شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
رمزية القمح والخبز لدى أكراد سوريا... من صراع البقاء إلى وسيلة لقمعهم

رمزية القمح والخبز لدى أكراد سوريا... من صراع البقاء إلى وسيلة لقمعهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والفئات المهمشة

الاثنين 19 أغسطس 202404:04 م

القامشلي إحدى المُدن المُهمشة تاريخياً من قبل غالبية الحكومات التي تعاقبت على سوريا، والمدينة التي يمكن اعتبارها سوريا مصغّرة من حيث المكونات والقوميات والأديان، لا يزال عمادها وبنيتها السكانية منحدرتين من الريف حيث الخبز والقمح علامتان للهويّة الريفية. 

وتحفظ الذّاكرة الشعبية الأدوار التقليدية للأهالي خلال فصلي الشتاء حيث الريّ والسقاية والعناية، والصيف حيث الحصاد وتوريد القمح وبيعه للعيش بثمنه، مع الاحتفاظ بكمية محددة منه لتحويله إلى طحين ودقيق بمختلف التسميات ليدخل في صناعة العديد من الأطعمة وعلى رأسها الخُبز.

في جولة لرصيف22 في قرية بليج بجنوب شرقي مدينة القامشلي، تقول السيدة شيخة رشيد (67 عاماً)، وهي ربة منزل، إن "الخبز الذي نصنعه يومياً، دليل على استمرار الحياة في الريف. فالطحين المستخدم في الخبز ومختلف أنواع الأطعمة مثل البرغل، وسميت، والكبة يأتي من فرز الأنواع المستخرجة من عملية طحن القمح، ونحرص على تخزينه للشتاء". تضيف شيخة: "تلك الأيام انقضت إلي غير رجعة، لم يعد هناك لا خير ولا اهتمام بالزراعة، ولا مواسم الخير".

والبرغل مادة أساسية على موائد الكرد في سوريا، ويُصنع من القمح بعد مروره بمراحل عديدة من الغسيل والتنشيف، ثم سلقه في وعاء ضخم ووضعه على النار حتى تمام الطهو ثم فرشه على أشعة الشمس، وطحنه عبر وسائل حديثة حالياً، ويدوية قديماً. بعدها، يُستخدم جزء منه كبرغل، والبعض الآخر لصناعة الشامبورك (السمبوسك الكردي)، والكُتلك (كبّة مسلوقة) وكلتاهما من الأطباق الشهية التي اشتهر بها المطبخ الكردي، وتتألف بشكل أساسي من طحين ولحم، وتُطهيان في الماء، أو تُقليان في الزيت الحار.

من المساهمة في استقرارهم وإنشاء حضارتهم إلى وسيلة في أيدي السلطات لقمعهم والتحكم فيهم… مما اكتسب القمح والخبز أهميتهما لدى أكراد سوريا؟ وكيف أصبحا "صُلب التحوّلات الجمعية" و"رمزاً مقدّساً للبقاء"؟

الخُبز… تاريخ تكويني شامل

والخُبزُ في الميثولوجيا الشعبية يُشكّل تاريخياً جمعياً لمُشتركات رمزية تجاوز وظيفة الطعام، أو المادة الدائمة على الموائد، بل شكل دوماً جزءاً من ثقافات مشتركة بين شعوب المنطقة، ويُمكن التدليل على ذلك بالانتكاسات المعيشية المشتركة بين الغالبية العظمى ممن عاشوا في هذه البلاد، حال كانت مواسم القمح ضعيفة والمردود غير كافٍ لمعيشة تقي الأهالي الحاجة.

في الثقافة المحلية لمحافظة الحسكة في سوريا تحديداً، رافق الخبز والقمح المخزن الأهالي في الفترات العصيبة ، في الحروب وأوقات الجفاف والقحط، بل واستحال صديقاً وفياً يخفف المعاناة. كما أنه أحد معالم حسن الضيافة كمظهر يبعث على الدفء الاجتماعي إذ قلما تخلو موائد الضيافة من خبز الصاج والبرغل.

في حين شكّل توافر دقيق الخبز وأنواع القمح المطحون، مورداً احتياطياً كافياً لسد حاجة العوائل خلال موسم الشتاء. عن هذا، يقول المدرس المتقاعد والمزارع حالياً، عبد سلمان (62 عاماً)، من ريف القامشلي، لرصيف22: "تشارُك النّاس بثقافة إنتاجية واستهلاكية متشابهة ساهم في تكوين تاريخ سياسي واجتماعي وثقافي مشترك لهم، وفاعل قوي في استقرارهم. لذلك، يمكن القول إن تاريخ الزراعة قابلٌ للفهم والتحليل ضمن هذا السياق الثابت".

يستطرد سلمان: "رغم التطورات والتغيرات التي جاءت على الموائد وأنواع الأطعمة، لكن كل ذلك كان ولا يزال نِتاج سياق التحولات التاريخية المتراكمة المعتمدة على محاصيل القمح، بل إن التحولات السياسية والحضارية التي شهدتها المنطقة، وسوريا على نحو خاص، وتبادل المواد والمعارف والسلع، لا تنفصل عن علاقة الأهالي مع المحاصيل والمواسم".

ويرى فريق من المهتمين بالميثولوجيا أن للزراعة والقمح أدواراً صُلبة في الهجرة من الريف أو البقاء فيه، من حيث نوعية الخدمات المقدمة والدعم الحكومي ومراعاة ظروف الجفاف والقحط ومصاريف الإنتاج وتكاليف الزراعة. منهم، الناشط السياسي خالد أمين (55 عاماً)، من قرية كركي زيرا شرق القامشلي، والمستقر حالياً في حيّ الآشورية في القامشلي.

يقول أمين لرصيف22: "الزراعة كان لها دور محوري في الاستقرار والاستغناء عن حياة التنقل والرعي، خاصة أن حاجة الزراعة للرعاية والاهتمام، والتي تمتد لستة أشهر في كل محصول، خلقت معها الحاجة للسكن والاستقرار، واحتكار مساحات أخرى، لاستعمالها في تربية الثروة الحيوانية، أو المأكل والخدمة"، مردفاً بأن القمح هو المحصول الأكثر استهلاكاً للإنسان إذ يستخدم "كطحين بأشكاله المختلفة، وكعلف للمواشي، ومنها بدأت الحاجة إلى تطوير الزراعة، وتوسيع المردود الاقتصادي، الذي خلق فرص عمل وجذب للاستقرار، رغم المشقة".

بدوره، يقول الدكتور فريد سعدون، من القامشلي، لرصيف22، إن "الخبز في الميثولوجيا الكردية ارتبط بالاستقرار، خاصة لتوافر الأنهار والجو المعتدل والشعوب الرحل لم تتعرف على الخبز لأنه مرتبط بالزراعة التي تتطلب بدورها الاستقرار". كما يضيف: "من منظور آخر، الخبز مصدر أساسي للبقاء والمعيشة والتطور التاريخي، بل إن إنتاج الخبز له علاقة بالمعرفة العلمية نفسها. فمثلاً، احتاج إنتاج الخميرة زمناً طويلاً لمعرفته، حينها بدأ الإنسان العجن والتخمير وصناعة الخبز ثم استعمال الخبز اليابس في الظروف المعيشية الصعبة أو لتقديمه كطعام للحيوانات".

ويرى سعدون أن القمح والخبز يجب أن يظلّا متوفرين بغض النظر عن الفصول مثل الشتاء الذي لا يوجد فيه حصاد القمح، وهذا "يدل على أن الشعوب التي عاشت في مناطق الاستقرار وأنتجت الخبز عبر زراعة القمح والشعير، ساعدهم ذلك على التعرف على الحضارة، على خلاف من اعتمد زراعة التمر والفواكه والرعي، كأمور تعتمد على الترحال لا الاستقرار".

ويوضح أنه عبر التاريخ، "شكّل الخبز في ذهنيّات الشعوب، بمن فيهم الكرد، رمزاً مقدساً، لا يجوز المساس به. بل إن رؤيته ملقىً على الأرض، يلزم علينا حمله وتقبيله ووضعه على الرأس، ثم وضعه في مكان بعيد عن الأرض والأوساخ. لذا، الخبز مرتبط بالتطور الحضاري والإنتاج الزراعي".

 "شكّل الخبز في ذهنيّات الشعوب، بمن فيهم الكرد، رمزاً مقدساً، لا يجوز المساس به. بل إن رؤيته ملقىً على الأرض، يلزم علينا حمله وتقبيله ووضعه على الرأس، ثم وضعه في مكان بعيد عن الأرض والأوساخ. لذا، الخبز مرتبط بالتطور الحضاري والإنتاج الزراعي"

الخُبز والقمح رمزان ثابتان حتّى مع التمدّن

تتجاوز الأدوار التقليدية والتاريخية للخبز كونه مجرد طعام أو جزء من المائدة، ليصبح المُعبر عن ثقافات الشعوب، والقاعدة الأساس للعادات الاجتماعية. في حديثه مع رصيف22، يلفت عبد سلمان إلى أنه "لا مجال لإنكار أن التطور من حياة الريف لحياة المدن، كانت المحاصيل الزراعية أحد مقاييسه. فتاريخ التحضر والتمدن لمكونات المنطقة الكردية، قابل للفهم والتحليل والتركيب ضمن هذا السياق الاقتصادي. فهي منطقة تفتقر إلى الصناعة والتبادل التجاري بالرغم من أنها منطقة حدودية".

والواضح أن تحولاً طرأ على طريقة تناول الطعام وأنواعه بين الريف والمدينة، ما يُعيده سلمان إلى "التحولات التاريخية التي تسبّبت بها الزراعة ومردودها المادي، ومساهمتها في خلق مسارات جديدة للحياة عبر التاريخ".

ويُلاحظ من يعيش في المنطقة الكردية في سوريا، غياباً تاماً لجميع أنواع المشاريع الإنمائية والصناعات الثقيلة أو المعامل والمصانع، ما ساهم في جعل الزراعة وصناعة الخبز أمراً مؤثّراً ومتأثراً بـ"المسارات السياسية والحضرية، والاستقرار في المدن وحواضرها" بعدما تحولتا - وفقاً لخالد أمين - إلى مصدرين لـ"توفير وتأمين مصاريف المهارات والتقنيات، ووفرة السيولة اللازمة للهجرات والتعليم والصحة، ما كان له أدوار عميقة في تبادل المعارف والسلع والموارد".

ومع تطور صناعة الخُبز ومراحل إعداده، أصبح من الرموز الأساسية للتحولات التاريخية التي عاشها أبناء الأسر والقرى والعوائل ومالكو الأراضي الزراعية والعاملون فيها. ويشير سعدون: "نلاحظ في منطقتنا الارتباط الوثيق بين الخبز والمعيشة التي تعتبر مصدراً أساسياً للعيش، وإنتاجه بطرق مختلفة تاريخياً،  من خلال الآثار والتلال الأثرية ووجود التنور الكردي، وبكثافة وأصبح الخبز رمزاً مقدساً لدى الكرد كونه أداة أساسية للبقاء وديمومة الحياة". 

رغم كل التغيرات، الخبز حامل جمعي 

التغيّرات التي طرأت على نمط الحياة في المناطق الريفية من حيث تغيير شكل العمران من الطين إلى الأساسات والأسمنت، والتغيّرات التي طرأت على سبل توفير المياه والكهرباء، كان للزراعة ومردودها الأدوار الأساسية فيها، كما كانت محرّكاً لسلوكيات الاستقرار في المدن، والاعتماد على مواسم الزراعة في الأعمال الخاصة.

في هذا الصدد، يقول خالد أمين: "الزراعة ولوازمها شكّلت حاجة أخرى للتوسع نحو إنشاء مراكز سُميت بلدات ونواحي، ثم مدناً، وأوجدت فرص عمل بشرية، ما حدا التجمعات التجارية والصناعية اللصيقة بالريف على أن تربط تعاملاتها المالية بالمواسم الزراعية. فأصبحت الزراعة عامل استقرار وتعاون في الريف ورافداً اقتصادياً حيوياً للتوجه نحو المدن والبلدات التي احتوت في البدايات على الموظفين والعمال فقط".

والواضح أن مواسم الزراعة شكّلت رافداً إضافياً للعاملين في قطاعات حكومية، وكما هو متوقع، ترافق ذلك، وفقاً للمزارع سلمان، مع "تحوّلات اجتماعية عميقة، وتغيّرات كبيرة في العادات الغذائية. فمثلاً، خُبز المدينة يختلف عن خبز القرية من حيث طريقة الإعداد والحجم والنوعية، لذا أصبح رمزاً للحداثة والاستقرار". لكن التغيرات لم تكن على مستوى الأكل والخبز فحسب، بل كمؤشّر لتحولات اجتماعية أعمق بين الريف والمدينة من حيث صناعة الخُبز في المنازل "التنور/ الصاج" أو الخبز المدعّم والمصنوع في الأفران الحجرية والآلية، وهو ما منح المزيد من الراحة وشيئاً من الرفاهية للأسر المتمدنة في مراحل لاحقة.

مختلف جهات السلطة في شمال شرقي سوريا "تستغل القمح - الحاجة الأساسية لمعيشة الأهالي، وتقدّم نوعية غير قابلة للتناول وسيئة من حيث المواصفات برغم شراء المحاصيل بثمن بخس ومنح خبز رديء الجودة، ما خلق رد فعل عنيفاً لدى الأهالي الذين تظاهروا لأجل تحسين جودة الخبز"

غيّرت المدينة عادات الطعام الجماعي من صحن كبير للجميع إلى الأكل المنفرد أو الأكل في صحون خاصة صغيرة، وبقيت ثقافة تناول الخبز بشراهة أو في الوجبات جميعها، ودوماً كانت المحاصيل الزراعية الأساس في نوعية الطعام. وضمن السياق ذاته، ورغم الاستقرار في المدينة، بقي خبز القرية ضيفاً ملازماً للمهاجرين إلى المدن، وبقيت رمزيته وهويته قائمتين. 

وهو ما يذهب إليه أمين إذ يقول: "شكّل الخبز عاملاً أساسياً ومهماً لكل الحكومات، والتي سعت إلى توفيره ودعم سعره - وإن لم يكن بالمجان - لإرضاء الشعب. كما تم ربطه بقضية تدنّي الأجور ودعم المواد الاستهلاكية، وهذا الأمر مرتبط بفكرة المركزية والتحكّم في التجارة والاقتصاد، والهدف الآخر هو إبقاء المواطن تحت ثقل شعارات المقاومة والجوع وأعباء المعيشة".

ويتضمّن التاريخ الوطني للخبز والقمح في المنطقة الكردية تضحيّات قدمها الفلاحون لأجل الأرض والزراعة والقمح، برغم السياسات الزراعية الرسمية التي يمكن وصفها بأنها كانت "تطفيشيه" و"تجويعيه".

يورد الناشط الكردي مثالاً على ذلك: "الموظفون الحكوميون وطلبة المدارس، الذين نزحوا من الريف للسكن قريباً من مكان العمل أو الدراسة حيث شكّلوا حزاماً للفقر حول المدن الكبرى. ومع ذلك، فإن ما ساندهم كان الخبز بالدرجة الأولى".

وخلال الموسم الزراعي الحالي، عبّر سكان شمال شرقي سوريا عبر التظاهرات ومواقع التواصل الاجتماعي، عن سخطهم ورفضهم تسعيرة شراء القمح والتعبير عن تخوفهم من "الجوع القادم"، وهو ما يؤكده سعدون لرصيف22 بقوله: "نمرُّ بظروفٍ حياتية صعبة، والخبز هو المنقذ للمنطقة، والحفاظ على القمح وعلى إنتاج الخبز من ضروريات الحياة والبقاء"، منتقداً مختلف جهات السلطة التي "للأسف تستغل القمح، أي تستغل الحاجة الأساسية لمعيشة الأهالي، وتقدّم نوعية غير قابلة للتناول وسيئة من حيث المواصفات في تناقض واضح مع شراء المحاصيل بثمن بخس ومنح خبز رديء الجودة جداً، ما خلق رد فعل عنيفاً لدى الأهالي الذين طالبوا بتحسين جودة الخبز في المنطقة"، مستدركاً بأن ذلك ينطبق على المسلحين والإدارة الذاتية والحكومة السورية، ومشدداً على أن "الإدارة الذاتية غير مهتمة بالأمر ولا تعمل واجبها لتصحيح الأمور".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard