شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
نساء عفرين...

نساء عفرين... "النساء، الحياة، الحرية" إلى مهده الأول

رأي نحن والنساء

الخميس 23 مارس 202302:41 م

يسأل مذيع تلفزيون أورينت، القناة السورية المعارضة، امرأةً عفرينيةً: "بتحكي عربي؟"، فتجيب: "لن أتحدث بالعربية، لن أتخلى عن لغتي، أنا أم الشهيد بارزاني، حتى إن بقيت كلمة كردية واحدة هنا، لن أتحدث إلا بها (…)". في مكان آخر، تقول امرأة كردية أيضاً: "لم نعد نخاف من شيء. لقد حدث كل شيء ممكن، وآخره الزلزال. لم يبقَ سوى الموت. إذا كنا أولاد الجن أو كنا أبناء الشياطين أو إذا كنا كفرةً، لقد خُلقنا على هذه الأرض، ومن حقنا أن نعيش على أرضنا... لا، نحن لن نموت، بحجم الزيتون سنبقى، وسيبقى الكرد، اسمعوها وتعلّموها جيداً"... مشاهد وكلمات وحكايات أُخرى لنساء عفرينيات تصل من مدينة جنديرس المنكوبة، التي تتظاهر منذ يومين ضد فصائل الجيش الوطني الموالي لتركيا.

بدأت الحكاية، في 20 آذار/ مارس الجاري، بعد أن فقد أربعة مدنيين كرد حياتهم وأصيب آخرون، جراء قيام عناصر من فصيل "جيش الشرقية" بإطلاق النار على محتفلين بليلة عيد النوروز في بلدة جنديرس. دفعت هذه الجريمة آلاف الكرد إلى التظاهر في اليوم التالي، وشُيع جثمان الضحايا وسط مطالبات بخروج الفصائل المسلحة من المدينة.

أعادت المشاركة الفعالة للنساء العفرينيات في الاحتجاجات المستمرة في مدينة جنديرس، وتصريحاتهن الإعلامية المتداولة، التركيز على دور الكرديات في الحركة القومية الكردية، ودورهن في الحفاظ على الهوية القومية الكردية بأبعادها الثقافة والاجتماعية والسياسية، إلى جانب عودة التذكير بشعار: "النساء، الحياة، الحرية"، الذي صدر من نساء كرديات قبل عشرات السنوات، اختزلن من خلاله هويتهن ونضالهن؛ وجودهن أولاً، مؤسساً للحرية، التي تقود إلى الحياة.

ثلاثة أشياء أساسية لدى الكرد، هي من ركائز الهوية القومية الكردية في سوريا: اللغة بوصفها التعبير الأكثر وضوحاً عن التمايز القومي مع الأكثرية العربية في البلاد، والتاريخ الشفهي (الأغاني الفولكلورية والقصص الغنائية الشعبية)، وهي الوثيقة شبه الوحيدة لمرويات الكرد وحكاياتهم الاجتماعية والثقافية والسياسية، والأزياء التقليدية الكردية، التي يرى الكرد في الحفاظ عليها جزءاً من كفاحهم ضد محاولات المحق وتغيير الهوية بالإكراه.

في هذه الركائز الثلاث، كانت النساء الكرديات الطرف الأكثر تأثيراً في الحفاظ عليها، ودونهن، كان يمكن القول إن بعضها، أو الكثير منها، اندثر.

رفض نساء عفرين التحدث بغير الكردية، وواجهن الرصاص بصوتهن المرتفع، وقُدن الحراك، وكأنهن يقلن بأنهن أصحاب هذه القضية، وقادتها، إن غِبن، ضعفت وانهزمت

في العامل الأول، شهدت اللغة الكردية، تراجعاً شديداً في مفرداتها، بسبب منع اللغة واعتقال من يتحدث بها، وغياب دور النشر والمراكز الثقافية وإلزامية التعليم باللغة العربية. غابت الكتابة بالكردية عن غالبية الكرد السوريين، وتزايدت نسبة المفردات العربية في الكردية بشكل ملحوظ؛ إلا أن النساء الكرديات حافظن على كمّ هائل من هذه المفردات، ولم تتغير لغتهن كما الرجال، وبعضها مرتبط بالنظام الأبوي الذي كان يربط الدور الاقتصادي للعائلة بالرجل. ثمة تمسّك باللغة إلى حد كبير لدى النساء. جداتنا وأمهاتنا لا يجدن اللغة العربية. نراجعهن عندما تستعصي علينا معرفة كلمة ما باللغة الكردية؛ يصل الأمر إلى أن يتداول اللغويون الكرد عبارات تقول إن اللغة الكردية الأصلية تُلتقط من شفاه النساء في القُرى.

أما الثاني، أي القصص الغنائية الكردية (تُعرف كردياً باسم dengbêjî)، وهي الأغاني الفولكلورية الكردية التي تروي حكايات المعارك والثورات والقصص الاجتماعية العشائرية وغيرها، فهي المرجع الرئيسي لمعرفة التاريخ الكردي وتدوينه. هذه القصص التي نتحدث عنها، كُلنا نعرف أجزاء كثيرةً منها، ليس من سماعها، إنما من أمهاتنا وجداتنا، فهي كانت حكايات الليل قبل أن ننام. تحكي جدتي الحكاية، وتغنّي، حتى ننام، هكذا تشبعنا بالذاكرة الكردية الجمعية، وتعرفنا على حكايات مجتمعنا ومحيطنا، وكيف عاش أجدادنا؟ وماذا فعلوا؟ وماذا أرادوا؟ وكيف هُزموا وانتصروا؟...

أما العامل الثالث، أي الأزياء الشعبية الكردية، فكانت ممنوعةً في سوريا، تُلاحقها أجهزة المخابرات، وتعتقل من يرتديها. هذا الضغط السياسي والأمني الذي مورس بحق الرجال الكرد، أدى، تباعاً، إلى إزاحة الزي التقليدي الكردي لدى الرجال من الحياة اليومية، وبات الزي العربي لدى كبار السنّ سائداً، والأزياء العصرية لدى الشباب هي المسيطر، باستثناء المرأة الكردية، التي حافظت بتشدد على الأزياء الكردية، ولم ترتدِ غيرها، حتى الفتيات اللواتي يرتدين الأزياء العصرية، كنّ في الأعراس والمناسبات القومية يرتدين الزي الكردي. ثمة من يربط أيضاً هذه المحافظة بالبطريركية التي كانت تجبر النساء على البقاء في منازلهن، وتالياً إبعادهن عن أعين المخابرات السورية، إلا أن ذلك ليس دقيقاً، فآلاف النساء الكرديات عشن سنوات طويلةً في دمشق وفي مراكز المدن، وحافظن على أزيائهن، والأمثلة على ذلك كثيرة.

في مكان مماثل، تبدو حكايات النساء الكرديات في عفرين، جزءاً من هذه المنظومة المقاومة التي أُسست عبرهن، تُضاف إليها عوامل أيديولوجية دينية تفرض استبداداً مضاعفاً. النساء الكرديات اللواتي يعشن في عفرين، يواجهن نظام حكم شديد الذكورية، ممزوج بهوية عنصرية وكراهية ضد الكرد، ويتعرضن للعنف والتحرش والابتزاز والإكراه على ممارسة الشرائع الدينية والاغتصاب والخطف والقتل وكل ما في قائمة الاستبداد الطويلة.

كان شعار "النساء، الحياة، الحرية"، حاضراً، على الأقل، منذ تسعينيات القرن الماضي، في الحراك النسوي الكردي، واليوم يعود إلى مهده، إلى النساء الكرديات، فلا تسقط قضية يحلمنها وينطقن بها

لكنهن، لم يستسلمن. في أول فرصة خرجن ضد هذا الحكم، وقُلن كلاماً لا يجرؤ كثيرون على قوله، وشرحن واقعهن الاجتماعي والأمني تحت ظل هذه السلطة. رفضن التحدث بغير الكردية، وواجهن الرصاص بصوتهن المرتفع، وشاركن بكثافة في المظاهرات، وقُدن الحراك، وكأنهن يقلن بأنهن أصحاب هذه القضية، وقادتها، إن غِبن، ضعفت وانهزمت. قررن أن يمارسن دورهن الذي كبرنا عليه؛ دور الحفاظ على الهوية، وعلى التمايز، وعلى مقومات هذا المجتمع، وما يرغب فيه.

كانت الحركة النسوية الكردية، جزءاً أساسياً من الحراك الكردي المناهض لأنظمة الحكم في الدول التي قُسّمت كردستان بينها. هذه الحركة تنوعت بين جمعيات ومنظمات ومؤسسات معنية بشؤون النساء وحقوقهن، وناشطات سياسيات في أحزاب كردية، ومقاتلات في الأحزاب الكردية المسلحة، إلى جانب عملهن في تنظيم الاحتجاجات الشعبية.

مُذّاك، وفي تاريخ غير متفق عليه، ظهر شعار "النساء، الحياة، الحرية". يقال ظهر في حركة "أمهات السبت" وهي حركة احتجاجية نسائية بدأت منذ عام 1995، بخروج الأمهات في احتجاجات دورية في ساحة "غلاتا سراي" في إسطنبول، لمطالبة الحكومة التركية بالكشف عن مصير أبنائهن المعتقلين منذ عشرات السنين، ولم يُعرف مصيرهم. هذه الحركة استلهمت فكرة التنظيم من حركة "مايو دي بلازا/ أمهات ساحة مايو" في الأرجنتين، اللواتي فقدن أبناءهن على يد الدكتاتور خورخيه فيديلا.

كان شعار "النساء، الحياة، الحرية"، حاضراً، على الأقل، منذ تسعينيات القرن الماضي، في الحراك النسوي الكردي، يُرفع في كل المناسبات القومية، وفي كل الاحتجاجات التي يتم تنظيمها، وفي الأغاني والأشعار والأفلام التي تحكي عن النساء الكرديات. ومنذ مقتل ژينا أميني "مهسا" على يد شرطة الأخلاق، نقلت الكرديات هذا الشعار إلى الثورة النسائية في إيران، وبات رمزاً للانتفاضة هناك، حتى بات شعاراً عالمياً، انطلق من نساء كرديات منتفضات قبل عشرات السنوات، وصار رمزاً نسوياً عالمياً يُدوَّن بعشرات اللغات.

اليوم، وفي فعاليات متعددة، يعود الشعار إلى مهده، إلى النساء الكرديات، في عفرين، عفرين التي تنتفض فيها أمهات الشُهداء ضد شرطة أخلاق من نوع آخر، وفتيات يرفضن الاستبداد، ويرفضن التحدث بغير لغتهن، وتبنّي هوية غير هويتهن، ويتحدّين نظام الحكم الذي يودّ قمعهن وفرض الأبوية عليهن، ويقُدن حراكاً في مكان جغرافي لم يعتقد الكردي نفسه أن تخرج فيها انتفاضة بعد كل الانتهاكات والجرائم التي حصلت وبعد عمليات التهجير.

لكن وكأن نساء عفرين يُرددن: لا تسقط قضية تحملها النساء.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image