مصوّبة إلى رأسه.

السوريّ الّذي تمكّن من أن يباغت العالم بأكمله، ويجبره على العودة بكاميراته ومنصاته وصحفه إليه، ليضعه مرّة أخرى على شاشات الكون كعنوان رئيسيّ، لكن هذه المرة ليس كضحيّة، إنّما كـ "أسطورة".

صحيح أننا لم ندرك حتّى هذه اللّحظة، إلى أين ستؤدي بنا البوابة التي خرجنا منها بسقوط هذا النظام الديكتاتوري، وأن حصان طروادة الّذي حمل لنا النصر هذه المرّة، يشير في هالته العامة إلى أيديولوجيا قد لا تعجب الجميع، وقد تثير الخوف والقلق من المستقبل، لكنّ ما يحقّ قوله في المقابل، إن رؤية طوفان من المعتقلين يخرجون من تلك الأقبية في "سجون الطاغية" تحت الأرض إلى شوارع المدن وساحاتها ، ومشهد كسر أقفال أعتى المعتقلات في العالم، يجعل المستقبل بالنسبة لنا "كشعب سوري" مهما كان غامضاً، جديراً بأن يكون فيه أمل، ولو ضبابي.

نعلم تماماً أنّ البلاد، بكامل مكوناتها، كانت مفتوحة منذ اللحظة الأولى للثورة، على جميع احتمالات نجاتها أو خرابها، وأنّها مرّت في كل مراحلها بما لا يتمكّن عقل بشري أن يتخيّله، تدمير ومجازر وفوضى، كان الأسد وداعموه، المستفيد الأكبر منه. ونعلمُ أيضاً أنّ ما تمر به البلاد خلال هذه الأيام، هو أحد تلك الاحتمالات. إلّا أن الفرق هذه المرة، هو أن ثمة مستحيل يتحقّق، وحلم بالنجاة صار ملموساً، وأنّ المعركة، بمعناها المجازي ومعناها الحقيقي، لم تكن، ولا في أي مرحلة من مراحل إسقاط الديكتاتور، مجرّد معركة بين طرفين، ولم تقتصر أبداً على فكرة "إسقاطه كنظام حاكم"، لأنّ التحدي الأكبر لا يكمن فقط في إسقاط نظام، بل في بناء وطن.

مستقبل سوريا لن يتحدّد فقط بمن يدير الحكم غداً، بل بكيفية تجاوز هذا الشعب للإرث الثقيل من الخوف والانقسام، وبقدرته على صياغة هوية وطنية جديدة، تُعيد ترميم ما مزقته عقود الاستبداد.

مستقبل سوريا لن يتحدّد فقط بمن يدير الحكم غداً، بل بكيفية تجاوز هذا الشعب للإرث الثقيل من الخوف والانقسام، وبقدرته على صياغة هوية وطنية جديدة، تُعيد ترميم ما مزقته عقود الاستبداد

هذا الشعب الذي أسقط أحد أكثر الأنظمة وحشية في العصر الحديث، قادر على مواجهة أي تحديات مقبلة، لكن المسألة لم تعد مجرد صراع بين الاستبداد والحرية، بل بين الماضي الذي يرفض الزوال، ومستقبل يجب أن يُصاغ بأيدٍ نظيفة وأفكار تتسع للجميع.

سوريا اليوم ليست فقط على عتبة الحرية، بل على مفترق طرق تاريخي: إما أن تصبح نموذجاً يُحتذى به لثورات الشعوب، أو أن تُطوى في قائمة الدول التي انتصرت فيها الثورة لكنها خسرت السلام. الكرة الآن في ملعب السوريين أنفسهم، ليس فقط ليحتفلوا بزوال الطاغية، بل ليبدأوا أصعب معركة على الإطلاق: معركة بناء وطن من تحت الأنقاض، ليصبح النصر الذي نراه اليوم حقيقة تدوم، وليس مجرد لحظة عابرة في مشهد تاريخي طويل.

أيّها العالم، دعك من القلق على مستقبلنا، وتعال لنكمل معاً مشاهدة الفيلم الـ "سوريا-ليّ"، الّذي يخرجه شعبٌ، قُتل وسُجن وهُجّر ودُفن حياً تحت أنقاض منازله. فيلم بكاميرات الهواتف المتعبة، أسقط أسطورة " الأبد" في عشرة أيام، وصوّر في مشهده قبل الأخير، تمثال "الديكتاتور" وهو يُحطم على الإسفلت في شوارع البلاد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image