شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"هنا سيُفتتح أول دكان لكُبّة ليؤورا"… أحلام الجنود على جدران غزة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقيقة

الأربعاء 11 ديسمبر 202412:21 م

بين الخطاب اليقينيّ الذي تأسست عليه الحرب على غزّة، وتبرير الإبادة بوصفها حرباً على الشرّ المطلق، مسافة قصيرةٌ جداً احتشد فيها معجم "العدالة" الاسرائيليّ الجديد: النفي والإنكار والحقّ والتصفية وتحقيق الأهداف و"معاً سننتصر".

جنودٌ أُرسلوا بديلاً من كلاب الأثر. مهامهم متنوعة، وأهمّها الذهاب إلى غزة لإنقاذ إسرائيل من الأنفاق والكشف عن الأسلحة والمتفجرات ومواد التصنيع. وفي الطريق إلى الهدف، صُنِعت ملاهٍ الإبادة، ملاهٍ أبكت العالم كلّه، وأضحكت الإسرائيليين وحدهم.

هكذا يرتسم مشهد الحرب الطويل، كما لو كنّا في لعبة فيديو تبرّر تعزيز المَوت بنشوة النّصر وبقاء الأقوى.

ما الذي تفعله أحلام الصبية الجنود ومشاريعهم الصغيرة على جدران منازلنا؟ وما الذي سيأخذونه معهم عندما يعودون لوظائفهم 

هكذا، تجذّر الأثر (ذلك الخطاب اليقينيّ) في العلامات (الأمكنة الغزيّة). وربّما تجذّرت العلامات في الأثر.كأن تُمسك مواطناً مدنياً وتعطيه سلاحاً، تُفخخ منزلاً وتلتحق به قبل أن يُستخدم كميناً، ثم تلتقط لكليهما صورة الوداع بابتسامة وعلامة نصر باليد، موجّهة للأسرة التي تنتظر رجوع الغائب والمفقود والجريح ولشعب إسرائيل المفجوع والممسوس بتوليفاته التضاديّة: معنا أو علينا.

لكنّ الأثر لا يعود قائماً، وليس أثراً بالمفهوم الدريدويّ القابل للتفكيك بوصفهِ اختلافاً. إنّه لا شيء إلا أثراً متكرراً في ذاته. لا يُنتج أي معنى خارج تبعيّته. بل يضيع في غمرة فعل الإبادة بوصفه فعلاً لا نهائياً يرتكبه المجنون، بوصفه أيضاً، صاحب جنون لا نهاية له: تنبش قبراً وتخلّف دماً وقنبلة على كل طاولة أمامك. تُحرق مكتبة وتُحول مسجداً إلى ملهى وجامعة إلى حاوية نفايات. ومن معبر السفر تشيد مطبخاً، وتصنع من كل منظر حياة طبيعية أثر إبادة جماعية باللهو واللعب والصبيانية.

إنّها ببساطة تسويقٌ لعفويّة الإعدام والإبادة بالعلل الميتافيزيقيّة التي تمنح معنى للفعل عبر توثيق اللهو واللعب.

جندي في غزة يقف إلى جانب جدار كُتب عليه: "القتال في غزة. الحرب على بيت المقدس"

القضاء على الحيوانات البشرية

بهذه العبارة أوهم نتنياهو الجنود الجدد ليتمكّن من تحويلهم من مواطنين اسرائيليين احتلاليين إلى حيوانات بشرية أُخرى:نصنع لهم الملاهي فيصنعون لنا إبادة جماعية جديدة. نستبدلهم مع آلياتنا في مواجهة المدنيين الغزيين، المدنيين الذين قد يتحولون من وسط مظهرهم البشري إلى مسخ حيواني في أي لحظة.

هكذا تتحوّل غزّة ليلاً إلى مدينة ملاهٍ لجنود سيعودون إلى منازلهم، منهم من يمارس عمله كمدير مدرسة، ومنهم كمزارع في كيبوتس، ومنهم كمفتش تربوي في وزارة التربية والتعليم، ومنهم كربّ أسرة، ومنهم كمحرر في جريدة او مجلّة، ومنهم كمدير شركة تكنولوجيا عالية، ومنهم كمسؤول عن رياض أطفال، ومنهم كالمرتزقة والمتطوعين لحراسة مدينة الملاهي، ومنهم من أنهى للتو دراسته الثانويّة، ومنهم الجامعيّون والمحاضرون، يسكنهم رهاب الميتافيزيقا المتجانس وشغف تكرار التاريخ- تلك الميتافيزيقا التوراتيّة الماورائيّة التي توحّد شعباً اختلفت أطيافه وتناثرت في تناقضات صارخة بين علمانيّة ولاهوتيّة وإلحاد- تكراراً عبثيّاً لا ضرورة فيه، يقود إلى حفلة من العنف وارتكاب الضّحك الهستيري أمام كاميرات الهواتف.

هكذا تتحوّل غزّة ليلاً إلى مدينة ملاهٍ لجنود سيعودون إلى منازلهم، منهم من يمارس عمله كمدير مدرسة، ومنهم كمزارع في كيبوتس، ومنهم كمفتش تربوي في وزارة التربية والتعليم، ومنهم كربّ أسرة

وعلى جدران غزّة، حفلة من الغرافيتي بالأسود والأحمر. الحفلة المرسومة بتفاصيل أبجديّة عبريّة لا تقول شيئاً سوى تكرار في ساعات الفراغ الطاحنة. أبجديّة مشوّشة ومحيّرة لجنود يتسلّون بالقتل والهدم. وكلمات تعيد نفسها لا طائل تحتها سوى أنّ فراغاً تُركَ في المكان لجنود لا رسالة يحملونها إلى العالم. لسانٌ تقطعه الأبجديّة بتجانس المعاني والجمل والوقت الموصول ليلاً نهاراً بدم الفلسطينيّ.

كتب جنديّ على جدار منزل في غزة: "يا أمي، ليس سراً أنكِ ربّيت مقاتلاً". وآخر ظل يردد على كل جدار: "الموت للعرب"، " شعب إسرائيل حيّ ". المعادلة مرسومة وتنفذ ويتم التلويح بها طوال الوقت، فهي الأرضية التي تنتج عنها كل الأفعال: أقتل فلسطينياً وابتهج.

بين الزّيف والخيبة مزيد من الإبادة

لا يوجد خارقون في غزة، لا يحملون سلاحاً ولا يأكلون لحما نيئاً ولا يشربون دماءً، بل يتصببونها. إنّها خيبة أمل جنود الاحتلال وهم يجدون حيواناً بشرياً جائعاً وعطشاً ومجروحاً ويخاف على عائلته: أناسٌ عاديون أكثر من اللازم.

ولا يزال خطاب الموت يستشري ويتكرر ويتصلّ بالخطاب الديني الذي يبدع في خلق حقدٍ تبدعه الخيبة تجاه المدنيين الغزيين باعتبارهم جزءاً من هذه الخيبة التي تعرضوا لها، لتبدأ الحفلة المجانيّة لقتل المارة من أمامهم وكل من يتواجد حول الثكنات التي يتواجدون بها؛ من الأطفال والنساء، والتلذذ باستخدام الطائرات الصغيرة وقنص المارة من باب التسلية.

إنّه لا يقتل بل يلعب، لا يُيتم أطفالاً بل يربح جولة ويصر على قضاء وقت أكثر في الملاهي التي صُنعت خصيصاً له. لنقل: شغف بتحقيق لعبة بابجي حقيقيّة- أو لعب جماعيّ في معركة تبيح القتل المجاني.

لا يمتلك هؤلاء سوى خيبة المواجهة، الخيبة التي سببت فراغاً وطنياً لديهم وولّدت جملة مهدّدة رنّانة لا تحمل سوى اللا معنى، فيكتب أحدهم على منزل في شمال غزة: "الموت أو احتلال غزة"، و"احذر يا سنوار". كأنهم يريدون مواجهة أخرى غير تلك التي وُضعوا في قلبها: العبث الذي يعمّق الخيبة ويشرعن حيوانيّة الإبادة.

الخيبة لا تتوقف هنا. إنّها تزداد كلّما تصدّعت الذاكرة وصدأت في أيام الحرب الطويلة المتكررة، لتعمّق الانتقام "الملليّ" في هيئة كلمات على الجدران: " نيكو العرب، ليست عبارة فظة"، "سنحرق العرب، سنقتلهم". تكرار آخر لخطاب الموت وعداوة الجسد الذين يريدون التخلص منه بالقتل أو باللعب، ولكل ما يجعل من هذا الجسد مسرحاً خلاقاً للجريمة.

