أريد سوريا مدنية، علمانية وحرّة بحق.
أمامي سيارة سوزوكي مغلقة تحمل "نمرة مرور حلب"، على سطحها فرشات وأغراض لُمّت على عجل، وفي الخلف، من وراء قضبان شبكة الحماية، أرى مجموعة من النسوة والأطفال وكأنهن مسجونات في أحد أقفاص "سجن التوبة"، ذلك السجن المهول في دوما، التابع لجيش الإسلام والذي روّع البشر بفظاعة ما يجري فيه، قبل أن تبدأ حقائق سجن صيدنايا بالظهور للعلن لتغطي عليه.
ينقبض قلبي لأسترجع ذاكرة ثلاث عشرة سنة مضت، وجميع موجات النزوح التي شهدتها وأفكّر: "غريب كيف تأتي حرب لتغطي أخبارها على حرب أخرى، ومجزرة تعتّم على مجزرة".
هل جربتم النوم وعيونكم مفتوحة؟
عادة لا أتذكر كوابيسي، استيقظ وعيناي دامعتان، وأتنبّه من وجه المخدة المبلول أنني شاهدت الكوابيس مجدداً.
منذ أن بدأت الحرب في سوريا منذ 13 عشر عاماً وأنا لا أنام. أخاف النوم، أخاف من تلك اللحظة التي تبدأ فيها عيناي بالانغلاق وحدهما، لأنني أدرك تماماً اقتراب موعد الكابوس، رعب الليل، وهو مختلف تماماً عن رعب النهار الذي انتهى للتو.
لكن هناك كوابيس تَمكّنت بمضمونها وبنيتها أن تعلق بذاكرة الصباح، ففرّغتها على الورق، وما زالت تذهلني كلما عدت لقراءتها.
أنا مسجونة في بناء يشبه مجمّعاً رياضياً، في قسمه السفلي ملعب كرة سلة، وفي العلوي بعض المكاتب. بنية معمارية غريبة تشبه تصميمات زها حديد. كانت معي صديقتي نسرين، محاصرتين من جبهة النصرة، نحاول الهرب، وكلما ركبت الدراجة الهوائية لأهرب يحدث شيء ما وتتوقف.
أرى مجموعة من النسوة والأطفال وكأنهن مسجونات في أحد أقفاص "سجن التوبة"، ذلك السجن المهول في دوما، التابع لجيش الإسلام والذي روّع البشر بفظاعة ما يجري فيه، قبل أن تبدأ حقائق سجن صيدنايا بالظهور للعلن لتغطي عليه
كان هناك من يحاول إخراج الجثث، والجثث هم الناس المسجونون معنا في المجمّع، يضعونهم على بطانيات وكأنها نقّالات.
استيقظ في اللحظة التي يصبون فيها البنزين فوق إحدى الجثث ليحرقوها.
يقول البعض إنه لا يجب روي المنامات، كي لا يختلّ ميزان الكون ويميل تماماً كميزان العدالة، لكن في كابوس آخر، كنت أسير في سهل واسع، مغطى بعشب أصفر يابس. إنها بداية الخريف، لسعة برد مع نسمة ريح والشمس تغيب، وغيم أسود يغطي السماء فهي ستمطر. إلى يساري مستنقع ضحل، لكن بدل الماء نفط أسود لزج، رُميت فيه جثث بملابس عسكرية على مدّ البصر، يلتصق قماشها بالزفت.
إنها ساحة المعركة، وأولئك جنود، لكنني لا أعرف إلى أي جيش ينتمون. بين الجثث يقف مُسلّحان وبأيديهم الرشاشات.
مررت قربهم، تجاوزتهم وأصبح ظهري لهم، فجأة أكتشف أنني أحمل جثة مبتورة الساقين من تحت الركبة، أعانقها، وجهها على كتفي وعظم ساقيها المبتور ينغرز في يديّ، أحملها كما تحمل الأم ابنها الصغير على صدرها.
أمشي، وما يزال العظم ينخز يديّ ويجرحهما، أراه أبيض، ناتئاً من اللحم الظاهر من البنطلون المشقوق أسفل الركبة.
لا أسمع صوت رصاص، لكنني أشعر بأول رصاصة تخترق ظهري، جهة اليمين عند عظم الكتف، بعدها أشعر بالطلقة الثانية جهة اليسار، إلى الأسفل قليلاً. لا أنزف، ليس هناك دم، فقط ينثقب قميصي.
أفكر قبل أن استيقظ: كم كنت أخاف من الطلقة لأنني كنت أظن أنها تؤلم أكثر.
لم أستطع إيجاد الإجابة في تفسير ابن سيرين... طيب، هل يستطيع فرويد أن يفسر لي، لم رأيت نفسي في الكابوس رقم 3547، أهبط في حفرة تشبه تلك التي نزلت فيها "أليس" لتبدأ رحلتها في عالم العجائب، لكن حفرتي كانت تؤدي إلى عالم آخر، إلى جهنم ذاتها؟ صديقي خليل سبقني بالهبوط، اختلست نظرة إليه وهو يهبط، فرأيت إبليس، بقرنيه وذيله المدبّب، ينتظره في الأسفل، حفرة تشبه حفر الصرف الصحي، ضيقة جداً وأنا شخص يعاني رهاب الأماكن المغلقة والضيقة ولا أعرف السبب.
"غريب كيف تأتي حرب لتغطي أخبارها على حرب أخرى، ومجزرة تعتّم على مجزرة"
كنت أرتدي فستاناً أو تنورة، أطبقت بيديّ عليه كي لا يرتفع للأعلى أثناء هبوطي في حفرة جهنم، وقفزت، وانتهى الكابوس باستيقاظي.
كم أتمنّى أحياناً لو أستطيع أن "أنقّي" كوابيسي من الليل كما "أنقّي" البحص الصغير من البرغل، ففي كابوس السنة الثالثة عشرة للحرب، الخارق بسوريا-ليّته رأيت نفسي أقطّع اللحم. كادر ضيق يلتقطني من الخلف وأنا أمسك السكين. لقطة قريبة على يديّ أشرّح اللحم لشرائح. أنتهي. أبتعد قليلاً، فيتبين أنني أقطّع لحم غزال بني اللون. فجأة يلتفت ناحيتي فاستغرب أنه حيّ، ينظر إلي بعينيه العسليتين الكبيرتين ذات الرموش الطويلة، ولا يشعر بأنني أقطّع لحمه، وكأنه تحت تخدير. هادئ جداً، لم يغيّر من رقدته، فقط ينظر إلي.
استيقظت، لكن، ما رأيته كان مرعباً، والغريب أن هذا الكابوس تحديداً كان مقطّعاً إلى مشاهد سينمائية، وكأن هناك كاميرة خفية تصورني، فأرى نفسي في الحلم، وأرى نفسي أيضاً على مونيتور الكاميرا.
عفو، لا أعرف لم بدأت التحدّث عن كوابيس ثلاث عشرة سنة مضت، هذه ليست الحكاية التي أود أن أرويها الآن، فهي ذاتية جداً، ثم أن كوابيسي لا تعني أحداً.
لأبدأ مجدداً...
في اليوم التالي لسقوط النظام، انتظم حاجز مشترك على مدخل المنطقة التي أسكن فيها، وكان غريباً جداً ما أراه وكأنني ما أزال أحلم، انقلبت جميع كوابيسي الليلية إلى واقع فعلي في الصباح.
حين سؤالي عن الوضع الخدمي الجديد للمدينة، خاصة أننا عشنا لسنوات وفق المنعكس الشرطي لكلب "بافلوف"، ننتظر أوقات التقنين ورسائل البنزين والغاز والمازوت على البطاقة الذكية، صوّر لي المجاهد على الحاجز المشترك الحياة القادمة كجنة في عين أي سوري: سيتم توزيع 200 لتر من المازوت، وغاز بدون بطاقة، وبنزين من دون رسالة وبحر من الكهرباء، وكل ما علينا فعله الانتظار بضعة أيام ليستقر الوضع بعد التحرير.
لا أثق بتطمينات الإسلاميين مهما اختلفت لغة الخطاب، واستغرب من ذاكرة الأسماك التي يدّعيها البعض لمجرّد تغيير الاسم من أبو محمد الجولاني، ربيب القاعدة، إلى أحمد الشرع، الرجل البراغماتي الذي يوزّع الضمانات من جيبه الخاص على السوريين.
اليوم رأيت أحدهم يتهم جارنا صاحب البقالية بالتعامل بـ "الربا"، فقط لأنه طلب منه تسديد ديونه المترتبة، فإن كنا في السابق معتادين على صِيَغ التقارير الكيدية من قبل المخبرين، أتت الآن مرحلة أخرى لنختبر صيغاً مشابهة، لكن باستخدام تعابير مغايرة: الربا، الحشمة، الزنا، الخمر، الموسيقا، الفجور، التبرّج...
أجول في المدينة للاستطلاع بعد يوم التخريب الأول، وأحاول أن أبقي فمي مغلقاً كي لا أفسد فرحة المحتفلين بسقوط النظام على يد الجولاني: "اتركونا نفرح اليوم ولا تفسدوا علينا هذه الفرحة".
وبينما يفرح من يفرح، ويلتقط صوراً أيكزوتيكية مع المقاتلين وصوراً للتماثيل التي تم إسقاطها مع تعليقات هزلية، ينفّذ المجاهدون الأحرار أجندتهم دون إبطاء، وتطفو التجاوزات تدريجياً، إن كان من خلال فرض رئيس حكومة الإنقاذ، ذات الطيف الواحد، على رئاسة الحكومة المؤقتة، ليبدأ وزير عدلها الجديد العمل من فوره بأحكام الشريعة في حلب، ثم تظهر فيديوهات لانتهاكات للحريات الشخصية تبثّها سوريات تعرّضن لمسائلة – دون محاسبة- عن طائفتهن وعن سبب عدم وضعهن الحجاب، أو لوجودهن في السيارة مع شخص غريب وليس بمُحرّم.
اليوم رأيت أحدهم يتهم جارنا صاحب البقالية بالتعامل بـ "الربا"، فقط لأنه طلب منه تسديد ديونه المترتبة، فإن كنا في السابق معتادين على صِيَغ التقارير الكيدية من قبل المخبرين، أتت الآن مرحلة أخرى لنختبر صيغاً مشابهة، لكن باستخدام تعابير مغايرة لسنا معتادين عليها كـ: الربا، الحشمة، الزنا، الخمر، الموسيقا، الفجور، التبرّج...
ليلة البارحة، وبينما إسرائيل تقصفنا من شمالنا لجنوبنا، شاهدت كابوساً آخر، لا أتذكر تفاصيله، لكنني قبل أن أستيقظ بقليل شاهدت "تيتر النهاية" الخاص بالكابوس، تماماً كما في الأفلام القديمة بالأبيض والأسود، وبنفس فونط الخط، مكتوب فيه: "تحيا أفغانستان حرة أبية".
فرحتي بسقوط النظام منقوصة، أريد صوراً وفيديوهات لفتح سجون إدلب التي انتفض سكانها لعدة أشهر ضد سلطة وتغوّل الجولاني واستفراده بالحكم، أريد بعد كل هذه السنوات أن يتوقف الكابوس، أي قبول لأي تجاوز بحجة أن الوقت مازال مبكراً لنحكم على النوايا هو قبول لتجاوزات أكبر في المستقبل، علينا أن نتحرّك جميعاً، الداخل والخارج، نحن من يمتلك رؤية لسوريا مستقلة ديمقراطية وتعدّدية، كي لا نستبدل طاغية بطاغوت.
سوريا الحرّة التي نريدها لا يليق بها علم أسود، وما أسهل استبدال الأعلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...