شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كيف أُدِير الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة؟

كيف أُدِير الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 10 مايو 202411:54 ص

صدر مؤخراً تقرير صندوق النقد الدولي الخاص بالمراجعتين الأولى والثانية لوضع مصر، وفيه كشف الصندوق عن وجود فجوة تمويلية بلغت أكثر من ثمانية وعشرين مليار دولار.

لفت ذلك الرقم أنظار الكثيرين، وتحدثوا عنه، لكن ما يهمنا هنا ليس الرقم برغم أهميته، ما يهمنا هنا هي القراءة المتأنية لتقرير المراجعات، الذي يكشف لأول مرة وبشكل صريح ما جرى في كواليس المفاوضات بين الصندوق والحكومة المصرية، ويعطي صورةً واضحةً إلى حد كبير عن كيفية إدِارة الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة.

معنى مراجعات صندوق النقد الدولي

صدر التقرير الأخير الخاص بمصر باسم المراجعتين الأولى والثانية، فما المقصود بكلمة "مراجعة" هنا؟

باختصار شديد، حين يتفق صندوق النقد الدولي مع دولة ما على تقديم قرض لها، فإنه يعطيها دفعةً من هذا القرض بعد أن يتفق معها على حزمة من الخطوات في مسار الإصلاح الاقتصادي عليها أن تلتزم بها، وبعد مدة "يراجع" الصندوق الموقف في تلك الدولة ليتأكد أنها نفذت ما اتفق معها عليه. فإن وجدها وقد التزمت ببنود الاتفاق الخاص بالإصلاح الاقتصادي يعطيها الدفعة الثانية، وإن لم تلتزم يوقف الدفعات. يحدث هذا قبل كل دفعة جديدة من القرض.

ما الذي كشفه صندوق النقد الدولي عن كواليس علاقته بمصر في تقريره الأخير؟ ولماذا ماطلت الحكومة المصرية في تنفيذ خطة التعويم المتفق عليها؟

ما المقصود بـ"الفجوة التمويلية" التي تحدث التقرير عنها؟

في تقريره الأخير، أعلن صندوق النقد الدولي عن وجود فجوة تمويلية بلغت ثمانيةً وعشرين مليار دولار مع نهاية القرض في أيلول/ سبتمبر 2026. والمقصود بـ"الفجوة التمويلية" هنا هو الفرق بين الأموال (بالعملات الأجنبية) التي تحتاجها مصر لتلبّي التزاماتها، والأموال الموجودة لديها بالفعل.

بتعبير أبسط، سوف يكون لدى مصر في نهاية فترة القرض عجز يتجاوز ثمانيةً وعشرين ملياراً وخمسمئة مليون دولار، وهو رقم ضخم بطبيعة الحال لا يمكن تغطيته (وفقاً لتصورات صندوق النقد) إلا عبر الالتزام بالتوصيات والشروط الموضوعة، فضلاً عن إجراء تعديلات حقيقية وجذرية في هيكل الاقتصاد المصري، بما يشجع المستثمرين الأجانب على ضخ استثماراتهم في مشاريع حقيقية.

أزمة خانقة وحاجة ملحة إلى القرض

في كانون الأول/ ديسمبر 2022، كانت الأوضاع في مصر شديدة الخطورة، حيث عانت البلاد من ارتفاع جنوني في معدلات التضخم، لا سيما في أسعار السلع الأساسية. صاحب ذلك نقص حاد في العملات الأجنبية، فضلاً عن تراكم الديون وتكلفة فوائدها، وهو ما كان يهدد استقرار الأوضاع السياسية والاجتماعية فيها. وهنا دخلت القاهرة في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي في كانون الأول/ ديسمبر 2022، بغية الحصول على قرض قيمته 3 مليارات دولار، قبل زيادته في آذار/ مارس 2023، ليصل إلى 8 مليارات دولار.

أهمية ذلك القرض للحكومة المصرية لم تكن فقط في تلك الأموال التي كانت في أمسّ الحاجة إليها، وإنما أيضاً في أنه كان بمثابة شهادة ضمان ستفتح لمصر أبواباً أخرى لتدفقات دولارية جديدة، سواء في شكل قروض، أو مساعدات من مؤسسات دولية، بجانب أنه سوف يعطي ثقةً "نسبيةً" أكبر للمستثمرين الأجانب والعرب لوضع أموالهم في مصر.

لماذا توقّف القرض؟

بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على القرض في كانون الأول/ ديسمبر 2022، كان المتوقع أن تحصل مصر على الدفعات المتتالية من الأموال المتفق عليها، لكن مسار القرض تعطّل وظهرت عراقيل عدة حالت دون حصول مصر عليهات، وباتت القاهرة في مأزق بدا أن لا مخرج عاجلاً منه.

في تقريره الأخير، الذي اتّسم بلغة يمكن وصفها بالحادّة على غير المألوف، كشف صندوق النقد عن مسار رحلة تفاوضه مع مصر، ولماذا توقف عن دفع الدفعات المتفق عليها، محمّلاً الحكومة المصرية مسؤولية تأخر تلقيها تلك الدفعات من القرض، لتلكّئها في تنفيذ الخطوات الإصلاحية للاقتصاد المتفق عليها. وكشف التقرير عن تلك الخطوات التي لم تنفَّذ بوضوح شديد، وأبرزها:

1- تحرير سعر صرف الجنيه

اتفق صندوق النقد الدولي مع مصر في كانون الأول/ ديسمبر 2022، على تحرير سعر صرف الجنيه (التعويم)، وأن يترك لقانون العرض والطلب تحديد قيمته الفعلية. وبالفعل قرر البنك المركزي المصري اتخاذ أولى خطوات التعويم الجزئي أو المدار كما يسميه البعض في كانون الثاني/ يناير 2023. لكن مصر لم تلتزم بما تعهدت به، وأوقفت عملية التعويم لأكثر من عام ونصف قبل أن تعود مجدداً للسير في مسار التعويم، في آذار/ مارس الماضي.

هذا التلكؤ في تنفيذ الاتفاق نجمت عنه، وفقاً للتقرير، أزمة في تقييم الأصول المصرية قبل بيعها (المستثمر لا يستطيع أن يقيّم الأصل بالسعر الرسمي ولا بسعر السوق السوداء)، فتقلّصت حصيلة مصر من الدولارات القادمة من ذلك البند، واضطر البنك المركزي إلى فرض مزيد من القيود على عمليات الاستيراد، فارتفعت معدلات التضخم (أسعار السلع ارتفعت) وهذا كله عكس المتفق عليه مع الصندوق.

2- تطبيق سياسة التشديد النقدي

الأمر الثاني الذي أشار إليه التقرير، هو أن مصر لم تلتزم بتطبيق سياسة "التشديد النقدي" المتفق عليها بدرجة كافية. والمقصود هنا بسياسة التشديد النقدي تطبيق خطوات عدة لمحاصرة التضخم، أبرزها طرح سندات حكومية، وتقليل طباعة النقود، ورفع الفائدة في البنوك، والتوسع في بيع الأصول الحكومية باعتبار أن الحكومة المصرية من أكثر الحكومات التي تمتلك أصولاً يجب نقلها إلى القطاع الخاص.

لكن ذلك لم يحدث، وتحديداً نقطة رفع فائدة البنوك بالدرجة العادلة التي تتماشى مع معدل ارتفاع الأسعار. حينها، رأى المواطن أن أمواله في البنوك "بتخسر" فسحبها وحولها إلى الذهب والعملات الأجنبية، وهو ما قاد إلى رفع معدلات التضخم (الأسعار ارتفعت أكثر) وهو ما عرقل بشكل مباشر النمو.

3- تقليل وتيرة المشاريع القومية

البند الثالث الذي كشفه الصندوق في تقريره، يتعلق بالاتفاق مع الدولة المصرية على أن تقلل من وتيرة التوسع في المشاريع القومية العملاقة، خصوصاً التي لن تدرّ عائداً في المديين القريب والمتوسط. لكن الذي حدث عكس ذلك تماماً، حيث توسعت الحكومة أكثر في تنفيذ المشاريع العملاقة التي تتجاوز قدرات الاقتصاد المصري، وهو ما فاقم بشكل واضح من حدة الأزمة الاقتصادية وحمّل الموازنة العامة أعباء ديون جديدة لا طائل منها اليوم.

4- تطبيق معايير الشفافية

حدد الصندوق في أثناء توقيع اتفاقه مع مصر بعض المعايير التي تحتاج الحكومة إلى تنفيذها للسير قدماً في رفع معدل الشفافية، ومن أبرز تلك النقاط نشر تقرير الجهاز المركزي في موعده بدقة، وهو ما لم يحدث، كما طالب الصندوق بدمج الاستثمارات الموجودة خارج الموازنة العامة (تحديداً أموال الصناديق السيادية ومشاريعها) في الموازنة العامة، حتى يمكن مراقبتها والتعرف على أوجه الصرف فيها. كما طالب الصندوق بنشر تفاصيل أي مشتريات حكومية تزيد قيمتها عن 20 مليون جنيه، وأن تتوقف تماماً عملية الشراء بالأمر المباشر، وأن تتم جميعها عبر مناقصات معلنة لضمان الشفافية.

"طلبات صندوق النقد الدولي حتتنفذ حتتنفذ، يعني الشارع المصري هيجوع"، لكن لا خيار لمصر غير الالتزام بتوصيات صندوق النقد الدولي

5- فتح المجال أمام القطاع الخاص

أشار التقرير بوضوح إلى أن صندوق النقد الدولي اتفق مع الحكومة المصرية على ضرورة تقليل دور مؤسسات الدولة والجيش في الاقتصاد، وفتح مجال أوسع أمام القطاع الخاص للعمل في السوق بحرّية. لكن ذلك لم يحدث. دور الجيش والمؤسسات الرسمية ازداد مؤخراً، مما قاد على نحو مباشر إلى عزوف المستثمرين عن القدوم إلى مصر لإدراكهم أن المنافسة مع مؤسسات الدولة القوية لن تكون عادلةً، وغياب الاستثمار الأجنبي فضلاً عن تقييد حركة السوق أمام القطاع الخاص نجم عنهما تدهور في قيمة الجنيه وتقليل ملحوظ في عوائد الضرائب، المصدر الأساسي لتمويل الموازنة العامة، فلجأت الحكومة إلى تعويض الفرق برفع الضرائب على الخدمات الأساسية للمواطنين، وهو ما نجمت عنه زيادة في معدلات التضخم.

6- مراجعات سياسات وزارة المالية

في ما يختص بممارسات وزارة المالية، اتفق صندوق النقد الدولي في أثناء المفاوضات مع مصر، على التوقف عن التوسع في إقراض الجهات الحكومية، التي بلغت مدى يشكل خطراً على عصب الاقتصاد حيث تجاوزت تلك الديون 765 مليار جنيه، ويمكن عدّها في عداد الديون المعدومة. كما طالب الصندوق بوضوح من وزارة المالية التوقف فوراً عن عمليات السحب على المكشوف من البنك المركزي، والتي تقود لا محالة إلى التوسع في طباعة النقود، وهو ما ينجم عنه ارتفاع معدلات التضخم (الفلوس المطبوعة تكون أكثر من البضاعة في السوق والأسعار ترتفع).

كانت تلك أبرز النقاط التي أماط التقرير اللثام عنها شارحاً لماذا تأخر الصندوق في تنفيذ اتفاقه مع مصر في ما يخص دفعات القرض المتفق عليه.

تقرير صندوق النقد الدولي يقول بوضوح إننا حين راجعنا ما يحدث في مصر، وتبين لنا أنكم لم تنفّذوا اتفاقكم معنا، لذلك لم ندفع لكم نحن أيضاً الأموال التي كان من المفترض أن تصلكم.

لكن حين جددت الحكومة تعهدها للصندوق في 6 آذار/ مارس الماضي، بأن تنفّذ بنود الاتفاق، وافق الصندوق على إعطاء مصر دفعةً جديدةً من القرض، شريطة أن تلتزم هذه المرة بتعهداتها بتطبيق "روشتة" الإصلاح الاقتصادي، "وإذا لم تلتزموا فلن نرسل لكم دفعات جديدةً".

تقرير صندوق النقد الدولي الذي تجاوز الـ100 صفحة، يرسم لنا صورةً تقريبيةً عما سيحدث غالباً في الفترة القادمة في مصر.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard