لا أصدّق ما تراه عيناي ولا ما تسمعه أذناي! يكرّر المذيع الخبر عدة مرات، ومع ذلك أعيد الفيديو نفسه مجدداً: "ننوه إلى هذا الخبر العاجل هروب بشار الأسد من دمشق إلى وجهة غير معلومة. أعيد وأكرر.. هروب بشار الأسد".
أقفز من السرير، وأصرخ: "سوريا حرة! يا رب". أحتاج أن أعانق شخصاً ما، لكن لا أحد حولي. أبكي، أبكي بحرقة وتختلط الدموع بالضحكات. صعبة هي فكرة أن تحتفل بالحرية في غربتك وحيداً، لكنني أعلم أنها ستكون آخر مرة، لأنني موقنة أننا اليوم، رغم البعد والشتات، على قلبٍ سوريٍ واحد في كل أصقاع الأرض، وأننا سنعود معا قريباً.
ألوم نفسي: "يا الله! كيف غفوت في هذه اللحظة الحاسمة؟"، لكنني في شقتي الصغيرة في هولندا، لم أهدأ منذ يومين، أقطعها جيئة وذهاباً، أدور حول نفسي، وأكلم الأصدقاء والأقارب عن آخر المستجدات عبر الهاتف لساعات طويلة. نسيت أن آكل طوال اليوم، ولولا الصداع الشديد لما تناولت هذه التفاحة. بضع رشفات من الماء كانت استراحتي من نوبات البكاء الطويلة.
أتابع الأخبار من كل مصدر ممكن، أردّد أغاني الثورة وأنا أعدّ كوب شاي بالميرمية نفسه الذي كانت تعده جدتي لنا. أبكي أحياناً، وأدعو أحياناً أخرى: "يا رب، اجعل في هذا خير لسوريّتي، يا رب يكون مستقبل سوريا كما نريده لها: سوريا عادلة، حرة آمنة. لا أضطر فيها بعد اليوم للتوقيع على مقالاتي بأسماء مستعارة كما اعتدت أن أفعل".
صعبة هي فكرة أن تحتفل بالحرية في غربتك وحيداً، لكنني أعلم أنها ستكون آخر مرة، لأنني موقنة أننا اليوم، رغم البعد والشتات، على قلبٍ سوريٍ واحد في كل أصقاع الأرض، وأننا سنعود معا قريباً
أفكار وأسئلة كثيرة واستباقية تعصف بي، عن الحكومة الانتقالية، عن ضرورة حفظ الممتلكات الخاصة والعامة، عن التنبه من ارتكاب أخطاء كان يقوم بها النظام، عن ضرورة تفكيك الهيئة، عن التعلم من دورس الدول الأخرى التي حاولت نيل حريتها وانتهى بها المطاف بأيدي عصابات أكثر اجراماً، لكن من يجيبني عليها؟
والأهم عن كيفية العودة ووثيقة سفري الفلسطينية السورية لم تتجدّد منذ سنوات. فأنا حكماً، لن أستخدم الجواز الهولندي لأرجع إلى سوريا.
بعد ساعات قليلة، أشرع بالبحث عن تجمّعات السوريين هنا عن أي تظاهرة احتفالية. أريد أن أعانق كل سوري ونهنئ بعضنا البعض أخيراً.
روح الثورة ومستقبلها
عندما بدأت الأحداث تتسارع منذ أسبوع، تابعتُها في البداية بتوجّس، كحال كثيرين. ولكن كل شيء تغير في اليومين الماضيين. كل شيء اعتقدت أنه شارف على الموت والنسيان يستيقظ فجأة، وكأنني أستعيد كل فكرة وشعور راودني منذ ما يزيد على عقد من الزمن. بعد ثلاثة عشر عاماً، عادت روح الثورة تشتعل، وتمر كل الأحداث التي عشتها في هذه السنوات أمام عيني بكل تفاصيلها وكأنني أعيشها مجدداً: من التظاهرات الأولى المليئة بالخوف والتحدي، إلى الاعتقالات التي طالت زملائي في الجامعة، إلى الأصدقاء في درعا الذين انقطعت أخبارهم فجأة. تذكرتُ المجزرة المروعة في بلدتي، جثث جيراني وأهل حارتي المتكومة أمام المسجد العمري، بدايات نشاطي الإعلامي السرّي ضد النظام عندما كنت طالبة في كلية الإعلام، ثم القبض على زميلي المقرّب وهروبي من دمشق إلى مصر، ورحلة الموت عبر البحر وحيدة في عمر الثالثة والعشرين، وصولاً إلى اللجوء والغربة هنا في هولندا. يا الله كم أخذت الثورة من شهداء، ومن دماء، ومن معتقلين، ومن قهر، ومن ظلم، ومن أجمل سنوات عمرنا.
اليوم أخيراً أستطيع أن أتخيل نفسي هناك! أراني وقد عدت لأزور قبر والدي الذي وافته المنية بعيداً عني منذ ما يقارب الأربع سنوات، ألثم تراب الشام الذي احتضنه وأبكيه كما يجب، وأطلب غفرانه على غربة لم أخترها بعيداً عنه. ثم أمشي في حارات الشام كلها، في الطرقات التي أحفظها، أسلّم على جيراني بحرارة، وأخبرهم أنني عدت بعد كل هذه السنوات. أُعرّفهم بنفسي، فقد تغيّرت وكبرت وشاب شعري قبل أوانه. أراني أحتضن عائلتي، أتعرّف على الصغار الذين كبروا في غيابي حتى أصبحوا شباباً بملامح غريبة عليّ. أصلّي في المسجد الأموي وأقضي اليوم كله هناك أتأمل تفاصيله، وأحضر القدّاس مع زوجة أخي في واحدة من كنائس باب توما. أقطف من كل شارع أمرّ به ياسمينة دمشقية عبقة.
"يا شعب سوريا الحر، يا شعب سوريا الذي لا يموت، تحيا سوريا الحرّة، والمجد للشهداء. أيها السوريون المهجّرون، يا من عُذبتم وحُبستم وقُهرتم، يا من ذُللتم وسُرقتم... تنفسوا الحرية. شعب سوريا أهدانا الحرية. سوريا تحرّرت. سوريا لنا. تحيا سوريا العظيمة. المجرم هرب... بشار الأسد هرب"
وفجأة، تبدو هذه البلاد كغابة موحشة وباردة، فشامنا اليوم أحلى من كل البلدان. أرى ملامحها كما ستكون حين نعود إليها، مفعمة بالحياة، جاهزة لاحتضاننا نحن الذين تركناها يوماً قسراً. أعلم في أعماقي أنني سأكون من العائدين، أنا وكل هؤلاء الشباب الذين أمضوا أجمل سنوات حياتهم في الغربة، الوحدة والقهر، عاقدي العزم على إعمارها بكل الحب الذي نحمله لها، حاملين معنا كل ما اختبرناه وتعلمناه هنا، ووعد، لن نأخذ أي شيء صغير فيها كمسلمات بعد الآن.
رغم المشاعر المختلطة من الخوف على مستقبل هذا البلد، لكن يبقى الفرح والأمل يجتاحاني بشكل غريب. أشعر بالفخر بخطاب سوريا التي تجمع كل السوريين، سوريا عادلة، حرّة، ثورة ونصر صنعهما السوريون للسوريين.
تختنق الكلمات والمشاعر بداخلي. أريد لو أصرخ هنا في شوارع الغربة كما صرخ ذاك التونسي الحرّ في 2011 بعد أن فرّ زين العابدين بن علي من تونس، عقب الثورة الشعبية التي خاضها الناس ضده: "يا شعب سوريا الحر، يا شعب سوريا الذي لا يموت، تحيا سوريا الحرّة، والمجد للشهداء. أيها السوريون المهجّرون، يا من عُذبتم وحُبستم وقُهرتم، يا من ذُللتم وسُرقتم... تنفسوا الحرية. شعب سوريا أهدانا الحرية. سوريا تحرّرت. سوريا لنا. تحيا سوريا العظيمة. المجرم هرب... بشار الأسد هرب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف