تعيش الضفة الغربية حالة غير مسبوقة من التوتر، بعد أن أطلقت السلطة الفلسطينية حملة أمنية واسعة، أطلقت عليها اسم "حماية وطن"، في محاولة لـ"استعادة السيطرة وفرض سيادة القانون"، وتخوفاً من "مصير مشابه لمصير قطاع غزة" بعد هجوم السابع من أكتوبر، بحسب تعبير أجهزتها الأمنية.
وتأتي هذه العملية في توقيت مثير، تتبلور فيه، كما يبدو، صفقة لإطلاق النار في غزة، وتتصاعد فيه التوترات الأمنية والسياسية في الضفة الغربية، إثر الخطط المُعلنة التي كانت إسرائيل الرسمية قد تحدثت بها، والتي ترمي إلى ضمّ الضفّة لإسرائيل وبناء مدن جديدة فيها وإلغاء السلطة الفلسطينيّة.
في الوقت نفسه، تظهر إسرائيل كأنها خلف المشهد، دافعةً بالأطراف الفلسطينية المختلفة إلى حلبة صراع قديم جديد، ومع تحركات قد يكون لها أكثر من تفسير.
نيّات إسرائيل… حماية السلطة أم إلغاؤها؟
قال الناطق باسم الأمن الفلسطيني، العميد أنور رجب، إن الحملة انطلقت بهدف "حفظ الأمن والسلم الأهلي، ومواجهة الفوضى في مخيم جنين"، مشدداً على ضرورة إنهاء هيمنة "الخارجين عن القانون"، في إشارة للفصائل الفلسطينية.
وأكد رجب أن الحملة لن تتوقف حتى استعادة المخيم وضمان أمان المواطنين، الذين عانوا من تعطيل الخدمات وتهديد حياتهم اليومية.
أعلن الجيش الإسرائيلي، الخميس 19 كانون الأول/ ديسمبر، أن المجلس الوزاري السياسي الأمني أمر بتعزيز التنسيق مع الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة
فيما تقود وحدة العمليات الخاصة 101، التابعة للسلطة الفلسطينية، العمليات في جنين. حيث نشبت في الأيام الماضية اشتباكات عنيفة بين قوات الأمن ومسلحين ينتمون للفصائل الفلسطينية.
من جانبها، اتهمت الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حركة "الجهاد الإسلامي" السلطة الفلسطينية بتنفيذ "استهداف ممنهج للمقاومين"، بعدما قُتل يزيد جعايصة، أحد قادة "كتيبة جنين"، خلال الاشتباكات.
أما حركة حماس، فدعت في بيان، كل الحركات والفصائل والتجمعات العشائرية ومنظمات حقوق الإنسان إلى التعبئة الشاملة؛ لصد العملية المستمرة التي وصفتها بـ"الجريمة الوطنية". مؤكدةً أن "السلطة تصمّ آذانها عن الأصوات الفلسطينيّة المطالبة بوقف الحملة وحماية المقاومة".
تتعامل إسرائيل الرسمية، كما يبدو، بحذر مع هذه التطورات. فقد اجتمع أعضاء مجلس الوزراء السياسي والأمني الإسرائيلي الاثنين الماضي وناقشوا الأحداث، معربين عن مخاوف تتعلق في إمكانية أن "تمتد" هذه الأحداث إلى داخل الأراضي الإسرائيلية.
كما ناقشوا مخاوفهم من أن تؤدي الاضطرابات إلى انهيار السلطة الفلسطينية، مؤكدين على وجوب وجود للحفاظ عليها. وذلك على الرغم من خطة وزير المال بتسلئيل سموتريتش الحديثة المنادية بضرورة حلّ السلطة الفلسطينية، ومن التضييقات التي مارستها إسرائيل عليها خلال حرب الإبادة، والمتمثّلة بمصادرة أموالها لصالح عائلات إسرائيليين تضرروا من عمليات فلسطينية مسلّحة.
وبالفعل، عارض سموتريتش ووزراء آخرون من اليمين المتطرف، محاولة "الحفاظ على استقرار السلطة". علماً بأن الوزير كان قد طلب، عدة مرات، فرض عقوبات على كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية. كما أنه يريد أن يمضي في خطة الضمّ والتوسع الاستيطاني، بهدوء وراحة، بحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت"، حيث حثّ الحكومة الإسرائيلية على تبني نهج "هجومي" في الضفة الغربية المحتلة لتوسيع المستوطنات غير القانونية.
وفي منشور على موقع "إكس"، قال وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير إنه تم توزيع أكثر من 120 ألف قطعة سلاح على المستوطنين الإسرائيليين "المؤهلين" في الضفة الغربية، بينما حصل عشرات الآلاف على موافقات مشروطة.
وعلى الرغم من ميل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى مهاجمة السلطة الفلسطينية علناً، فإنّ تصريحاته في المناقشات المغلقة أكثر اعتدالاً. وقال في محادثة مغلقة قبل شهرين: "لا يمكن تجاهل أنشطة وأعمال السلطة الفلسطينية، فهي تتمتع بمزايا كبيرة لإسرائيل". مضيفاً أن "انهيار السلطة الفلسطينية ليس في مصلحة إسرائيل الآن. هناك حاجة لتعزيز الإجراءات التي من شأنها تحقيق الاستقرار في السلطة، من أجل منع التصعيد في ترسيم الحدود".
التحركات الإسرائيلية على الأرض
رغم التصريحات الإسرائيلية التي تنقسم حول من يريد الحفاظ على السلطة الفلسطينية ومن يريد إسقاطها، تعكس التحركات على الأرض اهتماماً إسرائيلياً واضحاً في ما يجري في الضفة.
ويبدو أن إسرائيل لم تكتف من عمل السلطة الفلسطينية في الفترة الماضية تجاه الفصائل المسلحة في الضفة، والتي وصفها الجيش والشاباك بالحاسمة. بل أكد المستوى الأمني أنه يسعى إلى زيادة فعالية الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، وأن الأخيرة أصبحت أكثر صرامةً في مدن مثل رام الله وبيت لحم ونابلس، فيما أظهرت ضعفاً في مدن مثل جنين وطولكرم.
من ناحيته، بدأ الجيش الإسرائيلي عملية شراء وتجهيز لأنظمة "روا يورا" المصنعة من قبل شركة رافائيل، لنشرها في الضفة الغربية، وتحديداً في مواقع السيطرة والحواجز ومداخل المستوطنات، بهدف منع وإحباط هجمات التسلل للمستوطنات الإسرائيلية. وتُشغّل هذه الأنظمة بشكل آليّ وعن بُعد، وهي قادرة على إطلاق الطلقات النارية القاتلة من دون تدخل بشري.
يبدو أن إسرائيل لم تكتف من عمل السلطة الفلسطينية في الفترة الماضية تجاه الفصائل المسلحة في الضفة، والتي وصفها الجيش والشاباك بالحاسمة. بل أكد المستوى الأمني أنه يسعى إلى زيادة فعالية الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة
من ناحية أخرى، طلبت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من إسرائيل الموافقة على تقديم مساعدات عسكرية أمريكية عاجلة لقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، من أجل تمكين السلطة من تنفيذ العملية الأمنية في الضفة الغربية.
وصرح مسؤولون فلسطينيون وأميركيون أن مساعدي الرئيس الفلسطيني أطلعوا إدارة بايدن ومستشاري الرئيس المنتخب دونالد ترمب على العملية بشكل مُسبَق. وحينها، سلمت السلطة الفلسطينية الجنرال الأميركي قائمة بالمعدات والذخيرة التي تحتاجها قوات الأمن بشكل عاجل. وكان يتعين على إسرائيل الموافقة على أي مساعدات عسكرية للسلطة الفلسطينية.
ثم أعلن الجيش الإسرائيلي، الخميس 19 كانون الأول/ ديسمبر، أن المجلس الوزاري السياسي الأمني أمر بتعزيز التنسيق مع الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية. وبحسب صحيفة "هآرتس"، فقد تقرر دراسة نقل معدات عسكرية دفاعية إضافية إلى أجهزة السلطة لمساعدتها في التعامل مع الفصائل المسلحة، بما في ذلك وسائل إبطال مفعول العبوات الناسفة والحماية الشخصية.
كما أكدت الصحيفة أن الجيش قال إنه سيتم تكثيف التعاون الاستخباراتي بين الطرفين؛ الإسرائيلي والفلسطيني.
قلق من نموذج سوريا
قال موشيه إلعاد، الرئيس السابق لجهاز التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية ومحافظ جنين السابق، في حديث مع إذاعة إسرائيلية، إن "خوف إسرائيل كامن في إمكانية اشتعال انتفاضة ضد الاحتلال". وبحسب قوله، فإن السلطة الفلسطينية تدرك أنه إذا حدث ذلك، فإنها ستشتعل أولاً في منطقة جنين".
لكن يبدو أن عدة عوامل تُحرك إسرائيل في الضفة، فقد علت أصوات تتحدث عن عوامل خارج السياق الفلسطيني أيضاً، والقائلة إنّ "نجاح المعارضة المسلحة، الذين تصفهم إسرائيل بالمتمردين الجهاديين، في سوريا، أثار القلق في إسرائيل بشأن انتشار القتال إلى ساحات أخرى، وعلى رأسها الضفة الغربية. فقد أبدى مسؤولون أمنيون إسرائيليون قلقهم إزاء التأثير المحتمل لهذا النجاح، وإزاء احتمال أن يشكل مصدر إلهام للفصائل الفلسطينية في الضفة.
ويبدو أن المخاوف من حصول نموذج سوريا، موجود لدى السلطة الفلسطينية أيضاً. وكان موقع "أكسيوس" الأمريكي ذكر نقلاً عن مسؤولين فلسطينيين وأمريكيين إن دوافع الحملة الأمنية الفلسطينية هي محاولة منع تكرار نموذج سوريا في الضفة الغربية، لأن عباس وفريقه أعربوا عن قلقهم من أداء الجماعات الإسلامية إثر سقوط الأسد.
حسابات إسرائيل
طالما كان نشاط المجموعات المسلحة في المخيمات الفلسطينية شمال الضفة الغربية، أمراً "يثير قلق إسرائيل"، ويعزى هذا القلق، بشكل أساس، " إلى أن هذه المجموعات تنشط خارج سيطرة السلطة الفلسطينية، التي لا تستطيع ولم تنجح في مواجهتها. ما جعلها "تشكل تهديداً مباشراً على حياة الإسرائيليين"، بحسب وجهة النظر الإسرائيلية.
نجاح المعارضة المسلحة، الذين تصفهم إسرائيل بالمتمردين الجهاديين، في سوريا، أثار القلق في إسرائيل بشأن انتشار القتال إلى ساحات أخرى، وعلى رأسها الضفة الغربية
وفي عملياتها في الضفة الغربية، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فقد قتلت واعتقلت القوات الإسرائيلية عشرات المقاتلين، وصادرت متفجرات ودمرت مراكز القيادة والسيطرة. كما نفذت غارات جوية "في مواقف لا يمكن فيها إجراء اعتقالات بسبب خطر حقيقي على القوات".
ويقول مسؤولون صحيون فلسطينيون إن 811 فلسطينياً قتلوا منذ ذلك الحين في الضفة الغربية، معظمهم نتيجة الغارات الإسرائيلية على المدن والبلدات الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن الكابينت الإسرائيلي صرح، بلهجة فيها تهديد واضح للسلطة، قائلاً: "أعطيناهم (أي السلطة) فرصة. وإن لم يتصرفوا، فسندخل". لكن يبدو أن إسرائيل لا تريد التورط المباشر في الضفة، في هذه المرحلة في الأقل، وتريد في المقابل أن تنشط هذه الحملة للقضاء على حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الضفة، كنوع من استكمال الحرب في غزة، وحتى لا تنفجر الضفة لاحقاَ بعد وقف الحرب في غزة.
وربما تريد إسرائيل أن تقوم السلطة الفلسطينية بالسيطرة على مدنها منعاً لاندلاع تظاهرات أو انتفاضة من الفلسطينيين قد تؤدي إلى انهيار السلطة في الضفة.
وبالنسبة لإسرائيل، إذا قامت السلطة الفلسطينية بمهمتها على أكمل وجه، فلن يكون هناك المزيد من الاتهامات لإسرائيل بأنها تستغل الفوضى لضم المزيد من الأراضي. وإذا لم تنجح السلطة في المهمة، فستكون هناك ذريعة لإسرائيل للتدخل بحجة حماية المستوطنات والمستوطنين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...