أشغلت تصريحات موشي يعالون الأخيرة الرأي العام الإسرائيليّ، فأثارت غضب المؤسسة الإعلامية والأوساط الحاكمة وكذلك المعارضة. ما أورده وزير الأمن الأسبق وقائد الأركان أثناء الاجتياح في الضفة الغربية عام 2002 والمسؤول عن مجزرة مخيم جنين، شكّل صدمة لمتلقيه. إذ قال: "إن الطريق الذي ننجرّ إليه هو الاحتلال والضم والتطهير العرقي في قطاع غزة". مضيفاً "لا يوجد بيت لاهيا ولا يوجد بيت حانون. هم (ويقصد الجيش) يعملون حالياً في جباليا ويقومون بتطهير المنطقة من العرب"، موجهاً كل الاتهامات إلى نتنياهو، باعتباره يقود الإسرائيليين والدولة إلى "ما لا يقل عن الدمار". ثم أكد يعالون: "الحكومة تعمل على ترحيل الفلسطينيين في غزة وبناء مستوطنات يهودية".
يُحسب موشي يعالون على اليمين العقائدي، فقد كان قائداً للأركان في حكومة شارون. وفيما بعد عضو كنيست عن الليكود ووزيراً للأمن بين الأعوام 2013 و2016 في حكومة نتنياهو. وهو، بالتالي، لم يأت من صفوف "اليسار الصهيوني" وفقاً للمعايير الإسرائيلية السائدة. كما أن خلفيته العسكرية تجعل إمكانية وصمه بـ"اليسار" أو "خدمة أعداء اسرائيل" غير نافذة في الرأي العام الإسرائيلي. يعالون لا يقوم بذلك من باب الغيرة على الفلسطينيين، بل على إسرائيل.
توقيت تصريحاته وإحراج المعارضة
وتكمن أهمية اقوال الجنرال الكبير في عدة مستويات، أولها أنها تأتي في سياق باتت فيه إسرائيل وقادتها في قفص المساءلة أمام محكمة الجنايات الدولية التي أصدرت أوامر اعتقال ضد نتنياهو وغالانت لارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بينما لا تزال تنظر محكمة العدل الدولية في دعوى جنوب أفريقيا وغيرها، لاعتبار أن إسرائيل ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
وثانيها، أنها تأتي بالتزامن وبالتناقض مع الحملة المضادة التي تقوم بها إسرائيل وأدارة بايدن نحو إلغاء قرار الجنائية الدولية واعتبار هذه المحكمة موبوءة باللا سامية ومعادية لإسرائيل، وحتى داعمة للإرهاب.
وثالثها، أن التصريحات تشكل مصدر إحراج لإدارة بايدن ووزير خارجيته بلينكن، اللذين يكثران من الحديث عن المساعدات الإنسانية، ويوفران لإسرائيل المهلة بعد الأخرى، ويرفضان وقف حرب الإبادة.
بموازاة ذلك، تشكل تصريحاته إحراجاً أكبر للمعارضة الاسرائيلية وتعرية لمواقفها العدوانية، بعد أن أدانت قرار الجنائية الدولية بما لا يقل عن نتنياهو نفسه، ودعمت استمرار الحرب على غزة ولم تدعُ يوماً لوقفها، بل اقتصر مدى تحركها حول صفقة التبادل لا أكثر.
كلام يعالون المباشر يضع نقاش وقف الحرب (وليس الصفقة والهدنة) ورفض التطهير العرقي ورفض الاستيطان في صلب جدول الأعمال الإسرائيلي، أو حتى جدول أعمال المعارضة.
شكل تصريحاته إحراجاً أكبر للمعارضة الاسرائيلية وتعرية لمواقفها العدوانية، بعد أن أدانت قرار الجنائية الدولية بما لا يقل عن نتنياهو نفسه، ودعمت استمرار الحرب على غزة ولم تدعُ يوماً لوقفها، بل اقتصر مدى تحركها حول صفقة التبادل لا أكثر
ولم يقبل وزير الأمن الأسبق المقولة السائدة القائلة بأن إسرائيل تقوم بحرب دفاعية، وبأنها لا تمارس جرائم الابادة والتطهير العرقي والاستيطان، ولا الادعاء الذي تتبناه حتى المعارضة بأن مسألة الاستيطان هي "غير واقعية" كما يقول نتنياهو. بل اعتبر أن الحكومة، وبشكل منهجي وواضح، لديها مشروع لاستيطان القطاع. والاستيطان المتجدد ليس استثناءً، بل قضية محورية في الحكومة.
هل من أحد في إسرائيل يريد وقف الحرب؟
اللافت أن الرأي العام الإسرائيلي لم يتقبل تصريحات يعالون، ويأتي الغضب منها منبّهاً للإسرائيليين إلى ما هم عليه فعلياً. ويضع في أيدي العالم محاججة تنسف الرواية الإسرائيلية القائمة على بدعة "الحرب الوجودية" التي بادر إليها نتنياهو وغالانت وغانتس، مباشرة بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وباستثناء تقارير محدودة، لكن هامة، قامت بها صحيفة "هارتس"، وتصريحات محررها المسؤول عاموس شوكين التي تلتقي مع تصريحات يعالون، فإن هناك عدم اكتراث عاماً بما يجري في غزة من أعمال إبادة وتطهير عرقي. حتى أن عائلات الأسرى الإسرائيليين لم تطرح في حملتها وقفاً للحرب، وانما انحصر دورها في مسألة الأسرى واعادتهم أحياء عبر صفقة تبادل.
تضع استنتاجات يعالون وتصريحاته المعارضة الإسرائيلية في قفص الاتهام. بوصفها داعمة للحرب ولا تطرح أي مخرج سياسي، حتى حزب "الديمقراطيون"، الذي يدمج بين حزبي العمل و"ميرتس" لا يتحدث عن وقف الحرب.
لكن موقف يعالون يتقاطع مع بروفيسور عومري باهم، المحاضر في جامعة نيو سكول في نيويورك، والذي يتهم بدوره المعارضة بالمسؤولية عن عدم خلق البديل وعن إلغائها الذاتي السياسي والأخلاقي لدورها. ويوجه كلامه إلى ما يسمى "اليسار" الذي يدعم الحروب؛ صاحب فكرة الاستيطان في الضفة الغربية، الذي لا يحمل أي رسالة سلام أو مصالحة مع الفلسطينيين.
حتى أن عائلات الأسرى الإسرائيليين لم تطرح في حملتها وقفاً للحرب، وانما انحصر دورها في مسألة الأسرى واعادتهم أحياء عبر صفقة تبادل
يؤكد البروفيسور عومري، في لقاء مع هآرتس: "أولئك الذين ناضلوا ضد الانقلاب القضائي يتحدثون اليوم عن وقف إطلاق النار من أجل عودة الرهائن. لكننا لم نشهد صرخة عامة من أجل الإنهاء الفوري لسياسة التجويع والقصف والطرد الجماعي لسكان غزة. لم نر كبار القادة الذين دعوا ذات مرة إلى حل الدولتين، ولا بين أولئك الذين كانوا يُعتبرون ذات يوم ضمير اليسار".
وينضم رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت إلى هذه الأصوات، ربما تمهيداً لاحتمال عودته إلى الحياة السياسية. واللافت ان القناة 12 الإسرائيلية توقفت في لقاء معه عند استخدامه مفردة "السلام"، إذ قالت المذيعة أن "لا مكان لكلمة سلام بعد اليوم". وهو ما يتّسق ولو جزئياً، مع تراجع نسبة المؤيدين لحل الدولتين بين الشباب في جيل الجندية إلى أقل من 8%.
عقب وقف إطلاق النار في لبنان بدأت تطرح أولوية إبرام صفقة مع حماس من جديد، وتجددت الأصوات الداعية لإيقاف الحرب برمتها، على اعتبار أن الحل العسكري لن يوفر مستقبلاً أفضل. إلا أن هذه الأصوات لا تزال ضعيفة ومحدودة. في حين أن الجديد هو أنها بدأت تُسمع على شكل تصريحات ومقالات. كما أن معظمها لا يأتي من المعارضة الحزبية المنظمة، بل من أوساط يمينية سابقة مثل يعالون، أو من اوساط الحراك الشعبي القائم منذ سنتين، بدءاً بحراك مواجهة التغيرات القضائية في إسرائيل، مروراً بالحراك الذي أفرزته الحرب من أجل صفقة تبادل.
انتظار عربي لانهيار إسرائيل
جاءت تصريحات يعالون مفاجأة للرأي العام العربي، أيضاً. وللإعلام العربي، الذي يتعامل بفائض من الاهتمام مع أي تصريح نقدي إسرائيلي داخلي. وأحياناً، يبنى هذا الإعلام أحلاماً حول خطاب "انهيار اسرائيل".
ويسري هذا تجاه "أنبياء الغضب"؛ على شاكلة الجنرال المتقاعد يتسحاق بريك، الذي يروج للحروب البرية التقليدية ويقلل من شأن "الجيش الصغير والذكي"؛ وهي عقيدة تبناها أشخاص مثل إيهود براك وأفيف كوخافي، التي تؤمن بـ"جيش صغير وذكي وساحق".
يرى بريك أن الاعتماد على سلاح الطيران والتكنولوجيا المتقدمة لحسم الحروب يرتد على إسرائيل ويشكل "خطراً وجودياً" عليها. التقط الإعلام العربي تعبير "خطر وجودي" وتوقف عنده لدرجة أن الذين اهتموا بتصريحات بريك كانوا العرب والفضائيات العربية التي كرست مساحات كبيرة له، وليس الإسرائيليون الذين يكاد يكون إصغاؤهم له معدوماً. فيتبدّى هذا التكريس والاهتمام على أنه انتظار للنصر العربي على انهيار إسرائيل داخلياً، بمجرد حدوث احتدام بين المنظومات السياسية والأمنية والقضائية الإسرائيلية، في حين تشهد المنطقة انهيار أنظمة عربية من الداخل، قبل أن يتم إسقاطها من الخارج؛ كما حدث مع النظام السوري.
فائض الاهتمام العربي الآخر ينصب في تيار "المؤرخين الجدد" و"مؤرخو ما بعد الصهيونية"؛ الذين يتنبأون بسقوط الصهيونية. أحد أبرز الأمثلة في السياق، كان الباحث بيني موريس الذي "اكتشف" النكبة في أواخر الثمانينيات، فكان أول من تحدث بشكل أكاديمي عن التطهير العرقي والتهجير عام 1948. في حين أن أحد مقومات نظرية ما بعد الصهيونية هو التقدير بأن المشروع الصهيوني في فلسطين بات راسخاً لدرجة تسمح لهم بالبوح بما اقترفه المشروع بحق الفلسطينيين ونكبتهم.
من المبكر الحديث عن صحوة في الرأي العام الإسرائيلي، تعترف بمحدودية قدرة القوة العسكرية وحرب الإبادة في تحقيق أي حل. وقد تكون تصريحات يعالون متأخرة باعتبار أن أقصى اليمين بقيادة نتنياهو يسيطر حتى الآن على الرواية الإسرائيلية التي تلائم توجهاته
في المقابل، لا يمكن اعتبار أن يعالون ينتمي إلى أحد التيارات المذكورة، بل هو بعيد كل البعد عنها ومنافياً لها. إلا أنه توصل إلى استنتاجاته وفقاً لمنطلقه الصهيوني والأمني الاستراتيجي. كما أنه بعيد عن منطق التنبؤ، بل وصف الحال كما هو، ووضع مرآة أمام المجتمع الإسرائيلي بمختلف تياراته. هل سيكترث الإسرائيليون لصورتهم في المرآة؟ قد يكترث البعض لكن يبدو إلى الآن أن الغالبية الساحقة سوف تكسر المرآة لتغييب الصورة في مساحات الإنكار.
من المبكر الحديث عن صحوة في الرأي العام الإسرائيلي، تعترف بمحدودية قدرة القوة العسكرية وحرب الإبادة في تحقيق أي حل. وقد تكون تصريحات يعالون متأخرة باعتبار أن أقصى اليمين بقيادة نتنياهو يسيطر حتى الآن على الرواية الإسرائيلية التي تلائم توجهاته.
ثم إن تصريحات يعالون وغيرها من الأصوات الناقدة لمواصلة الحرب، قد تدفع أطرافاً في المعارضة إلى إعادة النظر في طروحاتها العدوانية الداعمة للحرب والمنكرة لجرائم التطهير العرقي. لكنها تنال من غضب المعارضة الرسمية ما تناله من غضب الائتلاف الحاكم.
أما فلسطينياً، فثمة أهمية في الاستفادة من تصريحات يعالون في مواجهة الرواية الإسرائيلية السائدة التي تضع أي موقف فلسطيني وأي موقف نصير له، وأية مساءلة دولية في خانة اللاسامية التي تجيّرها حكومات إسرائيل من أجل تبرير حرب الإبادة وجرائم الاحتلال والعنصرية والتطهير العرقي في كل الجغرافية الفلسطينية.
ومع عودة زخم المظاهرات الشعبية في مدن العالم والدعوات لوقف حرب الابادة والتطهير العرقي على غزة، تبدو كل محاولات حكومة نتنياهو في صرف الأنظار عن جرائمها في قطاع غزة والمناطق الأخرى المحتلة، ترتد عليها. ولا شك أنها فرصة فلسطينية وعربية سانحة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه