قصص الأشخاص في الحرب ليست عابرةً، بل تستمر معهم طوال حياتهم، حيث يعيشون صدمات الحرب وما بعدها، محاولين الشفاء منها بكل قدرتهم.
ولكن، كيف يشفى الإنسان مع تكرار الحروب وعيش تجارب الألم المتكررة؟
"أيّ ألم يجب أن أحتضن"؟
"عندما بدأت الحرب في لبنان، لم أعرف أيّ ألم يجب أن أحتضن: ألم الذكريات مع حرب لبنان الأهلية في الثمانينيات عندما كنت طفلةً، أو ما جاء بعدها من حروب متكررة على مرّ السنوات وصولاً إلى أيلول الأسود هذا؟"، تقول إيمان (اسم مستعار)، لرصيف22.
تتابع: "كان الخوف يتملكني عندما بدأت الحرب على غزّة ومعها جبهة الإسناد في جنوب لبنان. ومع توسع الجبهة شعرتُ بأن الخطر يقترب. ماذا سأفعل لو بدأت الحرب حقاً؟ وكوني أمّاً لطفلة، كان الخوف مضاعفاً: ماذا لو متّ؟ من سيحميها؟ هل ستكون بأمان من بعدي؟ كلها أفكار اجتاحت عقلي وعشت أسوأ أيامي في هذه الحرب. وبرغم أني أتابع جلسات مع طبيب نفسي إلا أن قلق الموت لم يغادر دماغي".
قصص الأشخاص في الحرب ليست عابرةً، بل تستمر معهم طوال حياتهم، حيث يعيشون صدمات الحرب وما بعدها، محاولين الشفاء منها بكل قدرتهم. ولكن، كيف يشفى الإنسان مع تكرار الحروب وعيش تجارب الألم المتكررة؟
تخبر إيمان عن الأيام الأولى للحرب قائلةً: "لم تكن فكرة أن يقصفوا بيروت واردةً، لذلك لم أفكر في مغادرة المنزل إلى مكان أبعد من المدينة. لكنني لم أنجُ حقاً. قُصفت منطقتي مرتين، وكل ما أذكره أنه في المرة الأولى أمسكت يد ابنتي، وغادرت المنزل وركضت في الشارع خوفاً من غارة أخرى تودي بحياتنا".
وتضيف: "شعور الحياة أو الموت لم يكن غريباً عليّ، إذ تذكرت كيف كانت أمي تركض بنا عندما كنا أطفالاً إلى الملاجئ لنختبئ من القذائف، أو كيف كانت تركض بي بين البنايات هرباً من رصاصات القناصين. هذه الذكريات كلها تجددت في رأسي مع كل لحظات الخطر".
تشرح إيمان عن حياتها اليومية خلال الحرب: "أعادتني الحرب إلى صدماتي الأولى كلها. وأصابتني حالة من التجمد، أي عدم التأقلم والتعود، ورحت أهرب إلى منزل أمي حيناً، أو أجلس في المقاهي حيناً آخر. أهملتُ شكلي وصحتي كمحاولة لرفض هذه الحرب وعدم قبولها، على عكس ما كان يفعل أصدقائي في محاولاتهم للتأقلم. شعرتُ بأن منزلي لم يعد آمناً وأنني في أي لحظة قد أفقد حياتي التي أحبها أو أفقد من أحبهم. وبعد مرور شهرين وانتهاء الحرب، جلست في المنزل لأيام وحيدةً أحاول استعادة ما خسرته خلال الحرب: الشعور بالأمان. ولا أعرف إذا كنت سأستعيده حقاً مع كل ما يحيط بنا من أحداث متسارعة، إذ أصبحت أخطط يومياً للهروب من لبنان وإيجاد فرصة في بلد آخر".
وتختم إيمان حديثها: "أعترف بأن هذه الحرب آلمتني وأخافتني جداً. كان خوفي على ابنتي أكبر، فأنا أحلم لها بمستقبل جميل، وبأن أراها تكبر أمامي دون حروب وأزمات".
تأثير الصدمات النفسية على الدماغ
بعد وقف إطلاق النار حالياً في لبنان، هل يمكن للعقل أن يتعافى بعد الصدمات التي مرت عليه كلها؟
يشرح الدكتور خالد ناصر، المتخصص في معالجة آثار الصدمات النفسية، أن الأشخاص الذين تعرضوا لصدمات نفسية يبقون في حالة تأهب مستمرة: "يصبح الدماغ تلقائياً في وضع الدفاع عن النفس، فتتحول وظيفته الأساسية إلى الحرص على تجنّب التعرّض لصدمة جديدة، ما يدفعه إلى التقاط الإشارات التي قد توحي بوجود خطر قبل وقوعه".
"شعور الحياة أو الموت لم يكن غريباً عليّ، إذ تذكرت كيف كانت أمي تركض بنا عندما كنا أطفالاً إلى الملاجئ لنختبئ من القذائف، أو كيف كانت تركض بي بين البنايات هرباً من رصاصات القناصين. هذه الذكريات كلها تجددت في رأسي مع كل لحظات الخطر"
ويؤكد لرصيف22: "في حال عدم تلقّي جلسات دعم نفسي للتخلص من آثار التروما، فإن الأحداث المشابهة تعيد إحياء الصدمات من جديد، ما يؤدي إلى الشعور بالغضب ذاته الذي شعرنا به في وقتها. وفي الوقت نفسه، يستعيد الدماغ رؤية المشاهد المؤلمة، ما يدفع الشخص للعيش في حالة الانهيار مجدداً".
الحياة بين حربين
الصدمة ليست حكراً على مكان أو زمان معين، بل يمكن أن تعود مع عودة الحرب وهذا ما عاشه أيمن خلال الحرب على لبنان إلى حين انتهائها.
"لم أكن أتوقع أن ما عشته في الحرب في دمشق، عام 2012، سيعود ليطاردني في لبنان في أثناء هذه الحرب في أيلول/ سبتمبر 2024"، يقول أيمن (طالب ماجستير مقيم في لبنان).
ويتابع: "في سوريا، بدأت الأحداث بشكل مفاجئ. نزاعات بين أطراف مسلحة، دبّ الخوف والرعب بين الناس، القذائق كانت تسقط في المناطق المجاورة لمكان سكني، والطيران لا يغيب عن سمائنا. كان الشعور بالخوف وعدم الأمان يلازمنا طوال هذه السنوات. صحيح أن الحياة استمرت تحت القصف، لكننا كنا نعيش في حالة ترقب دائم، لا أحد منا يعلم متى قد يكون الضحية التالية لهذه الحرب. تغيّر مجتمعنا، تفرّق الأصدقاء بين من هاجر إلى بلاد بعيدة ومن لجأ إلى مناطق أخرى، وكأن مسار الحياة انقلب رأساً على عقب".
"انتهت الحرب ولكنني لم أتعافَ، أصبحت مقتنعاً تماماً بأنني بحاجة ماسة إلى جلسات دعم نفسي، لأتخلص من آثار الصدمات التي عشتها في الحربين"
يضيف أيمن لرصيف22: "مع مرور الوقت، تأقلمت مع الحرب كأنني دخلت في حالة إنكار للواقع، تراكمت الأحداث في داخلي وأكملت حياتي في سوريا بما تيسّر، لكن عندما فقدت الأمل في أن يتغير الوضع الأمني والاقتصادي قررت الخروج من سوريا في العام 2020، خاصةً مع رفضي التام لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية، وكان هناك خياران؛ إما دفع مبلغ ثمانية آلاف دولار أو الخروج من البلاد. فاخترت مغادرة سوريا إلى لبنان، الوطن الأقرب جغرافياً إلى عائلتي. تقدمت لمتابعة تعليمي في لبنان مستفيداً من الإقامة الشرعية، ولكن، بما أننا في الدول العربية، فإن فكرة الأمان ليست ثابتةً. بعد مرور أربع سنوات على استقراري في لبنان، اندلعت الحرب على جبهة لبنان مع العدو الإسرائيلي، وكنت وقتها في زيارة لأهلي في سوريا، وكان عليّ العودة لتجديد إقامتي، وإلا سأضطر إلى تأدية الخدمة العسكرية فعدت إلى لبنان لأجد نفسي في خضم الحرب وكانت أصعب بكثير مما توقعت".
ويكشف أيمن أنه عاش حالةً من القلق والخوف والرعب المستمر: "كنت أضطر في كثير من الأوقات إلى مغادرة المنزل كي لا أبقى وحيداً، فألجأ إلى أصدقائي للشعور بالأمان وشعرت بأن كل الصدمات التي حاولت كبتها خلال الحرب في سوريا ظهرت مجدداً في هذه الحرب، والإحساس بعدم الأمان، بعيداً عن عائلتي، زاد من خوفي. دخلت في حالة من الانهيار، ورحت أتابع الأخبار بلا توقف، بسبب عدم معرفة ما هو المصير الذي ينتظرني".
ويختم قائلاً: "والآن انتهت الحرب ولكنني لم أتعافَ، أصبحت مقتنعاً تماماً بأنني بحاجة ماسة إلى جلسات دعم نفسي، لأتخلص من آثار الصدمات التي عشتها في الحربين".
إعادة الصدمة
يشرح الدكتور خالد ناصر، مفهوم إعادة الصدمة: "كل شخص يتأثر بطريقته الخاصة بناءً على تجربته وما مرّ به سابقاً، بمعنى أنه قد يختبر حرباً في مكان ما، ثم يعيش حرباً في مكان مختلف، أو يشهد عليها كالحرب في غزة مثلاً، فيستحضر الشخص الذكريات والمشاعر القديمة من الخوف والرعب فيعيش الحدث بين الماضي والحاضر في آنٍ واحد".
ويضيف: "في لبنان، الأمور أكثر تعقيداً، فإلى جانب الحروب يعيش الناس أزمات متعددةً تشمل انهيارات اقتصاديةً، وتوترات سياسيةً، وكوارث طبيعيةً، ما يخلق بيئةً غير مستقرة. هذه البيئة تدفع الأفراد إلى حالة مستمرة من التأهب النفسي، حيث تتراكم الصدمات بدلاً من أن تُعالج. خلال فترات النزاع، تعيد هذه الأزمات المتكررة إحياء الجروح النفسية القديمة، فتظهر أعراض القلق، والتوتر، والانهيار بشكل أوضح".
ويتابع: "أحياناً، يشعر الشخص بأنه عالق في دائرة لا تنتهي من الخوف والقلق، ما يجعل الحاجة إلى التدخل النفسي أمراً ضرورياً لإعادة التوازن".
في الحروب الجميع يخسر
حكاية تمارا هي حكاية فقدان الأمان، والذكريات المؤلمة التي لا تغيب عن البال، التي تجعل الأيام ثقيلةً مع الحروب المتكررة التي عاشتها وتعيشها في مدينتها حلب.
"هربت من الحرب الأخيرة في لبنان إلى مدينتي حلب في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، فاندلعت الحرب هناك، وكأنني عدت بالزمن ثلاثة عشر عاماً إلى الوراء"، تقول تمارا لرصيف22.
وتكمل: "كنت في التاسعة عشرة من عمري عندما بدأت أحداث سوريا عام 2011. تأثرت بشكل كبير بهذه الحرب. بدأ الخوف والنزوح والتهجير في تلك المرحلة. لم أكن أعرف ما هي الحرب؛ كنت أسمع عنها فقط من أمي اللبنانية التي عاشت الحرب الأهلية في لبنان قبل وفاتها، لكنني اختبرتها بنفسي عندما بدأت في حلب. عرفت حينها معنى القلق على العائلة والأخوة والمحيط، وأيقنت أن الحرب ليست مستحيلةً، بل قد تتكرر في أي بلد.".
"كل هذه الصدمات عادت لتظهر من جديد، فاضطررنا إلى النزوح جميعاً من المنطقة بحثاً عن الأمان، لكننا نعيش مجدداً وجع الفراق على مدينتنا وأحبائنا. في الحروب، لا شيء يعوّض خسائرنا."
وتتابع تمارا: "أسوأ لحظة مررت بها كانت يوم رأيت جارنا العاجز يُقتل أمام عينيّ على يد عصابة مسلحة. هذا المشهد لا يفارق ذاكرتي أبداً. غادرت سوريا في العام 2013، لكن القلق على أهلي ظل يرافقني طوال الوقت. أحاول مساندتهم من خلال عملي في لبنان، وأطمئن عليهم عبر الهاتف وأراقب حالتهم باستمرار. هذا الوضع أثّر على حياتي ودراستي وعملي، وأرهقني نفسياً وجسدياً. أتذكر مرةً حين كنت أتواصل مع أخي عبر الهاتف وسقط صاروخ بالقرب منه. هذا الرعب لم يفارقني طوال فترة الأحداث في حلب.".
تضيف تمارا: "الحرب تعني انتشار الشر والقتل والسرقة، وهذا ما كنت أخشاه حتى وأنا أعيش في لبنان بعيداً عن إخوتي. ازدادت حالتي سوءاً بفقدان أحد إخوتي في الجيش خلال الحرب عام 2020. كنت آمل أن تنتهي خدمته قريباً، لكن، كما حال الكثير من العائلات في سوريا ولبنان، فقدنا عزيزاً. في الحروب، الجميع خاسرون.".
وتشير إلى أنه عندما بدأت الحرب في لبنان، كان أول ما خطر ببالها هو أن أهلها بخير: "شكرت الله أنني كنت بمفردي دون زوج أو أطفال، لأنني في كل مرة أرى خسائر العائلات وموت الأطفال فيها، ينفطر قلبي، خاصةً أنني عانيتُ من الفقدان. وقبل انتهاء الحرب بفترة وجيزة، قررتُ العودة إلى مدينتي حلب، لكن الحرب اشتعلت من جديد. عاد الخوف ليسيطر عليّ، خاصةً على إخوتي. أخبرتهم بأنني لا أريد أن نكون طرفاً في أي شيء؛ كل ما أريده هو أن نكون جميعاً بخير، وأن تكون هذه البلاد بخير."
وتختم تمارا قائلةً: "كل هذه الصدمات عادت لتظهر من جديد، فاضطررنا إلى النزوح جميعاً من المنطقة بحثاً عن الأمان، لكننا نعيش مجدداً وجع الفراق على مدينتنا وأحبائنا. في الحروب، لا شيء يعوّض خسائرنا.".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
astor totor -
منذ 19 ساعةاسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ يومفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته