بعد توقفٍ طويلٍ عن العمل، أعلنت الحكومة المصرية عودة العمل في شركة "النصر للسيارات"، التي كانت ملء السمع والبصر طوال ستينيات القرن الماضي، بعدما عدّتها القاهرة قاطرتها الأساسية لخطتها الصناعية الطموحة التي بدأت تنفيذها منذ العام 1960.
حملت هذه الشركة أحلام المصريين خلال فترة رئاسة عبد الناصر، بالتحوّل إلى قوة صناعية كبرى في الشرق، وصنعت موديلاتها المتواضعة إرثاً كبيراً في أذهان المصريين لا يزال باقياً حتى اليوم.
خطط طموحة أكثر من اللازم
عقب ثورة تموز/يوليو 1952، اعتبرت الدولة المصرية الجديدة أن مصر يجب عليها ألا تكتفي بالإنتاج الزراعي فقط، وإنما عليها بناء قطاع صناعي قوي وقادر على توفير فرص العمل والسلع الضرورية للمجتمع بدلاً من استيرادها من الخارج.
في سبيل تحقيق هذه السياسة، تبنّت الدولة برامج لتصنيع السلع المعمرة، مثل السيارات الصغيرة والثلاجات والغسالات والتلفزيونات، وفي 1956 بدأ تنفيذ الخطة الخمسية الأولى، وخُصصت لها 49% من الميزانية المرصودة للتنمية الصناعية، بينما لم تنَل الصناعات الثقيلة إلا 8% فقط، حسب ما ورد في كتاب "النظرية الاجتماعية وقضايا المجتمع" للدكتور علي ليلة.
تدشين شركة "النصر" لإنتاج السيارات، كان علامةً أكيدةً على أن مصر تستعد لركوب قطار التقدم بعدما نجحت الشركة في إنتاج سيارات تاكسي وحافلات ولوري من فئة "نصر"
حكى محمد حمادة، في كتابه "رايات النصر وجيوش الشمس"، أن تدشين شركة "النصر" لإنتاج السيارات، كان علامةً أكيدةً على أن مصر تستعد لركوب قطار التقدم بعدما نجحت الشركة في إنتاج سيارات تاكسي وأتوبيس (حافلة) ولوري من فئة "نصر"، خرجت إلى النور لأول مرة بأيادٍ مصرية.
ولم تكن وحدها التي حملت هذا الاسم، وإنما شاركتها فيه مؤسسات أخرى، مثل شركة النصر لصناعة أجهزة التلفزيون، وشركة النصر للمواد البتروكيماوية، وشركة النصر لآبار الزيت، وغيرها من المؤسسات الاقتصادية التي اشتقّت اسمها من لقب الرئيس عبد الناصر.
يحكي المهندس عبد المنعم خليفة، أن الغرض من إنشاء تلك الشركة كان اقتصادياً سياسياً، ولم يُنظر إليها باعتبارها مؤسسة ربح وخسارة. كانت البداية تغطية احتياجات الدولة من أوتوبيسات وبعدها جاء التفكير في صناعة السيارات الخاصة والجرارات.
وحسب ما ورد في كتاب "عبد الناصر ومعركة الاستقلال الاقتصادي"، فإن مصر استعانت بألمانيا الغربية في إنشاء مصنع لتجميع سيارات النقل والأوتوبيس ومحطات الديزل تابع لشركة الناصر، بجانب مصنع لتجميع سيارات الركوب الصغيرة.
ووفق ما ورد في كتاب "الثورة الصناعية في 11 عاماً"، الذي أصدرته الدولة المصرية عام 1963، فإن ذلك المصنع أنشئ في حلوان عام 1960، بتكلفة بلغت 40 مليون جنيه على مساحة 250 فداناً، وخلال توقيت إصدار هذا الكتيّب بلغ عدد العاملين فيه 3،712 عاملاً، أنتجوا سيارات بقيمة 17.9 ملايين جنيه، وبين عامَي 1962 و1963 وحدهما، أنتج 366 أوتوبيساً و55 شاسيه أتوبيس، و984 لوري مدنياً، و70 حربياً، و115 مقطورةً، و380 جراراً زراعياً، و4،038 سيارة نصر، و994 محركاً بالإضافة إلى قطع غيار سيارات.
وقال الدكتور يزيد صايغ، في كتابه "الصناعة العسكرية العربية"، إن الشركة سارت وفق خطة طموحة لم تقنع فقط بما وصلت إليه من كفاءة في تجميع السيارات، بل بدأت بتصنيع بعض أجزائها. في أوج نجاحها، باتت "النصر" قادرةً على إنتاج 80% من مكونات سيارات "الفيات"، ونسبة كبيرة من أجزاء محركات الديزل، و100 جزء من أجزاء محرك سيارة الركوب البولونيز.
وبحسب وجيه أباظة، محافظ القاهرة الأسبق، فإن الدولة وضمن رغبتها في حل أزمة الإسكان، طبّقت فكرة بناء منازل بالقرب من مكان العمل، لذا أقامت لهم مدينةً سكنيةً قوامها 770 عمارةً، استوعبت 5 آلاف أسرة، وتبعد 700 متر عن مصنعهم، وهو الجميل الذي حمله العمّال لأباظة، فأطلقوا اسمه على أكبر شارع في مدينتهم.
سنوات النفس الأخير
بحسب جزارين، الرئيس الأسبق للشركة، فإن أكبر عائق حال دون استمرار الشركة في النجاح، هو قرار الحكومة تثبيت أسعار السيارات في وقتٍ ارتفعت فيه أسعارها في العالم بأسره، بسبب زيادة الأجور وتكاليف مكونات الإنتاج التي تستوردها الشركة من الخارج بأسعار مرتفعة.
هذا الأمر استنكره جزارين، وعلم أنه سيودي بشركته إلى الهاوية، قائلاً: "هل السيارة رغيف عيش أو صفيحة زيت حتى تدعمها الدولة ولا ترفع سعرها؟!".
الغرض من إنشاء تلك الشركة كان اقتصادياً سياسياً، ولم يُنظر إليها باعتبارها مؤسسة ربح وخسارة.
يحكي المهندس عبد المنعم خليفة، أن التجربة كانت ناجحةً في البداية، لكنها بعد ذلك تأثرت بما مرّت به مصر لاحقاً من انغلاق اقتصادي وعمليات تأميم أوقفت الكثير من المشروعات الاقتصادية وفقدت مصر التمويل اللازم لاستكمال بناء المصانع المطلوبة، ومنها أحد مصانع المحركات الذي توقف في منتصف بنائه.
وليضرب رئيس "النصر"، مثلاً على ثقل المهمة، فإن جزءاً واحداً من السيارة/ مثل "عمود الكَرَنْك"، يحتاج تصنيعه إلى 40-45 ماكينةً بتكلفة 300 مليون جنيه على الأقل.
وفي 1960، اتفقت وزارة الزراعة مع الشركة على إنتاج عدد من الجرارات الزراعية، لكنها تراجعت بعدها عن تلك الصفقة التي لم تكن ملائمةً للتُربة المصرية.
بعدها بسبع سنوات، ستقع النكسة ويبدأ عبد الناصر بعقد سلسلة طويلة من الاجتماعات لتصحيح الأوضاع. في كانون الأول/ديسمبر 1967، حضر عبد الناصر اجتماعاً لأعضاء اللجنة التنفيذية العليا أطلق خلاله انتقادات حادةً لأداء شركات القطاع العام، ولم يستثنِ "النصر" منها. من خلال محضر الاجتماع المنشور في كتاب "ناصر 67: هزيمة الهزيمة"، لمصطفى بكري، انتقد محاولة الشركة بيع بعض إنتاجها في لبنان.
قال ناصر: "فيه إعلان طالع من شركة النصر بتقول هتطلع عربية 1100 وعربية 1500 للتصدير والدفع في بيروت وهتعمل Waiting list... مش معقول! ما هو في بيروت يقدر يشتري بالتقسيط أي عربية في العالم، دا كلام واحد قاعد مهواش عايش في العالم".
بيروقراطية وعمالة زائدة
يحكي السيد عبد الرسول، في كتابه "مذكرات أستاذ جامعة"، أنه جرى الإعلان في نهاية 1972 عن فتح باب الحجز على السيارة "فيات 125"، بعدما اتفقت شركة النصر للسيارات على تجميعها وبيعها داخل مصر، وهو ما مثّل حدثاً كبيراً في مصر وقتها.
يشرح عبد الرسول، أن عدد الراغبين في اقتناء السيارات بين المصريين كان يُقدّر بمئات الآلاف، نظراً إلى توقف إنتاج السيارات في مصر منذ فترة طويلة، وبناءً على ذلك تلقّت الشركة طلبات الحجز على أن يجري اختيار الفائزين لاحقاً بالقرعة.
وبحسب ما كشفه الدكتور عادل جزارين، الرئيس الأسبق للشركة، فإن إدارة الشركة كثيراً ما عانت من البيروقراطية ونقص الكفاءة والعمالة الزائدة.
يحكي جزارين: "عندما كنت رئيساً لشركة النصر، عقدنا شراكةً ناجحةً مع شركة فيات. كانت خطوةً ناجحةً حتى واجهنا تعقيدات حكوميةً مختلفةً، منها مطالبة الحكومة بتسعير السيارات بنفسها، وهي خطوة رفضتها الشركة الأجنبية وقتها".