جنديان في غزة بعد أن كتبا على الحائط: "نكبة 2023"

الحياة التي تبدأ بموت الفلسطيني

"هناك ستقام أول روضة لدانيئيل"، جملة كتبها أحد الجنود على حائط مدرسة وهو يرى من الركام إعادة بناء، ومن الطلاب المغيّبين طلاباً يهوداً، ويُطلق مدافعه أمام مقصف الأطفال وغرفة المدرسين ليرسم منهجاً تعليمياً جديداً ينصب به نفسه معلماً ومُستوزراً في اللعبة. لا يسأل الإعلام ولا الجندي حينما نجد خبراً عن تدمير المدرسة: أين ذهب الطلاب والبواب؟

"هنا سيُفتتح أول دكان لكبّة ليؤورا"، "لا أطيب من كبّة جدتي سيمحا"، عبارات كُتبت على أحد المنازل. وهي حنين إلى الطعام- المعنى الإنساني الذي تتشاركه البشرية، لكن الجندي يرى شبعه في جوع عائلة المنزل وتدمير مطبخها وتحويله إلى ملهى يشرب فيه مع رفاقه ويحرقه بعد أن ينتهي من لعبته الصغيرة المكرورة.

"لا أطيب من كبّة جدتي سيمحا"، عبارات كُتبت على أحد المنازل. وهي حنين إلى الطعام- المعنى الإنساني الذي تتشاركه البشرية، لكن الجندي يرى شبعه في جوع عائلة المنزل وتدمير مطبخها

"هنا سيُفتتح أول محل حواجب لموري"، حلم التجميل الذي يقوم على تشويه الآخر. وهنا تكمن الجمالية الوحيدة التي يشعر بها الجنود بعد كل جولة. وكلها مرتبطة بفناء الجسد الفلسطيني والمحال الفلسطينية، الحياة التي ستبدأ بموت الفلسطينيّ.

بالطبع، هناك شاعرية ميتة ما، أصبحت موجودة تجاه حبيباتهم وجداتهم وعائلاتهم، فدفعتهم إلى تحويل المأساة الغزية إلى لعبة جديدة والبدء بكتابة رسائل على جدران المستشفيات والمدارس، فكتب أحد الجنود: "حبيبتي، أنا في خان يونس". وآخر يكتب: "حبييتي، أنا مشتاق إليكِ". هذه الغراميات العبثية التي تبدو صبيانية لا تتعدى في مضمونها سياسة الرواية الإسرائيلية وحقيقة من جندهم وأرسلهم كالقطيع: إنّهم يعبثون، أو يبتكرون العبث.

حفلات صاخبة على جدران غزة

بالتأكيد يريد البعض إرسال رسائل قوية من كل هذا التكرار اللاهي، وآخرون مسكونون ببثّ تحذير وغضب وإيهام جديد بالخطر القائم أو القادم. ثم حالة أُخرى قد تكون الأغرب: تجد أن هناك من اختار لوناً فاتحاً على غير العادة، كما فعل جندي مجهول قرر الزواج من فرط الوحشة، وفاجأ حبيبته كاتباً موعد زفافه بها على جدران أحد المنازل، في رسالة حب دموية تنضحُ فراغ القاتل الذي يحلم بالسعادة.

ثم نعرف منهم أن "شعب إسرائيل حي" وأن "حكومته موحدة ومستقلة وقوية. "لكن ماذا بعد؟"؛ وهذا هو سؤالنا المتكرر مع كلّ إبادة.

وبالتوازي، نجد خطاباً مكرراً عن أعضاء الحكومة والجيش والمؤسسات الأمنية؛ جميعهم يسيرون على النسق نفسه، شركاء في مسرح اللعبة، كل منهم يغرد بطريقته ويجمعون بالبقاء على لعبة الحرب. لا أهداف سوى الإبقاء على الملاهي واللعب بجغرافية المكان وسرقة الغرافيتي، تماماً كسرقة المصارف والمنازل بعد تدميرها.

سنسأل العالم، كما نسأل نحن أنفسنا: ما الذي تفعله أحلام الصبية الجنود ومشاريعهم الصغيرة على جدران منازلنا؟ وما الذي سيأخذونه معهم عندما يعودون لوظائفهم وطلابهم وعائلاتهم سوى السخرية الباردة من تدمير الغزي وملاحقته من مكان إلى آخر؟

وبينما لم نجد من يُوقف الإبادة، يبقى السؤال الأهم: من يُخرج الجنود من ملاهي غزة؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image