هذا المقال جزء من ملفّ "بين الأسئلة المهنية والشخصية... رصيف22 في 2024"، بمناسبة نهاية العام 2024.
ما الحاجة إلى أن نقرأ الشعر والقصة في ظل ما يحدث من حروب وحطام؟ ما الحاجة لنشاهد الأفلام؟ لنرى لوحات فنية؟ ثم ما الحاجة في أن نكتب عنها؟
حين تحتد المعارك من حولنا، وتسيل الدماء والدموع لتغمر الشوارع والبيوت، وشاشات الهواتف المحمولة. حين نفتح التلفاز فلا نرى سواها، ونقرأ نشرات الأخبار وآخر ما نشر على وسائل التواصل الاجتماعي ولا نجد غيرها، وبعض من أبيات الحزن والحنين، ما فائدة الفن والأدب؟ ما فائدة أن يكون هناك قسم ثقافي، في رصيف22 أو أي موقع ومكان آخر، ينشر عن الأدب والفن، أو ينبش في التاريخ، ليقتفي أثر رحالة هامَ في الأقطار والأراضي ليكتشفها أو يكتشف نفسه؟
كأنها أسئلة قديمة قدم الوجود! هكذا بدا لي في البداية، لكن جواباً ما كان ينتظرني، بالرغم من أنني على قناعة تامة لضرورة كل ما هو جميل من كلمات وألوان وأنغام في الحياة، كالحاجة إلى الماء والهواء.
ما الحاجة إلى أن نقرأ الشعر والقصة في ظل ما يحدث من حروب وحطام؟ ما الحاجة لنشاهد الأفلام؟ لنرى لوحات فنية؟ ثم ما الحاجة في أن نكتب عنها؟
الجواب الذي كان ينتظرني جرّني بحباله الناعمة والخفية إلى قونية، حيث مرقد جلال الدين الرومي. بينما كانت تتساقط التماثيل والأنصاب في سوريا إثر سقوط بشار الأسد، وصلت إلى جوار القبة الخضراء التي كان يرقد تحتها شاعري العظيم. ليال كثيرة ونهارات طويلة مرّت خلال حياتي وأنا أقرأ أو أستمع إلى ما كتبه الرومي، واليوم أقف حيث استقرّ بعد هجرته من مسقط رأسه، بَلْخ، بعد أن كان يقترب منها جيش المغول. هنا أنشد الكتاب الذي بعث الحياة في أرواح كثيرة على مدى قرون سبعة ("المثنوي")، وهنا التقى شمس التبريزي، الذي اقتلعه من المكانة الكبرى والمقام الرفيع ليكون "عاشقاً" فقط؛ ليرى العالم بعينٍ أخرى، ليكسر النفسَ التي لا تريد التنازل عن نفسها، وليكون "مرآة".
أن نكون "مرايا"، نرى أرواحنا ويستطيع الآخرون أن يروا فينا أرواحهم. هذا الدرس الأول والبسيط من لقاء الرومي وشمس فقط، ألا يكفي أن يرفعنا متراً أو بضعة أمتار من الأرض؟ ماذا لو استيقظ جميع الناس في العالم صباح غد وقرروا أن يكون كل واحد منهم "مرآة"؟! ألن ينخفض مستوى الكآبة، والغضب، والألم، والدم حتى؟! هل أنا، هل نحن الذين اجتمعنا هذه الأيام أمام روح الرومي وتساءلنا مثل هذا السؤال/الأمنية في قرارات أنفسنا رومنسيون وحالمون بعيدون عما يحدث من حولنا؟!
لا.
حين نؤمن أن التغيير ممكن ونافع وصالح على مدى العالم حتى إن كان بحجم ذرة؛ عندما نؤمن أن الروح لها حاجاتها كما الجسد؛ تريد أن تتغذى وأن تتطور؛ أن تأكل وتشرب، تسير، وترى، وتصقل مرآتها، ليزداد النور في العالم. فعند ذلك لا ريب في أن الروح لا غنى لها عن المأكل والمشرب: الشعر، الفن، الكلمات، النغمات، الألوان، وحتى الصمت الذي يسود بعد استماعنا ورؤيتنا لهذه الأمور.
وأنا أنظر إلى الأخبار في الطريق من أنقرة إلي قونية، تتردد هذه الجملة في رأسي: لكلّ عصرٍ مغولُه. إذاً: أليس لكلّ عصرٍ روميه، وشمسه؟ أليس علينا أن نتمسك بكلّ قطعة جميلة نراها لنواجه بها "مغول العالم"؟
وأنا أنظر إلى الأخبار في الطريق من أنقرة إلي قونية، تتردد هذه الجملة في رأسي: لكلّ عصرٍ مغولُه. إذاً: أليس لكلّ عصرٍ روميه، وشمسه؟ أليس علينا أن نتمسك بكلّ قطعة جميلة نراها لنواجه بها "مغول العالم"؟
***
حين فتحت ديوان قصائد الرومي "غزليات شمس" في مرقده، لأقرأ قصيدة عشوائية، قال لي صديقي الباحث في موروث الرومي، دعيني أقرأ لك ما أتاك، وقرأ:
"أتيتُ كالعيدِ الجديد لأكسرَ قفلَ السجنِ".
"العيد الجديد"، "أكسر"، "السجن". هذه الكلمات سوف تبقى تعيش معي مدى العمر. ولكلّ منها دلالاتها التي أراها كل يوم، سواءً "عيداً" كانت أم "سجناً". ما علينا أن "نكسر" بأي شكل استطعنا، وبمنتهى ما لدينا من قوة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...