لم تلقِ الحرب السودانية بظلالها على مصر سياسيًا فقط، فمعاركها التي تدور في دهاليز الاقتصاد بين البلدين لم تكن أقل ضراوة، بعدما دمرت قطاعات منهما، وكانت تميمة الحظ على قطاعات أخرى.
"العلاقات بين مصر والسودان ممتدة عبر التاريخ"، بتلك الكلمات وصف فهد شاهين، أستاذ التمويل والاستثمار المصري، تأثير الحرب على اقتصاد البلدين، إذ يُعدّ السودان بوابة مصر للسوق الأفريقية، ووصل التبادل التجاري بين البلدين حتى 2019 لحوالي 700 مليون دولار، والميزان التجاري كان لصالح مصر، ولكن تدهورت الأمور بعد الحرب، خاصة أن رأس المال جبان، ولا يوجد مستثمر يعرض بضاعته للسرقة والخطف.
هل هناك من استفاد من الحرب؟
يقول شاهين لرصيف22 إن مصر أكثر الدول التي تحملت تبعات الصراع السوداني، على جميع المستويات، مبينًا أن ما يحدث تأثيرات مؤقتة والاقتصاد المصري قادر على استيعاب الأزمات والتعامل معها بطريقة سلسة.
بينما أوضح كمال كرار، الخبير الاقتصادي السوداني، أن صادرات السودان لمصر قبل الحرب كانت في حدود 500 مليون دولار سنويًا، والواردات 550 مليون دولار، أي أن الميزان التجاري متقارب بين الدولتين، لافتًا إلى أن الحرب أضرت بالمصدرين السودانيين، وأنّ انهيار الصناعة السودانية فتح الباب لمنتجات مصرية عديدة مما عزز موقف الاقتصاد المصري.
ورأى الفاضل إبراهيم، الباحث السوداني ورئيس القسم الاقتصادي بجريدة التغيير السودانية، أن حجم الخسائر في العلاقات التجارية بين البلدين بعد الحرب غير معلومة "رقميًا" على الأقل للجانب السوداني، ومعظم الخسائر وقعت خلال الأشهر الأولى للحرب بعد توقف قطاع المقاولات لأنه اعتمد على مواد البناء المصرية، بجانب تراجع استيراد الأجهزة الكهربائية والبلاستيكية باعتبارها من الكماليات.
صادرات السودان لمصر قبل الحرب كانت في حدود 500 مليون دولار سنويًا، والواردات 550 مليون دولار، أي أن الميزان التجاري كان متقارباً بين الدولتين، إلا أن الحرب أضرت بالمصدرين السودانيين، وانهيار الصناعة السودانية فتح الباب لمنتجات مصرية عديدة مما عزز موقف الاقتصاد المصري
وأشار إبراهيم إلى زيادة في استيراد المواد الغذائية عقب توقف 60% من المصانع السودانية، واعتماد الولايات السودانية على الدقيق والمنتجات الغذائية المصرية لدرجة صدور أوامر من ولاتها بعدم خروج المواد المستوردة خارج النطاق الجغرافي.
الصادرات المصرية للسودان
وكشف محمد عبد الغفار، رئيس المجلس الاقتصادي الأفريقي، أن الحرب أوقفت الأنشطة الاقتصادية بالسودان، ولذلك أوردت مصر المواد الأساسية، مثل الدقيق والزيت والسكر بالإضافة للملابس والأغذية السريعة التحضير مثل النودلز والأندومي، والتي تستحوذ على النصيب الأكبر من عمليات الإغاثة، واشترى بعض السودانيين خطوط إنتاج كاملة من مصر خاصة من المواد الغذائية والصابون، لتلبية احتياجات مواطنيهم بالداخل.
قال عبد الغفار لرصيف22 إنّ مصر تصدر سلعًا استراتيجية لم تكن تصدر في الماضي، ومعظمها مستوردة مثل القمح الذي تستورد مصر منه 30% من احتياجاتها، وتحتل المرتبة الأولى عالميًا باستيراده، والشيء نفسه مع السكر، لذا أصبحت مصر تستورد حصصًا إضافية ليتم تصديرها للسودان، حيث استحوذ السودان على 10-12% من المنتجات الغذائية المصرية، مبينًا أن المستفيد الأول من عوائد التصدير المنتج الأول فقط، إذ يذهب السودانيون بأنفسهم للمنتجين بدون وسطاء.
اليوم، تستورد مصر حصصاً إضافية من السكر والقمح لتصديرها للسودان، حيث يستحوذ السودان على 10-12% من المنتجات الغذائية المصرية.
"لا يمكن التنبؤ بمستقبل الصادرات أثناء الحرب"، هكذا وصف محمود بزان، رئيس المجلس التصديري المصري للصناعات الغذائية لرصيف22، حالة الصادرات المصرية للسودان، مشيرًا إلى أنها تمر بمراحل صعود وهبوط رغم أنها ثاني أكبر سوق للمنتجات الغذائية بعد السعودية، حيث انخفضت هذا العام بنسبة 25% حتى شهر أيلول/سبتمبر بالمقارنة الفترة نفسها من العام الماضي، رغم أن الصادرات أحدثت نموًا بكل الدول بنسبة 15%.
"يجب أن نقف مع أشقائنا وقت الحرب"، بتلك الكلمات استهل عماد عابدين سكرتير شعبة البقالة حديثه، مبينًا أن مصر سمحت بتصدير السكر والزيت والشاي والأرز للسودان بعد الحرب، إذ يتم تصدير المواد التي بها فائض، بعد مراجعة طلبات السوق ومعرفة الكميات الموجودة منها، والمدة التي يمكن أن تكفي السوق المصري.
وأكد عابدين لرصيف22 أن تأخير الشاحنات يتعلق بتأخير الإجراءات على الجانب السوداني، وجودة المنتجات المصرية أفضل من مثيلاتها من المنافسين بالسوق السوداني ولذلك أسعارها أعلى.
رغيف الخبز… السلعة الأثمن في الأزمات
لم ينجُ رغيف الخبز، السلعة الأساسية للمصريين، من تداعيات الحرب السودانية، بعد قفز صادرات المطاحن من 53 مليون دولار عام 2021 إلى 260 مليون دولار بعد الحرب. يوضح خالد فكري، سكرتير شعبة المخابز بالغرفة التجارية بالقاهرة، أن المطاحن اتجهت بعد قصف المطاحن السودانية للتصدير لتوفير عملة صعبة لاستيراد القمح، مما خلق أزمة بالسوق المصري، وكانت بعض الشاحنات تنتظر 3 أيام من أجل تحميل "نقلة" دقيق، ولكن قامت المطاحن بالتوازن بين التصدير والسوق المحلي بعد مناشدة المسؤولين من خلال إحدى الفضائيات.
وأكد فكري لرصيف22 أن المخبوزات تأثرت أيضًا بالسمسم لأنه يدخل بالعديد من المخبوزات مثل الفينو وكعب الغزال ولكنه لم يؤثر على أسعارها.
وقفزت صادرات السكر من 1.6 مليون دولار عام 2021 إلى 79 مليون دولار بعد الحرب، ويوضح حسن الفندي، رئيس شعبة السكر بغرفة الصناعات الغذائية باتحاد الصناعات المصرية، عمليات تصدير السكر للسودان بعد الحرب، مبينًا أن مصر تعاني من عجز في إنتاج السكر وتم التعاقد على استيراد مليون طن لسد الفجوة التي وصلت العام الماضي إلى 400 ألف طن، متسائلًا كيف يكون هناك عجز في سلعة ويتم تصديرها، وتساهم الحلويات بنسبة كبيرة من الصادرات للسودان خاصة الشوكولاته والبسكويت.
كذلك خفضت الحرب تصدير العديد من السلع مثل مواد البناء، ويوضح أحمد الزيني، رئيس شعبة مواد البناء بغرفة القاهرة التجارية، أن تراجع الصادرات للسودان تعدى 50%، وهو نتيجة طبيعية للحرب وحدث سابقًا في ليبيا، مبينًا أن أصحاب الشركات اتجهوا لدول أخرى لتعويض الضرر.
واعترف الزيني لرصيف22 أن العديد من السائقين يرفضون الذهاب للسودان بسبب الحرب ونشاط المليشيات وقطاع الطرق ومن يذهبون يطلبون أجراً عالياً، واقتصروا على الوصول للحدود لتتولى الشاحنات السودانية نقل البضاعة للولايات.
"زادت الواردات المصرية للسودان أضعاف مضاعفة"، هكذا استهل إلياس، نائب رئيس الغرفة القومية للمستوردين بالسودان، حديثه، مبينًا أن الحرب أخرجت الكثير من المصانع من الخدمة، لوجود مركز الصناعة بالخرطوم، وتوجهت الأنظار لمصر لتكون البديل لهذه المصانع، لقرب المسافة بين البلدين، وسهولة النقل والتعامل بين الشعبين، ولذلك حدثت في بداية الحرب طفرة كبيرة بالبضائع المصرية المتجهة للسودان، وأصبحت هي الطاغية في السوق السوداني، حتى أن هناك مصانع مصرية متوقفة عادت للعمل، وشهدت موانئ أرقين ووادي حلفا تكديسًا للبضائع المصرية مما زاد الضغط ورفع التكلفة.
كلف الشحن تتضاعف في الحروب
وصف إلياس لرصيف22 مشكلة النقل بأنها "قاصمة الظهر للتجارة بين البلدين"، إذ كانت تكلفة النقل بالشاحنة التي تحمل 60 إلى 70 طنًا من القاهرة بين 65 و70 ألف جنيه مصري ( حوالي 1400 دولار)، لكن بعد الحرب تضخم الرقم إلى 120 ألف ( حوالي 2400 دولار) ثم تجاوز حاليًا الـ200 ألف جنيه مصري (4000 دولار)، مبينًا أن أصحاب الشاحنات يستغلون السودانيين. فإذا اتفق على سعر وجاءت الشاحنة أمام المصنع يرفع السعر المتفق عليه، مما أثر على حجم التجارة وانسياب البضائع، مطالبًا بوجود رقابة على عمل تلك الشاحنات لأنها الشريان الرئيسي لنقل البضائع بين البلدين.
اتجهت المطاحن في مصر بعد قصف المطاحن السودانية للتصدير، لتوفير عملة صعبة لاستيراد القمح، مما خلق أزمة بالسوق المصري، وكانت بعض الشاحنات تنتظر 3 أيام من أجل تحميل "نقلة" دقيق، ولكن قامت المطاحن بالتوازن بين التصدير والسوق المحلي، وتم احتواء المشكلة
وأوضح إلياس أن الإجراءات على المعابر وضعت عائقًا آخر أمام المنتجات المصرية وتسببت بتأخير مواعيد التسليم، فقبل الحرب كانت الشاحنة تصل للخرطوم في 20 يومًا، وتسبب الانتظار في طوابير المعابر، بوصولها لدنقلا القريبة من الحدود في 35 يومًا وأكثر، مما يفاقم من الخسائر أن فترة السماح للشاحنة 14 يومًا من تاريخ الشحن، وأي يوم زيادة يدفع عليه التاجر السوداني 1200 جنيه غرامة (24 دولارًا)، وهي تكلفة إضافية يتحملها المستهلك السوداني، غير مشكلات التحويلات وإجراءات الورق.
ويرجع السفير محمد عبد الغفار السبب للعدد الكبير من الشاحنات التي تصل إلى 6 آلاف شاحنة، وهو ما يفوق إمكانات المنافذ، وتأخر الإجراءات بالجانب السوداني لقلة إنتاج الطاقة وانقطاع التيار الكهربائي، ورغم ذلك العمل يستمر بالمنافذ على مدار الساعة.
ضاعف التضخم وزيادة أسعار النقل أسعار المنتجات المصرية بعد الحرب ثلاثة أضعاف، مما جعل أسعارها لا تنافس منتجات تركيا والصين والسعودية والهند، التي لجأ لها التجار لسهولة الإجراءات، وقلل حجم الطلب على المنتج المصري تدريجيًا، بحسب إلياس.
وأوضح المستورد السوداني أن واردات مواد البناء المصرية تدهورت بعد الحرب، لارتفاع أسعار المنتج المصري مقارنة مع دول أخرى، وقلة المنشآت وتوقف المباني الكبيرة والاستثمارية بالخرطوم بعد تحولها لساحة حرب، وفي المقابل زاد البناء بالأقاليم للسكن.
قال إلياس إن القطاع الأكبر للصادرات المصرية هو المواد الغذائية لا سيما الدقيق، حيث كان أغلب الدقيق في الفترة الأولى بعد الحرب يرد من مصر ثم دخل الدقيق التركي، وحاليًا عادت مطاحن سودانية للعمل، ولا يزال الدقيق المصري صاحب الحصة الأكبر بالسوق ووصل لجميع الولايات، مبينًا أنه يواجه مشكلة التأخير بالوصول مما يتسبب بفساد كميات كبيرة منه في الطريق بسبب درجات الحرارة المرتفعة.
الواردات السودانية إلى مصر
تعتبر أبرز خسائر الحرب الواردات السودانية لمصر، والتي أصدر الدعم السريع قرارًا بمنع تصدير 19 سلعة للقاهرة، أبرزها اللحوم والسمسم والزيت والفول السوداني والكركديه.
أوضح محسن الباجوري، نائب رئيس الشعبة العامة للمستوردين باتحاد الغرف التجارية المصرية، أن أبرز السلع المتضررة من الحرب السودانية الجلود والسمسم حيث ساهمت الخرطوم بأكثر من 40% من استهلاكهم، فلجأ تجار الجلود لبلدان شمال أفريقيا، وأضر غياب السمسم بتجار الحلاوة الطحينية، واللحوم التي كانت القوام الأساسي لسلاسل محلات الجملة الكبيرة مثل كارفور ومترو، مما تسبب بقفزة بأسعار تلك السلع.
وعدّد الباجوري لرصيف22 أسباب تراجع الاستيراد، كالخوف من حجز الشحنات القادمة من السودان، والتوجيهات الحكومية بعدم فتح اعتمادات لمواد لديها بدائل في مصر، لعدم الضغط على الدولار، مثل الفول السوداني والكركديه، موضحًا أن بعض التجار تعرضوا لخسائر جسيمة أبرزهم تجار العطارة لاعتمادهم على الكثير من الأصناف السودانية.
وبين السفير محمد عبد الغفار أن الصادرات السودانية لمصر قلت لتوقف النشاط الزراعي بأماكن كثيرة بالسودان وتعطيل عمليات النقل واللوجستيات، حيث صدرت السودان لمصر 30% من احتياجاتها من السمسم، وانكمش بعد الحرب والسيول التي أودت بـ 50% من إنتاجه إلى 7٪ فقط، تاركًا فجوة تقدر بربع الاحتياجات المصرية، والكركديه الذي يتوقع ارتفاع أسعاره برمضان، وبعض أنواع التمور والبهارات مثل الكمون.
اللحوم "لم تؤثر على السوق المصري"، بتلك الكلمات وصف محمد وهبة، رئيس شعبة القصابين لرصيف22، تأثير غياب أهم السلع السودانية وأقربها للمصريين وهي اللحوم التي قل حجم تداولها من 193.2 مليون دولار إلى 164 مليون دولار بعد الحرب، مبينًا أنه تم توفير العديد من البدائل خاصة من جيبوتي وهي السلالة السودانية نفسها وتباع بالسعر نفسه الذي وصل إلى 300 جنيه (6 دولارات) حاليًا، بجانب لحوم جنوب البرازيل وتشاد وكولومبيا، والجمال السودانية التي حاليًا تربى في مصر وتوقف استيرادها، خاصة مع قلة الطلب على اللحم الجملي، ووجود ركود عام ببيع اللحوم.
"لدينا كميات كبيرة من اللحوم، أوقفها الدعم السريع"، هكذا استهل محمد حامد، كبير مصدري المواشي السودانية، حديثه، مبينًا أنه كان يصدر بمفرده 176 ألف رأس لمصر قبل الحرب، ولكن الدعم السريع هاجم القوافل على الطريق من دارفور لأم درمان حتى اضطر أصحاب المواشي للخضوع لقراراته بإيقاف تصدير المواشي.
وأكد حامد لرصيف22 أن الكارثة تكمن في المصروفات على المواشي خاصة صيفًا حيث تقل المراعي مما يتطلب زيادة بالأعلاف المصنعة، غير خسائر التجار الذين حملوا مواشيهم ليبيعوها في أم درمان ليعودوا بها مرة أخرى بعد القرار، وما تسببت فيه الاشتباكات من فقدان للمراعي ومقتل للمواشي وشرود البهائم من أصحابها.
وأضاف حامد أن أسعار المواشي تدنت بسبب عدم تصديرها، لم يتبقَّ للتصدير سوى أبقار مناطق شرق ووسط السودان ولكنها لا تفي بالطلب المصري، ولا يخلو طريقها من النهب والسرقات خاصة عند منطقة الجبيلي.
تم توفير العديد من بدائل اللحوم المستوردة من السودان للسوق المصري، خاصة من جيبوتي وهي السلالة السودانية نفسها وتباع بالسعر نفسه، بجانب لحوم جنوب البرازيل وتشاد وكولومبيا.
وقال رئيس القسم الاقتصادي بصحيفة التغيير، إن صادرات المواشي من غرب السودان تراجعت لتعرض التجار للنهب والضرائب غير المبررة من الدعم السريع، وقرار الحظر الأخير شكل ضربة موجعة للتجار المعتمدين على التصدير ومن الصعب تعويضه بالتجارة لتشاد وجنوب السودان المكتفية ذاتيًا من اللحوم، والحكومة غطت النقص الخاص بصادر الماشية من غرب السودان بزيادة الصادرات الحيوانية من المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش شرق السودان ووسطه.
الحاصلات الزراعية
لا تعد واردات الحاصلات الزراعية أحسن حالاً من نظيرتها الحيوانية، إذ وصلت قيمتها قبل الحرب لـ70.8 مليون دولار، تصدرها السمسم الذي انخفض من حوالي 65 مليون دولار إلى قرابة 53 مليون دولار خلال الـ9 شهور الماضية.
"الحرب دمرت كل شيء" هكذا وصف منذر محمد أحد تجار ومنتجي السمسم السودانيين، أحواله بعد الحرب، مبينًا أن نصف مناطق إنتاج السمسم وقعت تحت سيطرة الدعم السريع، لا سيما السمسم الأحمر المستخدم في الزيوت والمبيدات والطحينة، إذ قطعت القوات الطريق القادم من دارفور، مما تسبب بإفلاس عدد كبير من تجار السمسم، ووصلت الخسائر لملايين الجنيهات، ولكن السوق لم يتأثر بعد مع وجود سمسم أحمر مخزن
وأكد لرصيف22 أن خسائر السمسم الأبيض الذي يأتي من الجضارف، ويستخدم بالطحينة والحلاوة، ليست كبيرة بالمقارنة مع الأحمر، الذي كان يورد قبل الحرب 2500 طن سنوياً ونجح بالوفاء بعقوده مع مصانع الحلوى المتعاقد معها طيلة وقت الحرب، موضحًا أن القفزة غير المسبوقة في سعر السمسم تعود لارتفاع سعر الدولار بالسودان وعدم استقراره.
وروى محمد أن السمسم الأبيض لم ينجُ من الحرب، إذ أقتحم الدعم السريع بعض مناطق سنار وقت الحصاد، مما جعل المزارعين يفرون بحياتهم تاركين أراضيهم، غير خطر الطرق، حيث كثر قطاع طرق الذين يأخذون الشاحنة بما فيها، خاصة على الحدود المصرية السودانية، وتعرض نفسه للنصب بمصر ببضاعة كميتها طن ونصف.
بينما قال أحمد جمال لرصيف22، المسوق المصري للسمسم السوداني، إن معظم السمسم المصدر لمصر حاليًا يكون عبر التهريب ولا تتعدي الكميات الواصلة للمنافذ ما بين 50 لـ100طن في المرة، وهي قليلة ولا تتناسب مع حاجة السوق المصري، ومعظم التجار السودانيين يقومون ببيع منتجاتهم لشركات الحلاوة الطحينية، وبعضهم أسس شركات حلاوة، وتوجد أنواع أخرى من السمسم ولكنها لا تحظى بالإقبال نفسه من المصنعين، أبرزها السمسم التشادي وهو نيجيري يدخل مصر بشهادة تشادية.
وأوضح الفندي لرصيف22 أن هناك بدائل للسمسم السوداني من الصومال وإثيوبيا، مبينًا أن وزير الصناعة كامل الوزيري أقام مؤتمر لتفعيل دور الشركة المصرية السودانية لكي تتولى تداول السلع بين البلدين، ووقتها يمكن أن تنخفض أسعار السمسم.
ورأى الفاضل إبراهيم أن المزارعين بدارفور أعلنوا التوقف عن زراعة مساحات كبيرة في الموسم القادم إذا استمرت الحرب والاكتفاء بمساحة تغطي الاستهلاك الأسري، والزراعة المطرية، وليست منظمة بالقدر الكافي، إذ لا توجد جمعيات للمزارعين، وبعد وقف الصادرات انحصرت دورة الإنتاج بدائرة ضيقة محليًا.
وقال فيصل محمد، العطار بـ"عطارة كونيكا" المتخصصة بالعطارة السودانية بالبلدين، أن العطارة السودانية ارتفع ثمنها بعد الحرب خاصة بدارفور بسبب الارتكازات الأمنية المتعددة من مدن مثل نيالا والفاشر وحتى وصولها لمصر، وكل منها يحصل أموال على البضاعة، ويعيش مزارعي العطارة بدارفور في كابوس حقيقي، بين تعذر تصدير منتجاتهم، ونهبها من الدعم السريع.
وأكد محمد لرصيف22 أن الأزمة تكمن بالمواد التي يقتصر جلبها على دارفور، مثل التبلدي والقصيم واللالوب والصعود والصمغ العربي والمركوب، ولكن التجار بمصر أوجدوا بدائل للنقص لا سيما الفول السوداني عبر المنتج المصري.
وتظهر على قائمة الدعم السريع للسلع المحظور تصديرها الزيت، ويقول موفق أحمد، أحد تجار الزيت السوداني لرصيف22، أن زيت السمسم لا علاقة له بالحرب، لأن مناطق زراعته تحت سيطرة الجيش، ولكن الأزمة في زيت الفول السوداني لأن صناعته تعتمد على دارفور بنسبة 90%، بعد منع الدعم السريع دخوله لشمال السودان، ومصادرة شاحنات وبضائع المخالفين، مشيرًا إلى أن بعض الولايات اتجهت لزراعته تفاديا للندرة، والاعتماد كلياً على الإنتاج الذاتي.
كيف تؤثر قرارات الدعم السريع على التجارة بين البلدين؟
رأى عبد الغفار أن "الهدف من قرار الدعم السريع الإيذاء بالمصالح المصرية ومحاولة إثبات نفسه، والأضرار بمصالح المنتجين السودانيين، دون تأثير فعلي على الأرض"، موضحًا أن "أماكن سيطرة الدعم السريع خاصة بالغرب كانت تمد مصر بالعديد من المنتجات الغذائية كالسمسم والكركدية، والتي مثلت قبلة الحياة للمزارعين هناك، كما أن بعض سلع القرار غير مؤثرة، مثل الزيوت، لاعتماد إنتاجها على زيت السمسم الذي لا يدخل في الثقافة الغذائية للمصريين".
أوضح كرار لرصيف22 أن القرار بمنزلة ضغط لمساومة سياسية وغير قابل للتنفيذ لطول الحدود بين الولايات وبين السودان ومصر، كما أن معظم الحركة التجارية الحدودية بين البلدين تعتمد على التهريب حتى قبل الحرب.
امتلك المستثمرون المصريون قرابة 11 ألف شركة في السودان، ما بين مصانع ومجازر للحوم وأراضٍ زراعية، وقد توقفوا بالكامل بعد الحرب حيث وصلت الخسائر لـ95%، خاصة في الخرطوم وضواحيها حيث استولي عليها الدعم السريع وباع كل ما فيها من محتويات ودمرت بالكامل
وعلى الجانب الأمني يقول أحمد حسين مصطفى ادروب، المتحدث باسم القوى المشتركة بالفاشر لرصيف22 إن "القرار يأتي في إطار الحالة النفسية السيئة التي تعاني منها المليشيات وذلك جراء الهزائم المتتالية وضربات قاصمة الظهر التي تلقتها قوات الدعم بكل المحاور"، مبينًا أن "موسم الحصاد بدأ وهناك ركود بأسواق المحاصيل والثروة الحيوانية مما أثر سلبًا على المنتجين، ولكن المليشيا استغلت الوضع وصدرت المنتجات بأماكن سيطرتها لتشاد وليبيا".
الاستثمارات المصرية بالسودان
بيّن السفير محمد عبد الغفار أن المستثمرين المصريين امتلكوا 11 ألف شركة بالسودان ما بين شركات ومصانع ومجازر للحوم وأراضٍ زراعية، توقفوا بالكامل بعد الحرب، وصلت الخسائر لـ95%، خاصة في الخرطوم وضواحيها حيث استولي عليها الدعم السريع وباع كل ما فيها من محتويات ودمرت بالكامل.
وأشار رئيس المجلس الاقتصادي الأفريقي إلى أن الضرر الأكبر للاقتصاد المصري بسبب نزوح السودانيين إلى مصر أدى إلى الضغط على الخدمات والمرافق المصرية، وقطاع العقارات.
أما أبرز القطاعات تأثراً بالنزوح السوداني فهو العقارات. يقول آدم إبراهيم المستشار والمطور العقاري إن موجات النازحين السودانيين أثرت بالسلب على مناطق سكن الشريحة المتوسطة مثل فيصل والهرم وحدائق الاهرام وعين شمس، وزاد الطلب بشكل كبير، مما أدى لارتفاع أسعار الوحدات، مبيناً أن ارتفاع الأسعار وصل لـ 200٪ ليرتفع سعر الوحدة من 3 آلاف جنيه (60 دولارًا) إلى 8 آلاف (160 دولارًا)، مما أدى لتحرك المستأجرين الأصليين لتلك المناطق أماكن أخرى أقل سعرًا للوحدة أي انتقالهم لشريحة أقل، سواء في السكن أو المدارس أو الخدمات، مما رفع أسعار تلك الوحدات أيضًا.
وقال إبراهيم لرصيف22 إن الأزمة مردها غياب رقابة الحي ومجلس المدينة على استئجار الوحدات، وغياب معايير تسعير إيجار الوحدة، بل إنّ معظم العقود التي استأجر بها السودانيون ابتدائية ولم تسجل بالشهر العقاري.
وأضاف المطور العقاري أن استئجار السودانيين للعقارات أثر بالإيجاب على المدن الجديدة التي عانت من إغلاق الكثير من وحداتها مثل الرحاب ومدينتي، كما أن عودة عدد كبير منهم أدى لانخفاض الأسعار، التي لن تعود لما كانت عليه قبل النزوح.
أسوان الأكثر تضررًا
تعتبر أسوان المدينة الأكثر تضررًا من التجارة البينية بين مصر والسودان نظرًا لقربها من الحدود السودانية، وفي هذا الصدد يقول أحمد صفوت، رئيس الغرفة التجارية بأسوان، إنّ المدينة تعد أبرز أسواق التجارة بين البلدين، ولكن بعد الحرب توقفت إلى حد ما، وذلك بسبب خوف التجار من الهجمات على شاحناتهم أو سرقة البضاعة، عدا أزمة التحويلات البنكية بين البلدين، فأختفت اللحوم السودانية التي كانت تصل بجودة عالية وسعر رخيص، وبعض أنواع البهارات.
وأكد صفوت لرصيف22 أن بعض المواد ارتفعت أسعارها بشكل جنوني وأصبح الكثير منها غير متوفر مثل اللحوم والزيت والسكر والدقيق بسبب توقف التجارة بين البلدين بالإضافة للوافدين السودانيين إلى أسوان سواء المؤقتين المتجهين للقاهرة والإسكندرية أو الدائمين، الذين ضغطوا على السوق المحلي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...