لعب الأجانب دوراً كبيراً في إقامة المشاريع الكبيرة في مصر خلال الحقبة الخديوية (القرن التاسع عشر)، بسبب امتلاكهم خبرات وكوادر فنيةً وأموالاً لم تتوفّر في الجهاز الحكومي المصري وقتها، والذي اعتمد في أوقاتٍ كثيرة على نظام "البوت" (B.0.T)، في تدشين الكثير من المشاريع الخدمية، وأهمها وأشهرها حفر قناة السويس (1859م) الذي نفّذته شركة فرنسية ترأّسها الدبلوماسي ورجل الأعمال فرديناند دو ليسبس.
باستخدام الأسلوب نفسه، أحدث الخديوي إسماعيل، تطويراً كبيراً في قطاعَي الماء والكهرباء في مصر، بعدما كلّف شركةً فرنسيةً مملوكةً لرجل الأعمال المسيو كوردييه، بإنشاء شركة لتوزيع الماء في بعض أحياء القاهرة وأسيوط عام 1865. أما الإسكندرية، فكانت من نصيب شركة إنكليزية حملت اسم "مياه الإسكندرية"، أنشئت سنة 1879، واستمرت في العمل حتى عام 1952.
في ذلك الوقت، كان هذا النوع من الاستثمارات مجدياً في مصر؛ فمثلاً حققت شركة "كوردييه" ربحاً صافياً قدره 300 ألف جنيه في عام 1945، وارتفع إلى 324 ألف جنيه خلال 4 سنوات. أما شركة "مياه الإسكندرية"، فحققت 170 ألف جنيه أرباحاً في 1946، ارتفعت إلى 183 ألف جنيه خلال 3 سنوات.
محطات الكهرباء الأولى
مثل الماء تماماً، اعتمدت الإدارة المصرية على الأجانب في تأسيس شركات توفّر خدمات الإنارة للمواطنين مثل شركة "توزيع النور" السويسرية التي بدأت عملها عام 1906، لتزويد مساكن حي الأزبكية بالطاقة الكهربائية، وعلى مدار سنوات نجحت في زيادة قدراتها على توليد الكهرباء ومن 909 آلاف كيلووات باعتها الشركة في 1931، وصلت إلى 2.2 مليون وات في 1949.
أحدث الخديوي إسماعيل، تطويراً كبيراً في قطاعَي الماء والكهرباء في مصر، بعدما كلّف شركةً فرنسيةً مملوكةً لرجل الأعمال المسيو كوردييه، بإنشاء شركة لتوزيع الماء في بعض أحياء القاهرة وأسيوط عام 1865
بحسب كتاب "النشاط الاقتصادي للأجانب وأثره في المجتمع المصري"، لنبيل عبد الحميد، فإنه بجانب هاتين الشركتين عملت شركتا "ترام القاهرة" و"سكك مصر الجديدة" البلجيكيتين على استغلال الطاقة الفائضة عن تشغيل خطوط الترام المملوكة لهما، فبدأتا باستخدامها لإنارة بعض أحياء القاهرة منذ 1930.
مثل قطاع المياه -وربما أكثر- حققت هذه الشركات أرباحاً طيبةً جداً، فشركة "سكك مصر الجديدة" البلجيكية حصلت في 1951، على 175 ألف جنيه صافي ربح برغم أن رأسمالها لم يزد عن 400 ألف جنيه. أما شركة "توزيع النور" السويسرية، فحققت أرباحاً صافيةً قدرها 15 ألف جنيه عام 1948.
برغم النجاح الكبير لهذه التجارب، إلا أن الشركة التي يُمكن وصفها بصاحبة التجربة الكبيرة في إنارة بيوت المصريين هي "ليبون وشركاه" (Lebon) الفرنسية، التي عملت لفترة طويلة في القاهرة والإسكندرية وفيهما أنشأت محطتين مركزيتين كبيرتين لتوليد الطاقة حتى أن بعض كُتب التاريخ نسبت إليها أنها صاحبة السبق في إنشاء أول محطة كهرباء في تاريخ مصر.
أيضاً عملت الشركة على إنارة بعض الطرق الرئيسية في القاهرة بمصابيح الغاز لسنوات طويلة، ومنها شوارع رئيسية في منطقة "غاردن سيتي" و"سرايا القبة" حتى سنة 1949، التي تخلّت فيها الشركة عن هذه المهمة لصالح الحكومة المصرية بحسب اتفاقات سابقة بينهما.
لحظات الإنارة الأولى
قال عباس الطرابيلي، في كتاب "أحياء القاهرة المحروسة"، إنه في 15 شباط/فبراير 1865، منحت الحكومة المصرية مسيو شارل ليبون، امتيازاً لإنارة القاهرة لمدة 75 عاماً على غرار الامتياز الذي سبق أن حصل عليه لإنارة الإسكندرية في العام نفسه.
وفق دراسة "المنشآت المعمارية في عصر الخديوي إسماعيل"، لأحمد محمد علي، فإن الشركة أقامت وابوراً على ترعة المحمودية في حي كرموز لإمداد المدينة بما تحتاج إليه من غاز الاستصباح والتيار الكهربائي.
أما في القاهرة، فنصَّ الامتياز الممنوح للشركة على أن يقوم مسيو برنار ليبون، بـ"إنشاء مصنع للغاز ووضع الأنابيب اللازمة في مدينة القاهرة وتوابعها". أقيم هذا المصنع في منطقة بولاق، ومنه امتدت أنابيب الغاز إلى مناطق الخدمة.
بحسب الطرابيلي، فإن لحظة إنارة مقرّ المحافظة في ميدان العتبة، كانت يوماً مشهوداً عند سكان القاهرة الذين "اجتمعوا للتفرّج عليه من كل مكان داعين للخديوي المعظّم ببقائه غُرّةً في جبهة الزمان".
خلال عامين، نجحت شركة ليبون في إضاءة عددٍ من أحياء القاهرة بالغاز، مثل ميدان باب الحديد وميدان العتبة ومنطقة الأزبكية وشوارع القاهرة الكبرى، وكذلك قصور الخديوي. وبمرور الوقت تضخّم حجم الشبكة الكهربائية في القاهرة حتى بحلول عام 1882 وُضع فيها أكثر من 2،500 فانوس أضاءت 70 كيلومتراً من شوارعها.
الشركة التي يُمكن وصفها بصاحبة التجربة الكبيرة في إنارة بيوت المصريين هي "ليبون وشركاه" (Lebon) الفرنسية، وبعض كُتب التاريخ نسبت إليها أنها صاحبة السبق في إنشاء أول محطة كهرباء في تاريخ مصر.
ووفق ما أورد الدكتور عبد العظيم رمضان، في كتابه "تاريخ الإسكندرية في العصر الحديث"، فإنه جرى تعديل الامتياز الممنوح للشركة من الاستعانة بالغاز في الإنارة إلى استغلال الكهرباء.
في 1939، امتدَّ عمل الشركة إلى بورسعيد بعدما وقّع معها المجلس البلدي للمدينة عقداً لتزويد المدينة بالكهرباء والغاز، وفق ما ورد في الجزء الأول من "موسوعة تاريخ بورسعيد" لضياء الدين القاضي.
وبحسب ما أورده هاني الهندي، في دراسته "الحكومة القومية العربية في القرن العشرين"، فإن عمل شركة ليبون ومثيلاتها من الشركات الأجنبية في مصر ساهم في نشوء الطبقة العاملة المصرية؛ فصحيح أنها كانت في أغلب أعمالها تعتمد على المهندسين الأجانب إلا أنها أيضاً كلّفت المصريين الفقراء بأعمال فنية متواضعة طوال عملها ازدادت أعدادهم بمرور الوقت حتى باتت تضم أعداداً ضخمةً من العمال المصريين.
ووفق الدراسة، فإن هذه الشركات الأجنبية لم تتوقف عن استغلال العمال المصريين بشكل فاضح فكانت تمنحهم ساعات عمل أكثر وأجوراً أقل من نظرائهم الأوروبيين، كما أنها أصرّت على التعامل بطبقية مع المصريين من عامة الناس، حتى أنها كانت ترفض التحدث معهم بغير الفرنسية داخل مقر الشركة في القاهرة!
في كانون الأول/ديسمبر 1948، انتهى الامتياز الممنوح للشركة في القاهرة، وتسلّمت الإدارة المصرية مرافقها في كانون الثاني/يناير 1949، وصدر قرار بتعيين مصطفى بك فتحي، أول مدير مصري يتولّى إدارة الكهرباء في مدينة القاهرة. منذ اللحظات الأولى للإدارة الحكومية المصرية للمرفق، عانت من المتاعب بسبب إحجام الشركة في سنواتها الأخيرة عن تنفيذ عمليات تطوير للشبكة بسبب إصرار الحكومة على عدم مد امتياز "إنارة القاهرة" برغم التزايد الكبير في أعداد السكان وفي حجم استهلاكهم للكهرباء الذي ارتفع من 200 كيلوواط للفرد في 1938، إلى 427 كيلوواط في 1948.
بسبب هذه الأزمة، نشرت الإدارة المصرية الجديدة إعلاناً في الصحف جاء فيه أن شركة ليبون خلّفت وراءها الآلات "قديمةً ضعيفةً وبعضها مستهلكاً بعدما عملت فوق الحد الأقصى من طاقتها ولم تعد قادرةً على توفير إنتاج يكفي لحاجة المستهلكين". وإزاء هذه الأزمة أعلن مجلس الإدارة "وقف التوصيلات الجديدة" واتخاذ إجراءات ترشيدية في الاستهلاك مثل "حظر إضاءة واجهات البيوت ووقف عمل الآلات الصناعية خلال لحظات الذروة" حتى تنفرج المشكلة عبر تشغيل محطة شمال القاهرة التي كان يجري تنفيذها آنذاك.
برغم هذه الشكوى، فإن شركة ليبون حافظت على علاقة جيدة بالقصر في ظل استمرار امتياز عملها في الإسكندرية الذي كان مفترضاً أن ينتهي في 1969. وفي 1950، نشرت الصحف المصرية خبراً بأن الملك فاروق أنعم على المسيو برنار ليبون، بنيشان النيل من الطبقة الثانية، كما منح 3 من المديرين السابقين للشركة نيشان الصناعة والتجارة من الطبقة الثانية.
ثورة يوليو… التأميم يُلاحق "ليبون"
وفق ما ورد في كتاب "قناة السويس: حقائق ووثائق"، الذي أعدّته مجموعة من الباحثين المصريين على رأسهم المهندس محمود يونس الذي قاد عملية التأميم، فإن ممارسات شركة ليبون في تسليم مرافق الدولة في حالة انهيار كانت في ذهن عبد الناصر خلال تفكيره في تأميم قناة السويس بسبب تخوفه من أن يتسلم مرافق الشركة الملاحية في حالة انهيار مثلما فعلت ليبون مع قطاع الكهرباء خلال العهد الملكي.
وفي أعقاب العدوان الثلاثي على مصر في 1956، بات استمرار عمل الشركة "الفرنسية" صعباً في ظل النظرة العدائية إلى كل ما هو فرنسي بعد مشاركة الحكومة الفرنسية في الحرب على مصر. في هذه الأجواء ظهرت حملة إعلامية ضد الشركة في التلفزيون الرسمي للدولة بعدما أعلن الإعلامي الشهير -الشاب وقتها- حمدي قنديل، في برنامجه "دقّت الساعة"، أن الشركة تحتفظ في بنك بورسعيد بسبائك ذهبية قيمتها 1.7 ملايين جنيه تستعد لتهريبها إلى خارج البلاد.
اعتمدت الإدارة المصرية على الأجانب في تأسيس شركات توفّر خدمات الإنارة للمواطنين مثل شركة "توزيع النور" السويسرية التي بدأت عملها عام 1906، لتزويد مساكن حي الأزبكية بالطاقة الكهربائية
في 1961، أصدر عبد الناصر، قراراً بإلغاء الامتياز الممنوح لشركة "ليبون" في الإسكندرية واستبدالها بشركة مملوكة للحكومة تتولّى بنفسها أعمال توصيل الكهرباء والماء للبيوت والشوارع، ضمن حزمة تشريعات عُرفت بـ"القوانين الاشتراكية" هدفت إلى منح المزيد من الحقوق للعمال والفلاحين والفئات الوسطى وتحقيق عدالة التوزيع بين إجمالي السكان، وفق ما ذكره سامي شرف، السكرتير الشخصي لعبد الناصر، في كتابه "سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر".
في 1965، أعلن حمدي عاشور، محافظ الإسكندرية وقتها، أنه مرَّ بالمشكلة نفسها التي وقعت في القاهرة سنة 1949، بعدما أعلن أنه تسلّم الشبكة الكهربائية في المدينة الساحلية "متدهورةً"، ولم تجرِ عليها أي أعمال تجديد، ما أدّى إلى انقطاع الإضاءة في بعض المناطق. وأضاف عاشور خلال حديثه في مؤتمر جماهيري، أنه جرى إنشاء محطة جديدة لتوليد الكهرباء بالسيوف قُدرتها 52 ألف كيلووات، زيادةً على العمل على إنشاء محطتين جديدتين بالمكس والسيوف.
برغم انتهاء عمل شركة "ليبون" في مصر، واحتكار القطاع الحكومي لهذا الجانب الخدمي من احتياجات الناس، فإن سيرتها ظلّت ترد في الصحافة من وقتٍ إلى آخر، كما في المقال الذي كتبه الصحافي مصطفى أمين، ونشره لاحقاً في كتابه "قلمي يضحك ويبكي"، انتقد فيه حالات الانقطاع المتكررة للكهرباء في مدينة القاهرة، فكتب: "قيل لنا إن كهرباء السدّ العالي ستنقذنا من شركة ليبون الملعونة أيام فأر السبتية الذي كان يقطع الكهرباء مرةً كل شهر، فجاءت ألوف الفئران تقطع الكهرباء كل يوم"!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.