خلال الإعداد لحرب تشرين الأول/أكتوبر، جرى الاعتماد على خبرة جزارين الهندسية خلال شراء الكباري التي استخدمها الجنود لعبور قناة السويس.
هذا الدور التاريخي لم يشفع كثيراً لشركة النصر، في ظل تطبيق سياسة الانفتاح التي عانت بموجبها الشركات الحكومية من مشكلات أكبر بسبب عدم توافر رؤية واضحة للمشهد الاقتصادي، وفقاً لما ورد في كتاب "موجز تاريخ مصر" لمحمد عرموش.
في كتاب "حرب وجود لا حرب حدود"، لإنعام رعد، وفي إطار التدليل على حجم عدم الاهتمام الذي باتت الشركة تعاني منه في عهد السادات، ورد أن مصر في 1976، استوردت سيارات بـ35 مليون جنيه، برغم أنه كان يُمكن إنتاج ضعف هذا العدد ومن شركة النصر بدلاً من الاعتماد على شركات الخارج.
العام نفسه شهد تصاعداً ساخناً في احتجاجات العمّال، ولم يكن "رجال النصر" بمعزلٍ عنهم، فأضربوا عن العمل بصحبة عمال مصنع النقل في حلوان والترسانة البحرية في الإسكندرية وبورسعيد، حسب ما أورد غالي شاكر، في كتابه "الأهالي".
رصاصة الرحمة
وفي الثمانينيات، أُطلقت رصاصة الرحمة على ما تبقّى من نجاح للشركة، بعدما فتحت مصر أبوابها للاستثمار الأجنبي؛ في نيسان/أبريل 1984، أدلى المهندس محمد عبد الوهاب، أحد رؤساء الشركة، بحوار أكد فيه أن حجم الطلب على السيارات في مصر لا يشجع على ضخ استثمارات ضخمة لبناء إنتاج خطوط الإنتاج، ضارباً مثلاً بأن أكثر التقديرات تفاؤلاً تؤكد أن الطلب على سيارات الركوب لن يتجاوز 40 ألف سيارة بحلول 1990، وهو ما لا يستحق تجهيز خطوط إنتاج تكلف ملايين الدولارات.
بحسب جزارين، الرئيس الأسبق للشركة، فإن أكبر عائق حال دون استمرار الشركة في النجاح، هو قرار الحكومة تثبيت أسعار السيارات في وقتٍ ارتفعت فيه أسعارها في العالم بأسره
وفي حزيران/يونيو 1986، أثيرت ضجة كبرى في مصر بعد الموافقة على صفقة لتصنيع السيارات مع شركة جنرال موتورز الأمريكية، وسط مخاوف من تأثير ذلك على حصة الشركة النصر في السوق المصرية.
تسبّبت هذه الصفقة في جدلٍ كبير بعدما اعترض عليها العاملون في شركة النصر، وأعلنوا أنهم قادرون عى منافسة الشركة الأمريكية حال منحهم الإمكانيات اللازمة، وهذه الدعوة لقيت استجابةً من نقابات العمال وشركات عدة أخرى، ومن خلال بيانات تلك المعركة يتضح لنا أن حجم العاملين في "النصر" بلغ 12 ألف عامل، حسب ما ذكر بيان اتحاد العمال، وهو رقم لا يبعد كثيراً عن الرقم الذي كشفه عبد الوهاب في حواره، وهو 12،500 عامل.
وبدءاً من 1994، أعلنت مصر استعدادها لقبول عروض من مستثمرين أجانب لتطوير شركات حكومية رئيسية مثل "النصر للسيارات" و"الدلتا الصناعية" وعددٍ آخر من الشركات الكبرى.
برغم تراجع مكانتها الصناعية، ظلّت الشركة محطةً لتولّي مناصب قيادية في الدولة، مثلما جرى مع المهندس محمد عبد الوهاب، رئيس الشركة الذي خرج منها رئيساً لقطاع الصناعة، وسعيد النجار الذي أصبح محافظاً لبني سويف، وفقاً لما كتبه الدكتور محمد الجوادي، في كتابه "النخبة المصرية الحاكمة 1952-2000".
وفي نيسان/أبريل 2003، أضرب عمال الشركة احتجاجاً على عدم صرف أجورهم، وهي خطوة تكررت خلال سنوات عدة لاحقاً في ظل التجميد الكامل للشركة إلى درجة دفعت الحكومة المصرية للإفصاح عن رغبتها في تصفيتها، وهو ما تراجعت عنه قبل أيام، لصالح قرارٍ آخر ببث الحياة في عروقها التشغيليلة وعدم هدم ذلك الكيان الصناعي المصري الذي كان أول من أدخل المصريين إلى عالم السيارات الخاصة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
astor totor -
منذ يوميناسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ يومينفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته