سيطرت فصائل المعارضة المنضوية في غرفة عمليات "ردع العدوان"، على مدينة حلب، بطريقة مفاجئة وسريعة، والتي تضم مقاتلين من هيئة تحرير الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، وجيش العزة، وعدة فصائل أخرى.
وللمرة الأولى تخرج عاصمة الشمال عن سيطرة حزب البعث وسلطة الأسد تاركةً إرثاً ثقيلاً من الخوف المزمن من كل جديد في المدينة.
الانهيارات الدراماتيكية السريعة والمتلاحقة في صفوف قوات النظام، أحدثت نوعاً من المفاجأة للسوريين بكافة أطيافهم، إلا أنها ترافقت مع الترقب والتخوف من المجهول عند سكان حلب، والتي عانت منذ 2011 من أزمات متعددة، ليس أولها تردي الوضع الاقتصادي للعاصمة الاقتصادية، أو تحكم الميليشيات التابعة لإيران بمفاصل الحياة اليومية.
استفاق "الحلبيون" صبيحة 30 تشرين الثاني/ نوفمبر على واقعٍ جديد، وسلطة جديدة ارتبطت في أذهانهم بممارسات وسياسات الأطراف المعارضة، ومدعمة بزخم كبير من بروباغاندا بثتها منصات إعلامية واجتماعية تديرها أجهزة النظام الأمنية، ما انعكس على مشاعر متباينة، تتراوح بين التفاؤل والتوجس.
حلب في 2011
عمل النظام السوري جاهداً من خلال أجهزته الأمنية المختلفة، على منع وصول تداعيات الثورة السورية في بداياتها السلمية إلى مدينة حلب، والتي انطلقت في درعا منذ أكثر من عقد من الزمان منتقلة إلى حمص وإدلب ودمشق وعموم المحافظات السورية.
الانهيارات الدراماتيكية السريعة والمتلاحقة في صفوف قوات النظام، أحدثت نوعاً من المفاجأة للسوريين بكافة أطيافهم، إلا أنها ترافقت مع الترقب والتخوف من المجهول عند سكان حلب، والتي عانت منذ 2011 من أزمات متعددة
آنذاك، وبالتزامن مع خروج المظاهرات -الكبيرة نسبياً- في حمص وإدلب ودرعا ودير الزور في أيار/ مايو 2011، كانت مظاهرات الاحتجاج السلمي ضد حكم البعث ضعيفة وقليلة العدد وسريعة في حلب، ولعل أبرزها كانت المظاهرات الطلابية في المدينة الجامعية أو التي تسمى بالـ"طيارة"، أي السريعة التي تخرج من جامع "آمنة بنت وهب" في حيّ سيف الدولة، وتلك المشابهة التي كانت تخرج من جامع "نور الشهداء" في حيّ الشعار.
إلا أن ذروة الحراك كانت في مظاهرة "بركان حلب" في اليوم الأخير من حزيران/ يونيو، والتي ردد خلالها محتجون هتافاً يعبر عن لحاق مدينتهم بالثورة "يا أهالي الشام عنا في حلب سقط النظام"، ولتتوالى الاحتجاجات لاحقاً.
مرحلة جديدة بدأت في تموز/ يوليو 2012 مع دخول مقاتلي الجيش الحر من القرى المجاورة، وبدعم من القوى المعارضة في حلب، لأحياء المدينة الشرقية، لتنتهي مع نهاية 2016 بالحصار ومن ثم سيطرة قوات النظام على كامل المدينة بدعم من سلاح الجو الروسي والفصائل الشيعية.
نجم عن السابق تهجير مئات الآلاف من سكان الأحياء الشرقية إلى إدلب، بموجب اتفاقات دولية رعتها تركيا وروسيا وإيران، لكن بمشاركة فاعلين جدد لا عهد لأهالي حلب بهم، مثل لواء "فاطميون"، و"وزينبيون" و"الباقر"، ممن سيطروا على أحياء عدة في المدينة، ونقلوا إليها عائلاتهم من إيران وأفغانستان والعراق، وأبرز هذه الأحياء "باب الحديد" و"الفردوس"، و"المرجة".
حلب في 2024
في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر تمكنت غرفة عمليات "ردع العدوان" بقيادة هيئة تحرير الشام وفصائل أخرى، من بدء وإنهاء عملية عسكرية مفاجئة في ريف حلب الغربي، ضمن مناطق "خفض التصعيد" المتفق عليها في مسار "أستانة".
وتمت السيطرة على مقر "الفوج 46" أكبر معاقل النظام في المنطقة. وعلى عكس توقعات المحللين والمتابعين استمرت العملية بالتقدم شرقاً، انتهت بالسيطرة على مدينة حلب.
بدأت "هيئة تحرير الشام" كفرع لتنظيم القاعدة في 2012 بمسمى "جبهة النصرة"، وقد وثقت بحقها آلاف الانتهاكات سابقاً، وللغرابة يتفق النظام السوري والأميركان على وصفها بالإرهابية، فهي مصنفة على لوائح إرهاب الولايات المتحدة، وفي نفس الوقت يصفها النظام على بـالـ"متعصبة العنيفة"، والتي يستخدمها كمثال مرعب بديلاً لوجوده.
إلا أن بعض المتابعين يلمحون -ولو نتيجة انطباع مستعجل- لحدوث تغيرات إيجابية تكاد تصل لمستوى "نوعية" في ممارسات غرفة عمليات "ردع العدوان"، رغم اعترافهم بوجود الانتهاكات.
عمر شنان، من سكان حي الفرقان في حلب، يقول لرصيف22: "لم أتخيل وجود قوات غير قوات النظام أو الميليشيا المساندة لها في شارع كشارع إكسبرس الفرقان، ليس لأنني أحمل أي فكر سياسي، إنما لمعرفتي بقوة وهيمنة قوات النظام على حلب، وأهمية المدينة لهم كما كانوا يروجون".
يلمح بعض المتابعين-ولو نتيجة انطباع مستعجل- لحدوث تغيرات إيجابية في ممارسات غرفة عمليات "ردع العدوان"، رغم اعترافهم بوجود الانتهاكات.
ويضيف "كان الحي الذي أعيش به من أوائل الاحياء التي سيطر عليها الثوار، إلا أنني لم امتلك الجرأة لرؤية الشارع حتى من شرفة المنزل. تملكتني حالة من الذعر والخوف، واختلطت في رأسي أفكار عدة، كتساؤل ما هو مصيرنا بعد أن نقع في يد جبهة النصرة؟ ومن أي طريق يمكنني الهرب من المدينة؟ وما هو مصير دراسة ابنتي في كلية الطب؟ لتصلني بعد ما يقارب الساعة بعض التطمينات من أحد الأقارب في حي حلب الجديدة في اتصال هاتفي، أخبرني من خلاله بأنه التقى بعدد من الشباب المقاتلين الذين تعاملوا معه بلطف، وطلبوا منه البقاء في المنزل حتى انتهاء عمليات التمشيط، ولتبدأ بعدها مخاوف جديدة من القصف الجوي المتوقع على المدينة وأحيائها ".
الجدير بالذكر، أن الساعات الأولى لانتشار مقاتلي عملية "ردع العدوان" في حلب لم تترافق مع أصوات اشتباكات أو إطلاق نار، بسبب انسحاب كافة القوى التابعة للنظام وهروب عناصرها، ما كان له أثر إيجابي في تخفيف صدمة الأهالي المتفاجئين بخروج النظام من المدينة.
بموازاة تخوفات عمر شنان، يمكن وصف مشاعر أحمد حلاق بالسعيدة. والرجل المعروف باسم "أبو روما الحلبي" هو أحد مقاتلي الجيش الحر "المهجرين" من أحياء حلب الشرقية، والذي انتشر له مقطع مصوّر يظهر فرحته خلال عودته للحي الذي هُجر منه في 2016. مخاطباً أهالي مدينته مطمئنًا بأن قوات المعارضة دخلت حلب لحفظ وصيانة الأرواح والممتلكات.
يقول لرصيف22: "كنت على يقين تام بعودتي إلى مدينتي حلب، وكثيرا ما كانت تجمعني برفاقي المهجرين من حلب، أحاديث عن العودة، كانت تختم بأنه لا يمكن أن نعود تحت سلطة الأسد حتى بتسوية سياسية، فمشكلتنا الأساسية هي رغبتنا في التغيير".
ويضيف: "لم نتمكن من السيطرة على البكاء خلال طريقنا لأحيائنا وحاراتنا، وكانت لدينا رغبة بالحديث مع الأهالي لطمأنتهم، شعرنا أن هذا واجبنا".
ويقول بأنه صدم بالحالة المعيشية المتردية، "الأشهر الأولى القليلة القادمة، ستظهر الفرق على المستوى المعيشي والاقتصادي والحريات الشخصية".
الساعة الثامنة والأربعون
بعد مضيّ يومين على سيطرة قوات المعارضة على المدينة حلب، حدث ما توقعه السكان، وبدأ القصف الجوي الذي تسبب بمقتل العشرات ، وفي نفس الوقت بدأ السكان بالنزول للشوارع لتأمين مستلزماتهم والتعرف على طريقة تعامل أفراد "ردع العدوان" المنتشرين في الشوارع معهم.
تقول فاطمة مسكين من سكان شارع النيل لرصيف22 إنها كانت تشعر بالخوف إلا أنها "خلال المشي من شارع النيل إلى منطقة السليمانية لاحظت الابتسامات منهم مرفقة بعبارات أنتم أهلنا ونحن أبنائكم".
أما جوزيف وهو من سكان حي محطة بغداد ذو الأغلبية المسيحية فيقول لرصيف22 إنه وصلته يوم الأحد دعوة لحضور قداس "من أجل السلام" في مطرانية حلب للروم الأرثوذوكس، ليشعر بنوع من الهدوء بعد الخروج من القداس، رغم تخوفه من هجمات لطيران النظام على أحياء حلب.
كما لفت إلى أن غالبية سكان المدينة، وخاصة المناطق الغربية التي لم تخضع لسيطرة قوات المعارضة من قبل، لديهم تخوف من أن تحمل الفترة القادمة تطورات ميدانية تنتهي بعودة سيطرة النظام على حلب، وما يمكن أن تحمله هذه العودة من ردات فعل انتقامية من الأجهزة الأمنية بحق السكان.
بيد أن الصورة ليست ملائكية تماماً، ففي مقطع مصور ظهر أحد عناصر "غرفة العمليات" وهو يحطم شجرة عيد الميلاد في حي العزيزية.
كما وثقت بعض حالات التهجم الكلامي من قبل عناصر من قوات المعارضة على عدد من الأشخاص، واتهامهم بالتخاذل والتشبيح وتأييد نظام الأسد، بحسب ما ذكره عدد من المراقبين.
يقول فراس ديبة الناشط المدني المعارض الذي ينحدر من مدينة حلب: "بعد انتهاء العمليات العسكرية وحالة الصدمة، استيقظ الناس على الحاجات المعيشية الأساسية، كالخبز والماء والكهرباء".
مشيراً في حديثه لرصيف22 إلى أن الخبز القادم من أفران إدلب ألذ من الخبز الذي كانت توفره مخابز النظام لأن الطحين المستخدم فيها مستورد من تركيا، والأفران المنتجة له أحدث.
كما أشار إلى زيادة عدد ساعات الكهرباء، بعد أن كانت بمعدل ساعة واحدة خلال 30 ساعة بموجب قانون التقنيين الذي اعتمدته حكومة النظام.
حماسة ومخاوف من تحرير الشام
يرى البعض بأن التخوفات التي يشعر بها سكان حلب مبررة ومنطقية، استناداً إلى التجربة السابقة لسيطرة قوات المعارضة على أحياء حلب الشرقية بين عامي 2012، و2016 من جهة، والعلم المسبق بحجم العنف والقصف الذي سيرتكبه النظام بحق المناطق الخارجة عن سيطرته.
غالبية سكان مدينة حلب اليوم لديهم تخوفات مزدوجة، الأولى بأن تحكمهم جماعات مصنفة بالإرهابية، خاصة مع ذاكرة الانتهاكات السابقة للمعارضة، والثانية من قصف المدينة من قبل النظام وحلفائه
يقول الناشط المدني عبد الفتاح شيخ عمر الذي هُجّر من حلب إلى إدلب نهاية 2016 بأن ما أسماه "أخطاء" الفصائل التي سيطرت على الأحياء الشرقية في حلب عام 2012 لم تقدم نموذجاً إيجابياً مشجعاً لانتقال التجربة للمناطق الأخرى، إضافة إلى أن "سكان أحياء حلب الغربية شاهدوا القصف الهمجي العنيف من طيران النظام وحليفه الروسي على الأحياء الشرقية الخارجة عن سيطرته".
ويتابع في حديثه لرصيف22: "من رأى حجم العنف والقصف الجنوني على الأحياء المعارضة وخاصة خلال النصف الأخير من 2016، لن يفضل اختيار الحرية مقابل هذه الكمية من الدم، وهذا العدد الضخم من الضحايا".
ويقول: "كنت أتوقع توثيق عدد كبير من الانتهاكات الممارسة من قبل مقاتلي فصائل المعركة، وخاصة هيئة تحرير الشام ذات السجل الحافل بالانتهاكات، إلا أنني تفاجأت بتغير ملموس في الممارسات، وحالة الانضباط النسبي للمقاتلين".
وكانت هيئة تحرير الشام التي كانت واحدة من الفصائل المعارضة المسيطرة على أحياء حلب الشرقية بين 2012، و2016، قد مارست العديد من الانتهاكات، وسجلت ما لا حصر له من التجاوزات، سواء على مستوى مشاركتها مع فصائل أخرى في إدارة المنطقة، أو في تجاوزاتها على السكان، وحتى تأثير سياساتها على مسار الثورة بشكل عام.
ولعل تشكيلها للإدارة العامة للخدمات نهاية 2014، والتي ناظرت ونافست مجلس مدينة حلب "الإدارة المدنية" من أبرز أدواتها في كسب وتسجيل الانتهاكات والتجاوزات، كما أنه من غير الممكن تجاوز ممارسات الأمنيين التابعين لها، أو الأجهزة الأمنية الراديكالية كجهاز "الحسبة".
يقول ديبة إن "ما حملته الأيام القليلة السابقة من سيطرة المعارضة بقيادة تحرير الشام على حلب، تشير إلى نوعية جديدة من الخطاب، إلا أن المحك سيكمن في الممارسات العملية وفي التطبيق لاحقاً".
وكان "الجولاني" قد صرّح مؤخراً لمجموعة الأزمات، بأن مدينة حلب ستُسلم لهيئة انتقالية مدنية، وستكون خالية من كافة الفصائل العسكرية بما فيها مقاتليه، مؤكداً على "احترام التنوع العرقي والديني في المدينة".
ويظل التساؤل قائماً عما إذا كانت الظروف الدولية والسياسية ستضع قواعداً جديدة في الشأن السوري، وعما إذا كانت هيئة تحرير الشام تسعى لخلع عباءة التنظيم الإسلامي المتطرف والمصنف على لوائح الإرهاب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...