لم تكن الأعراس في عفرين، المنطقة ذات الغالبية الكردية شمال غربي سوريا، مجرد مناسبات احتفالية عابرة، بل كانت تجسيداً حياً لمنظومة اجتماعية متكاملة، تعكس عمق العلاقات المجتمعية وغنى التراث الثقافي المتوارث عبر الأجيال، تمتد جذور تقاليدها عبر قرون من التاريخ، لتشكل نسيجاً ثقافياً فريداً يميز المنطقة عن محيطها.
غير أن الحرب السورية وما تلاها من احتلال تركي للمنطقة في العام 2018، أحدثت شرخاً عميقاً في هذا النسيج الاجتماعي والثقافي، فتحولت الأعراس من مهرجانات جماعية تمتد لأسابيع من الفرح، تتشارك فيها القرية بأكملها، إلى مناسبات مختصرة تقام تحت وطأة القيود الأمنية المشددة وأعباء الأزمة الاقتصادية الخانقة.
يوثق عارف حسن، المؤرشف للأغاني الكردية التراثية، هذا التحول التاريخي قائلاً: "منطقة عفرين مرت بتحولات تاريخية عديدة، من عصر المماليك والأيوبيين، مروراً بالحروب الصليبية والسلاجقة، وصولاً إلى الفترة العثمانية التي استمرت لأكثر من 400-600 سنة"، لكن التحول الأخير، المتمثل في الاحتلال التركي والتهجير القسري لسكان المنطقة، يبدو الأكثر تأثيراً على النسيج الاجتماعي والثقافي لعفرين.
المجتمع العفريني
شكلت الأعراس التقليدية في عفرين مرآة تعكس عمق الروابط الاجتماعية وقوة العلاقات بين العائلات والأجيال، يضفي مصطفى حنان، أحد كبار السن في المنطقة، عمقاً فلسفياً على فهم الزواج في المجتمع الكردي قائلاً: "الزواج ظاهرة اجتماعية، ظهرت مع ظهور الإنسان على هذا الكوكب وهو أحد العوامل الأساسية لاستمرار الحياة... وهذه الظاهرة تختلف من مجتمع إلى آخر ومن طبقة اجتماعية إلى أخرى من حيث العادات والتقاليد والمراسيم".
أحدثت الحرب السورية وما تلاها من احتلال تركي للمنطقة في العام 2018، شرخاً في النسيج الاجتماعي والثقافي الكردي في عفرين، فتحولت الأعراس من مهرجانات جماعية تمتد لأسابيع من الفرح، تتشارك فيها القرية بأكملها، إلى مناسبات مختصرة تقام تحت وطأة القيود الأمنية المشددة وأعباء الأزمة الاقتصادية الخانقة
وقد تجلت خصوصية الزواج في المجتمع العفريني من خلال عملية اختيار الزوجة، التي كانت تتم في القديم عادة من قبل الأهل وذلك حسب درجة القرابة بين الزوجين المقبلين على الزواج، فإن كانت الفتاة من عائلة قريبة للفتى أو من القرية نفسها، ستكون هناك معرفة مسبقة بين الطرفين، أما إن كانت من قرية أخرى، فكان للأهل والأقارب دور محوري في عملية البحث والتعارف، حيث يلعبون دور الوسيط في التقارب بين الطرفين.
وكانت عملية الخطبة تتخذ طابعاً جماعياً مميزاً، إذ يتشكل وفد من عائلة الفتى يرافقهم "بعض الوجهاء من عائلة الشاب أو من وجهاء القرية للتوجه إلى بيت الفتاة من أجل البحث في عمليات الخطبة وتكاليف الزواج والمهر".
هذا الحضور الاجتماعي الواسع لم يكن شكلياً، بل كان يلعب دوراً فعالاً في تسهيل عملية الزواج، حيث "يتدخل الوجهاء هنا من أجل تحديد مبلغ المهر، لتقوم أسرة العروس بتخفيض مقدار المهر من أجل خاطر الوجهاء".
ويضيف حنان: "كانت هناك أنماط مختلفة للزواج، أبرزها الزواج أحادي الطرف بين عائلتين، وزواج المبادلة 'Berdêlkirin'، الذي كان من أكثر أنواع الزواج تعقيداً، ويشرح مصطفى حنان لرصيف22، "العائلتان تتبادلان البنات لأبنائهما، وكأن كل زواج مرتبط بالآخر، لكن هذا النوع من الزواج كان غالباً ما ينتهي بمآسٍ، فإذا حدث خلاف في أحد البيتين، ينعكس فوراً على البيت الثاني، وإذا طُلقت إحدى الزوجتين، تُطلق الأخرى بالضرورة، رأينا حالات كثيرة حيث تخرب بيوت بأكملها وتتشتت العائلات بسبب هذا النوع من الزواج".
وفي حالات أخرى، كان هناك زواج الخطف عندما يرفض أهل الفتاة تزويجها لشاب تحبه. كذلك زواج الفتاة مقابل دم قتيل لتجنب النزاعات بين العائلات.
و"في حالات زواج الخطف"، يقول حنان لرصيف22: "كان هناك نظام متكامل للوساطة والمصالحة، يتدخل وجهاء القرية والشخصيات المرموقة ذات النفوذ، وتكون كلمتهم نافذة للمصالحة وعدم إراقة الدماء"، ويفصّل: "عملية المصالحة كانت تتم بعدة طرق، إما دفع مبلغ مالي يحدده أهل الفتاة، أو تزويج فتاة من أهل العريس -كأخته أو ابنة عمه- لأحد أفراد عائلة العروس، لكن في بعض الحالات، كانت العائلة ترفض كل الحلول وتتعهد بالثأر".
هذه الصورة التقليدية للعلاقات الاجتماعية في عفرين، تتناقض بشكل صارخ مع واقع اليوم، يكشف أحمد جندريسي، وهو شاب في منتصف العشرينات، عن تحول جذري في طرق التعارف والزواج، يقول: "كثرت حالات الارتباط من خلال وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة لما نواكبه من تطور تكنولوجي، لكن غالباً ما كانت فاشلة".
طقوس التحضير للعرس
بعد اختيار العروس، تبدأ مرحلة التحضيرات، يشرح حنان: "كانت العائلات تحضّر للعرس لشهور، يتشكل وفد من عائلة الفتى يرافقهم وجهاء القرية للتوجه إلى بيت الفتاة، حيث تجري المفاوضات حول المهر ومستلزمات الزواج".
ويفصّل مصطفى حنان طقوس التحضير للعرس: "قبل العرس بعدة أيام، كانت تبدأ عادة 'Têr' أو يوم التجهيز، حيث يرسل أهل العروس هدايا إلى أقاربها -الأخوة والأخوات المتزوجات، الأعمام، العمات، الأخوال والخالات، كانت الهدايا إما مبالغ نقدية أو قطع قماش، وكان الأقارب بدورهم يشترون مستلزمات بيت العروس أو قطعاً من الأثاث المنزلي".
كانت هناك أنماط مختلفة للزواج، فبالإضافة إلى الزواج التقليدي بين عائلتين، هناك زواج المبادلة، وزواج الخطف الذي يتم حين ترفض عائلة العروس العريس. وجميعها محكومة بتقاليد معروفة.
ويضيف: "قبل يومين أو ثلاثة من العرس، يجتمع الجميع في بيت أهل العروس مع الأدوات التي اشتروها"، وهذا اليوم كان احتفالياً بحد ذاته، تتردد فيه الأغاني وتقدم الحلويات والمرطبات.
وعن يوم جلب العروس، يقول حنان: "كانت هناك طقوس معقدة لإخراج العروس من بيت أهلها، أحد الأشخاص، غالباً من أهل العروس، كان يقف بجانب الجهاز ويمنع خروجه إلا بعد دفع مبلغ من المال، وكان المدعوون من أهل العريس المرافقون لموكب العرس يشربون القهوة في بيت العروس، وكانوا مضطرين لدفع مبلغ من المال للشخص الذي قدم لهم القهوة".
ويتابع: "وفي الطريق، كانت هناك طقوس 'karî Ewîla'، حيث يقطع شباب قرية العروس طريق الموكب ويطلبون مبلغاً من المال، وعند وصول العروس إلى بيت العريس، كانت إحدى النسوة تخلع حذاء العروس، التي تكون قد وضعت مسبقاً مبلغاً من المال تحسباً لهذه اللحظة".
كما كانت ليلة الحناء مناسبة خاصة، ويوضح عارف حسن لرصيف22، يقول: "كانت تقام في مكانين منفصلين للعروس والعريس وأحياناً بشكل مشترك، هناك أغانٍ خاصة بهذه الطقوس مثل 'كلاما حانيه' و'زافا هات جى بلبليه' و'لو لو زوفا'".
فيما يشير حنان: "في يوم قبل العرس، كان أصدقاء العريس يجتمعون في بيته للاحتفاء به، يغنون ويرقصون، والعريس يجلس على مخدة وأصدقاؤه يحيطون به، كانت هناك طقوس مميزة، منها وخز العريس بالدبابيس، وكان عليه أن يتحمل ذلك كنوع من إثبات قوة التحمل".
ويكمل: "وفي اليوم الأخير من مراسم العرس، تعقد حلقة الرقص في ساحة القرية، إذ كان العرس مختلطاً بين الذكور والإناث، ويدخل المدعوون إلى حلقة الدبكة، كانت الطبالة، مترافقة بالطبل والزرنة، تطلب من المدعوين المساهمة بمبلغ مالي كل حسب استطاعته".
كما كان للأزياء في الأعراس العفرينية طابع خاص، حيث يقول عارف حسن لرصيف22: "كانت العروس ترتدي ثوباً طويلاً مزيناً بالتطريز الذهبي والفضي، وغطاء رأس تقليدياً يسمى 'كوفي' مزيناً بالعملات الذهبية والفضية، وكانت الحلي الذهبية جزءاً أساسياً من المهر".
ويشير: "أما العريس فكان يرتدي 'الشروال' التقليدي مع قميص أبيض وسترة مطرزة، والحزام الحريري الملون كان من السمات المميزة لزيه، وفي بعض المناطق، كان يرتدي عباءة خاصة تسمى 'عباية الزفة'".
وازدهرت الحرف اليدوية المرتبطة بالزفاف، كما يشرح حسن: "اعادت النساء أن يقضين شهوراً في نسج وتطريز مفارش السرير والستائر للعروس، وكانت صناعة السجاد اليدوي من الهدايا القيمة التي تقدم للعروسين، وكان هناك حرفيون متخصصون في صناعة الحلي الذهبية والفضية الخاصة بالزفاف، وبعض القطع كانت تصنع خصيصاً للعروس وتحمل رموزاً تقليدية للخصوبة والحظ السعيد".
التراث الموسيقي والفني
شكل التراث الموسيقي والفني جوهر طقوس الزفاف في عفرين، حيث كانت كل مرحلة من مراحل العرس تتميز بأنماط موسيقية وغنائية خاصة، فيقول مصطفى حنان إن المراسم كانت تبدأ عادة بالأغاني التراثية القديمة مثل "Eyşa Îbê" و"Meyrema Miho begê"، تليها رقصات جماعية يتقدمها رقصة "Ber Çepkî" التقليدية، حيث يصطف الحاضرون بصفين متوازيين، صف للنساء وصف للرجال.
بينما يكشف عارف حسن عن عمق التراث الموسيقي من خلال أغانٍ عمرها مئات السنين، مثل "وا جافيه تا" التي تتغنى بجمال العروس:
Çavîd reş li dinê pirin, Ji min hezdikë lê nanirim
Çavêd te çavêd pepûka, Min şêrîn dîbû li nav hûrîka
Min delal dîbû li nav baxê hûrîka
وتعني: "عيونك عيون الهدهد، مثل عيون الهدهد رأيت جميلتي أو حلوتي بين البساتين بقامتها الرفيعة"، وكانت هذه الأغاني تُعزف على البزق العفريني والطنبور، وهي آلات موسيقية تقليدية تميزت بها المنطقة.
كما تمثل طقوس الحناء مرحلة محورية في الأعراس العفرينية، يرافقها تراث موسيقي خاص، يوثق عارف حسن أغنية "Markê sor û sultanî" التقليدية التي تعبر عن سحر العروس، وتقول:
Markê sor û sultanî, kê wa bejina te li hev anî
Li ber mala lawikê aşiq danî, ji lawikê aşiq re kirin kebanî
Li ser textê zêrî danî, Mirazê herdu dila bi cih anî
وهي تصف جمال العروس وقوامها، وكيف أن الله جمع قلبين متحابين.
في اليوم الأخير من مراسم العرس، تعقد حلقة الرقص في ساحة القرية، إذ كان العرس مختلطاً بين الذكور والإناث، ويدخل المدعوون إلى حلقة الدبكة، كانت الطبالة، مترافقة بالطبل والزرنة، تطلب من المدعوين المساهمة بمبلغ مالي كل حسب استطاعته
وتتجلى عراقة هذا التراث في أغاني الحناء الإيزيدية، مثل أغنية "يا بسماله يا برحمانى تو خوديه دلوفاني"، ويقول حولها حسن: "كانت هناك أغانٍ خاصة بالإيزيديين في عفرين، مثل: 'يا بسماله يا برحمانى تو خوديه دلوفاني، حنا بوك وزفاني، و بمبارك بيه لو خوديانو، مال شيرين مالك آفا، لو زافيو هنديو، لو باشايو هنديو دور كاري نيزيك ديو"، وتكشف الأغنية عن تأثيرات طريق الحرير على المنطقة، فـ"تشبيه العريس بالهندي في هذه الأغاني يرتبط بجلب الحناء من الهند"، مما يعكس عمق التبادل الثقافي الذي شهدته المنطقة.
وعليه لم تكن الأعراس مجرد احتفال، بل تجسيداً حياً للهوية الثقافية، فكل رقصة، كل أغنية، كل طقس، كان يعبر عن جزء من تاريخ وهوية المنطقة، حتى طريقة وقوف الناس في الدبكة كانت تعكس التراتبية الاجتماعية والاحترام المتبادل.
وبالطبع، لعبت النساء دوراً محورياً في تلك الطقوس، حيث كانت بعض النسوة ينشدن هذه الأغاني والباقي من الحضور يرددون خلفهن، وتمثل أغاني "Hevalok" التي ترافق حلقات الحناء جزءاً أساسياً من التراث النسائي في المنطقة، وكانت تؤدى بشكل جماعي يعكس تماسك النسيج الاجتماعي.
مخاوف أمنية تعصف بالأفراح
غير أن هذا التراث الغني يواجه اليوم خطر الاندثار بعد استيلاء تركيا والفصائل المسلحة على عفرين، في مارس العام 2018، وهو الأمر الذي أدى إلى تهجير الغالبية من سكانها الأصليين الكُرد.
وفرض الواقع الأمني الجديد في عفرين تحديات غير مسبوقة على طقوس الزواج، فتكشف أمينة مستو وهي ناشطة صحفية كانت تقيم في عفرين حتى العام 2016، عن "تغير كبير في كيفية إقامة الأعراس بعد دخول الاحتلال التركي والفصائل الراديكالية الإسلامية إلى عفرين"، وتضيف أنه بينما "كانت الأعراس أكثر انفتاحاً، وتقام في صالات مفتوحة، كان عدد الحاضرين أكبر"، تحولت اليوم إلى مناسبات محدودة تقام تحت رقابة مشددة.
وتروي مستو حادثة صادمة تعكس حجم المخاطر التي تواجه الأعراس: "في العام 2018 كان من المقرر إقامة العرس في بيت والد العريس، فهاجم مسلحون متطرفون، عدد كبير حوالي 15 شخصاً... واختطفوا العروس منه لأن أحد المتطرفين وضع عينه عليها، فخطفها وتزوجها وحالياً هي زوجته"، وقد خلقت تلك الحادثة حالة من الرعب في المجتمع، حيث "الأهالي يتخوفون من إقامة الأعراس في القرى وتحت أعين هؤلاء المتطرفين".
وأدى هذا الواقع الجديد إلى تغيير جذري في طريقة إقامة الأعراس، فيلفت عارف حسن إلى أنه "أصبح من الضروري أخذ إذن وإرضاء الفصائل المسيطرة لإقامة الأعراس، وهذا الأمر أصبح روتينياً في بعض المناطق"، كما اضطر الكثير من السكان إلى "إقامة أعراسهم في بلدات قريبة مثل جنديرس، والبعض يقيم الأعراس في أماكن شبه مغلقة أو محاطة بجدران".
كما يلحظ حسن "تراجع الموسيقى التقليدية بسبب هجرة الموسيقيين والفنانين المهرة من المنطقة"، مضيفاً أن الحفاظ على الآلات الموسيقية التقليدية مثل البزق العفريني والطنبور أصبح تحدياً كبيراً، وقد تفاقم هذا التراجع مع "تأثر الموسيقى بأنماط قادمة من تركيا أو من مناطق سورية أخرى"، مما أدى إلى تراجع حضور الأغاني التقليدية الكردية في الأعراس.
وفي مواجهة هذا الخطر، يقاوم المجتمع محاولات طمس هويته الموسيقية، وظهرت أشكال جديدة من المقاومة الثقافية، كما تشير أمينة مستو إلى "انتشار كبير لفيديوهات عن الأعراس العفرينية التي تحاول إعادة الرقصات العفرينية التراثية... تعبيراً عن نوع من المقاومة للهجمة الشرسة لمحاولات التتريك والتعريب في المنطقة".
لكن هذه المقاومة تواجه عقبات متعددة، ويلفت عارف حسن كيف أن "في بعض المناطق، تفرض الفصائل المسلحة قيوداً على الاحتفالات والموسيقى، مثل قرية خلتان حيث يوجد منع تام لأي طقوس تقليدية"، فيما تلفت مستو إلى أنه حتى في المناطق الأخرى، أصبح المحتفلون مضطرين إلى "وضع أغاني عربية وتركية خوفاً من المتطرفين أو مراعاة لحضور (المستوطنين) في العرس".
انهيار التحضيرات التقليدية
سابقاً "كانت هناك رحلات تسوق تقليدية تسمى 'رحال'"، يقول عارف حسن حولها، بأنها كانت تستمر لأيام في مدن مثل حلب وكلس وأنطاكية، العائلات تذهب لشراء الصوف والفرش والأقمشة والملابس والهدايا، وكانت رحلة كاملة، تجمع بين التسوق والترفيه والتواصل الاجتماعي.
أما الآن، فقد شهدت منظومة التحضيرات التقليدية للزواج في عفرين تحولات جذرية، ويكشف أبو وليد، وهو صاحب ورشة تصنيع فساتين الأعراس، عن مدى هذا التغيير بقوله: "في السابق، كان تجهيز العروس يتم في بيت أهلها، حيث كانوا يدعون العم والخال وجميع الأقارب، وكان معظم جهاز العروس يأتي من بيت أهلها"، ويضيف بأسى أن هذه العادة، التي كانت تجسد التكافل الاجتماعي، "اختفت تماماً بعد 2011".
ويمتد تأثير الأزمة الاقتصادية إلى أدق تفاصيل تجهيزات العروس، فيوضح أبو وليد كيف أنه "حتى في حال شراء غرفة النوم، لم يعد هناك ما يسمى بغرفة النوم الكاملة، الناس يكتفون بشراء خزانة بأربعة أو ثلاثة أبواب، حتى أن 80% من العرائس يستغنون عن السرير ويكتفون بالفرشات الإسفنجية للنوم"، ويضيف: "لم يعد الزبائن يطلبون السلع الجديدة، بل أصبحوا دائماً يبحثون عن السلع المستعملة".
ويعكس هذا التحول في أنماط الاستهلاك أزمة اقتصادية أعمق، يلفت لها أبو وليد بالقول: "إذا كان سعر البراد المستعمل 4-5 ملايين، فكيف لشخص أن يشتري براداً جديداً بـ 10 ملايين أو أكثر؟"، ويتابع مشيراً إلى تقليد اختفى: "في السابق، كانت الأجهزة الكهربائية مثل البراد والغسالة تأتي كهدايا للعروسين، لكن هذا لم يعد موجوداً اليوم".
وأدى الواقع الاقتصادي الجديد بعد استيلاء تركيا على عفرين، إلى انقسام طبقي حاد في المجتمع العفريني المهجر إلى أحياء الشيخ مقصود والأشرفية في حلب أو الشهباء في شمال حلب، حيث يكشف أبو وليد أنه "بعد الحرب على عفرين، أصبح لدينا طبقتان فقط: الطبقة المعدومة الفقيرة والطبقة الميسورة، في حين اختفت الطبقة المتوسطة تدريجياً"، وقد انعكس هذا الانقسام الطبقي بشكل مباشر على الأعراس وتحضيراتها، حيث "أصبحنا نعتمد على شراء الضروريات فقط، ولم يعد هناك شيء اسمه رفاهية أو كماليات"، يقول أبو وليد.
غيرت المخاوف من طبيعة الأعراس في عفرين، ففي العام 2018 هاجم 15 من المسلحين المتطرفين عرساً، واختطفوا العروس منه لأن أحدهم كان راغباً بها، فخطفها وتزوجها.
وعلى المستوى الاقتصادي الأوسع، شهدت عفرين تحولاً جذرياً في دورها الاقتصادي بعد خروجها عن سيطرة أهلها، يشرح أبو وليد: "كانت عفرين خزاناً زراعياً بالنسبة لحلب في مجال الزيت والزيتون والعنب وورق العنب والرمان والخضروات، كانت حلب تعتمد على عفرين في كل شيء، لكن هذا الباب أغلق ولم يعد هناك تجارة"، ويضيف أن "البضائع تأتي من مناطق بعيدة مثل حوران وحماه وحمص، مما رفع تكلفتها".
هذا الواقع الجديد أرغم المجتمع على تبني استراتيجيات تكيف جديدة، يوضحها أبو وليد بالقول: "حتى العرائس عندما يريدون شراء قطع للتجهيز، تلاحظ أنهم ينتظرون لعدة أيام قبل الشراء، ربما ليتصلوا بأقاربهم في الخارج على أمل أن يرسلوا لهم مساعدة لشراء ما يحتاجون إليه"، ويتوافق معه في ذلك الشاب أحمد جندريسي بالقول : "غالباً مَن يرغب في إقامة عرسه، يستعين بشقيقه أو أحد من أقاربه في الخارج ليساعده مادياً ولو بمبلغ مقبول".
مستقبل غامض للطقوس والهوية
وإزاء التحديات المتعددة التي تواجه المجتمع العفريني، يبدو مستقبل طقوس الزواج التقليدية غير واضح المعالم، فيكشف عارف حسن عن مخاوف حقيقية من "أن يصبح الجيل الجديد جاهلاً بعادات وتقاليد وتراث أجداده"، خاصة في ظل حقيقة مقلقة: "حوالي 65-75% من سكان عفرين الأصليين نازحون أو مهجرون قسراً، وأقل من 25% فقط منهم ما زالوا يعيشون في أراضيهم التاريخية".
ويشدد عارف حسن على تحدٍ ديموغرافي إضافي يتمثل في "تزايد نسبة كبار السن بين السكان الأصليين (غالباً فوق 40 سنة)، وهجرة الشباب وقلة الأطفال"، وهو واقع يهدد استمرارية التقاليد، إذ يصعب نقل التراث للأجيال الجديدة في ظل غياب الشباب وتشتت العائلات.
وترافق هذا التغيير الديموغرافي العميق مع تغيرات ثقافية واجتماعية جذرية، يقول أبو وليد: "هذا الواقع جعل الناس يشعرون بأن حياتهم مؤقتة... حتى إقامتنا في حلب أصبحت مؤقتة، وفي أي لحظة قد نعود إلى عفرين"، ويكمل: "طبعاً معظم الناس يسكنون في بيوت غيرهم، وربما 10% فقط يسكنون في بيوتهم الخاصة"، وقد انعكس هذا الشعور بعدم الاستقرار على كل مظاهر الحياة، حيث "لا أحد مهتم بالكماليات، بل يركزون على الضروريات فقط لأن المعيشة صعبة جداً".
لكن رغم هذا الواقع القاسي، يحاول المجتمع العفريني الحفاظ على هويته الثقافية، فيرفع أحمد جندريسي صوته للمقاومة الثقافية قائلاً: "أرى أن الرقص القديم هو الذي يمثل الهوية الكردية، ويستوجب علينا كشباب أن نحافظ عليها أو ربما أن نعيدها إلى أعراسنا الحالية".
وتتخذ المقاومة الثقافية أشكالاً جديدة. تشير أمينة مستو إلى أن "المجتمع في عفرين في حالة مقاومة دائمة للحفاظ على الثقافة الكردية والعادات والتقاليد الكردية، في ظل محاولات التتريك والتعريب وتخويف المجتمع الكردي"، وتردف أن هذه المقاومة تتجلى في محاولات "إعادة الرقصات العفرينية التراثية، إعادة الأغاني الكردية التراثية في الأعراس".
كما يظهر تكيف لافت مع الواقع الجديد. يقول أبو وليد: "الجانب الإيجابي الوحيد في هذا الوضع المأسوي هو أن كل إنسان أصبح يسعى لستر البنات والشباب بالزواج".
ولم يعد السؤال عن مستقبل طقوس الزواج في عفرين مجرد سؤال عن استمرارية تقاليد، بل صار سؤالاً عن بقاء هوية ثقافية بأكملها، فتبرز محاولات مختلفة للحفاظ على الهوية الثقافية من خلال التوثيق والتعليم، فيشير عارف حسن إلى "برامج لتعليم الأجيال الجديدة عن تقاليد الزواج في عفرين وأهميتها الثقافية"، و"محاولات لخلق توازن بين الحفاظ على التراث وتقبل التغيرات الاجتماعية الحتمية".
وفي ظل هذه التحديات المتعددة، تختلط مشاعر الأمل باليأس، فيقول أبو وليد: "على الإنسان أن يتكيف مع الواقع، كما أقول لأولادي، مهما كان الواقع صعباً".
تستمر الأعراس العفرينية في رواية قصة شعب يرفض أن تُمحى هويته، كل حفل زفاف، مهما كان بسيطاً، يصبح ساحة صغيرة للمقاومة الثقافية، وكل أغنية كردية تتردد في هذه الأعراس تصبح صرخة في وجه محاولات التغيير القسري، واليوم مع سقوط النظام تتكاثر الأسئلة المصحوبة بالحيرة حول مستقبل هذه الهوية التي يتشبث بها أصحابها.
وما دام هناك من يغني "وا جافيه تا" ويرقص "Ber Çepkî"، وما دامت حلقات "Hevalok" تروي قصص الحب والفرح، ستبقى عفرين حية في قلوب أبنائها، تقاوم النسيان وترفض الاندثار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 15 ساعةكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...