شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
النبي إبراهيم مرتحلاً بين الأديان والأسطورة والتاريخ

النبي إبراهيم مرتحلاً بين الأديان والأسطورة والتاريخ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الاثنين 16 ديسمبر 202401:00 م

ذاكرة جمعية عميقة الأثر تحفل بها قصة النبي إبراهيم، تتخلل الوجدان الشعبي عند كثير من الأمم، عبر موروث عتيق بالميثولوجيا والأديان جعلها البعض حقائق تاريخيةً لشدة تداولها وعمق رسوخ حضورها في المعتقد الديني والنفسي والاجتماعي، نظراً إلى الطقوس المنبثة بين الحكايات التي تحيط بحياته ورحلاته، وقد يكون من الصعب في مكان التفريق بين ما هو أسطوري وخيالي، وبين ما هو ديني أو تاريخي، لشدة التمازج من جهة، وقدسية حضورها في المتخيل الشعبي في آن واحد من جهة أخرى.

فشخصية النبي إبراهيم من أهم الشخصيات في التاريخ الديني ممثلاً في الأديان الإبراهيمية "اليهودية والمسيحية والإسلام"، باعتبار أنه النسب الذي يرجع إليه كل الأنبياء، وله حضور هائل ومغرق في القدم، خاصةً لناحية تفاصيل هجرته من موطنه إلى الأراضي المقدسة، والتي تم الإجماع في أكثر من رواية على أنه انطلق فيها من أور الكلدانيين التي تقع في الجنوب الغربي لبلاد ما بين النهرين على أطراف الجزيرة العربية وما يقابل مدينة "بابل" الحالية. وظهر أول ذكر لرحلة النبي إبراهيم عليه السلام، من أور الكلدان، بنية الارتحال إلى فلسطين أرض الكنعانيين في التوراة وفقاً لمشيئة الرب الذي أعطاه مع نسله أرض كنعان كما جاء في سفر التكوين الإصحاح11: 31 في التوراة، حيث يقول:

"وَأَخَذَ تَارَحُ أَبْرَامَ ابْنَهُ، وَلُوطاً بْنَ هَارَانَ، ابْنَ ابْنِهِ، وَسَارَايَ كَنَّتَهُ امْرَأَةَ أَبْرَامَ ابْنِهِ، فَخَرَجُوا مَعاً مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتَوْا إِلَى حَارَانَ وَأَقَامُوا هُنَاكَ".

شخصية النبي إبراهيم من أهم الشخصيات في التاريخ الديني ممثلاً في الأديان الإبراهيمية، باعتبار أنه النسب الذي يرجع إليه كل الأنبياء، وله حضور هائل ومغرق في القدم، خاصةً لناحية تفاصيل هجرته من موطنه إلى الأراضي المقدسة

ومن البيّن هنا، أن إبراهيم جاء أرض كنعان غريباً عنها، أي غريباً عن أرض فلسطين، وذلك وفق ميثاق مع الرب حدده نص في التوراة في سفر التكوين الإصحاح 18:15: "فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقاً قَائِلاً: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ".

وتأكيد الميثاق باختتان كل يهودي ليكون العهد باللحم أي الختن، هو الخاتم الذي لا يمحو دلالة العهد والميثاق بمنحهم الأرض، ولكن المتعارف أن شعوب المنطقة عرفت الاختتان من قبل، والسؤال هنا: لماذا يعمد الرب إلى ميثاق لا يميّز التوراتيين عن باقي الأمم والشعوب الموجودة؟

كذلك عند المسيحيين، يُعدّ إبراهيم، الجدّ الأكبر للسيد المسيح، إذ يرد في إنجيل متى (مت 1: 1): "كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ"، وتصدق الرواية المسيحية ما جاء في التوراة حول محطته الثانية في حاران، فيقول سفر أعمال الرسل الإنجيليأع 7: 4: "فَخَرَجَ حِينَئِذٍ مِنْ أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَسَكَنَ فِي حَارَانَ. وَمِنْ هُنَاكَ نَقَلَهُ، بَعْدَ مَا مَاتَ أَبُوهُ، إِلَى هذِهِ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمُ الآنَ سَاكِنُونَ فِيهَا".

وكذلك عند المسلمين، عُدّ إبراهيم أبا الأنبياء جميعاً في قوله تعالى: "ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين" (العنكبوت 27). كما يحفل القصّ الإسلامي بروايات لم يرد ذكرها في التوراة، والتي هيأت مبرراً لهجرته، وكذلك اختلاف اسمه بعد الوصول؛ كان أبرام قد تغيّر إلى إبراهيم، والهاء هنا رمز الالتحام بالرب ورمز الخصب الذي تحول إليه إبراهيم. أما علاقته بالأحناف، فتصوّر نوع العبادة التي كانت من قبل تعني عبادة القمر سين، قبل أن تتوجه نحو التوحيد الخالص.

لذا نستطيع القول إن حاران هي محطته الثانية وفق الروايات الدينية. نرجع إلى حاران وموقعها الذي ذُكر في التوراة سفر التكوين الإصحاح تك 11: 31: "وَأَخَذَ تَارَحُ أَبْرَامَ ابْنَهُ، وَلُوطاً بْنَ هَارَانَ، ابْنَ ابْنِهِ، وَسَارَايَ كَنَّتَهُ امْرَأَةَ أَبْرَامَ ابْنِهِ، فَخَرَجُوا مَعاً مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتَوْا إِلَى حَارَانَ وَأَقَامُوا هُنَاكَ".

ظهر أول ذكر لرحلة النبي إبراهيم عليه السلام، من أور الكلدان، بنية الارتحال إلى فلسطين أرض الكنعانيين في التوراة. 

أين حاران تلك؟ هل هي في شمال بلاد الشام كما هو معروف؟ ولماذا يذهب إلى الشمال بدلاً من الخط المستقيم المباشر إلى فلسطين؟ فالمرجح أن حاران هي الموطن الأصلي الذي ابتغاه، وفي روايتين لإبراهيم وهو على فراش الموت، يستحلف عبده القائم على أعماله ألا يأتي بزوجة لابنه اسحق من بنات الكنعانيين، وإنما من أرضه، وهي آرام النهرين، وكلها أسماء لحاران، ما يغلّب على الظن أن حاران هي الموطن الأصلي لإبراهيم في شمال بلاد الشام على تخوم أرمينيا.

كما أن اسم أور، مرادف لاسم مدينة، ويبدو أن أور الكلدان ترجمت خطأ والأصل هو "أور كسديم". ولما كان إبراهيم ينحدر من سلالة أرفكشد بن ساور قاصديم في اليمنام بن نوح، ومع التصحيف اللغوي بين الفاء والباء والسين والشين، تصبح تسمية أور أربكسد أقرب إلى أور كسديم الواقعة شمال بلاد الشام والتي تُعرف باسم "آرابخيتيس"، وهذا يفسر سير الرحلة الطبيعي من أور كسديم إلى حاران. إذ لا يُعقل أن يأتي نبي قاصداً فلسطين فينطلق من الجنوب إلى الشمال، وأيضاً يقصد مصر ليرجع بعدها إلى فلسطين. ويقال في رواية أخرى، إنه رحل من أور قاصديم، وهي منطقة يافع السفلى أو بلاد بني قاصد في جنوب اليمن، وفق ما تناوله فاضل الربيعي، في كتابه "إبراهيم وسارة"، ويفترض أن منطقة اليمن هي نقطة الانطلاق، وكذلك افترض فرج الله صالح ديب، في كتابه "اليمن وأنبياء التوراة"، بأن الأحداث تنطلق من اليمن وإبراهيم رحل من أور قاصديم، من بلاد بني قاصد، أي يافع السفلى جنوبي اليمن، إلى مصرايم يرب واب جنوبي صنعاء.

وتجاهل الفكر الغربي مصرايم التوراتية، ناسياً أن مصر الحالية كانت تُدعى إيجيبت، أي بلاد القبط وفق المصدر آنف الذكر. ثم ارتحل إبراهيم بعدها إلى حبرون التي حافظت على اسمها حتى الآن في شمال شرق عدن في منطقة الواحدي، وأسفار التوراة تجد لها مشابهات في أرض اليمن، فسفر اللاوين تقابله قرية بيت لاوي في اليمن غربي صنعاء، وحتى أورشليم أو يبوس لها في اليمن منطقة بتسمية قريبة هي بيت بوس، كذلك يرد اسم صور في التوراة في سفر حزقيال، ولكنها ليست صور اللبنانية الحالية التي أخذت اسمها مع الفتح الإسلامي للمنطقة، وكان اسمها في العهدين اليوناني والروماني "تير"، وكذلك توجد حران جنوب ذمار في اليمن والكثير من التسميات المشابهة.

عند المسيحيين: يقرّ إنجيل متى بأنّ إبراهيم هو الجدّ الأعلى ليسوع المسيح، وبرغم الاعتقاد المسيحي بألوهية المسيح إلا أنه يذكر في إنجيل متى أنه ينحدر من سلالة إبراهيم التي تنتهي بيوسف النجار، بالإضافة إلى تصديق المسيحية لما جاء في التوراة.

رحلته من حران إلى فلسطين وبعدها إلى مصر

وصل إبراهيم إلى أرض كنعان "فلسطين"، وأقام فيها ردحاً من الزمن. وبسبب القحط قصد أرض مصر، وادّعى أن سارة أخته وفق التوراة سفر التكوين الإصحاح 14:12: "فَحَدَثَ لَمَّا دَخَلَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ أَنَّ ٱلْمِصْرِيِّينَ رَأَوْا ٱلْمَرْأَةَ أَنَّهَا حَسَنَةٌ جِدّاً. وَرَآهَا رُؤَسَاءُ فِرْعَوْنَ وَمَدَحُوهَا لَدَى فِرْعَوْنَ، فَأُخِذَتِ ٱلْمَرْأَةُ إِلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فَصَنَعَ إِلَى أَبْرَامَ خَيْراً بِسَبَبِهَا، وَصَارَ لَهُ غَنَمٌ وَبَقَرٌ وَحَمِيرٌ وَعَبِيدٌ وَإِمَاءٌ وَأُتُنٌ وَجِمَالٌ". وكذلك أهدى سارة جاريةً جميلةً هي "هاجر"، زوّجتها للنبي إبراهيم كي يرزق ولداً لأنها عاقر، فولدت له النبي إسماعيل.

وبعيداً عن السبب الاقتصادي والقحط هنا، يُذكر أن إبراهيم قدم إلى مصر لهداية البدو الهكسوس الذين حكموا مصر في تلك الفترة، وهم الذين تتطابق لغته مع لغتهم. فقد قال ابن هشام في السرية: إن لسانه كان سريانياً (لسان أهل شمال بلاد الشام).

وتختلف السريانية عن لغة الأقباط في مصر الذين هم موحدون في الأصل منذ زمن أخناتون، وبعدها رجع إلى فلسطين "الخليل"، وأقام هناك، وانتقل بعدها إلى الجنوب ووصل إلى جرار، والتقى بملكها أبيمالك وفق الإصحاح 20 من سفر التكوين في التوراة: "وَانْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ هُنَاكَ إِلَى أَرْضِ الْجَنُوبِ، وَسَكَنَ بَيْنَ قَادِشَ وَشُورَ، وَتَغَرَّبَ فِي جَرَارَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ سَارَةَ امْرَأَتِهِ: هِيَ أُخْتِي. فَأَرْسَلَ أَبِيمَالِكُ مَلِكُ جَرَارَ وَأَخَذَ سَارَةَ".

ولكن هاتفاً من الرب جاءه في المنام، وأعلمه بأنه بأخذه سارة زوجةً يأثم إثماً عظيماً، فيعاتب إبراهيم بقوله ماذا فعلت بي ويردّ له سارة ويعطيه خيراً كثيراً وإبلاً وجواهر وحلياً، ولكن ثمة روايةً أخرى تقول إن جرار وأبيمالك في اليمن، وإن أبيمالك ذاته طلب من إبراهيم عهداً جديداً مقابل البئر التي كانت أرضه سابقاً، ولا نستطيع الجزم هنا بأخلاقية هذا الفعل بمنح ملك الفلسطينيين أرضاً لضيفه ليصبح الضيف صاحب المكان بدعوى الإله العاطي الذي ذُكر في سفر أخبار اليوم الثاني 7:20 في التوراة: "أَلَسْتَ أَنْتَ إِلهَنَا الَّذِي طَرَدْتَ سُكَّانَ هذِهِ الأَرْضِ مِنْ أَمَامِ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ وَأَعْطَيْتَهَا لِنَسْلِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِكَ إِلَى الأَبَدِ؟".

وفي رواية أخرى أن موطن أبيمالك في تعز اليمنية، وفق فاضل الربيعي وفرج الله صالح ديب.

أما تاريخياً، فثمة من يعترض ويرجح وجود النبي إبراهيم في مصر. فحكاية أن فرعون أهدى له جمالاً تناقض العلوم البيولوجية التي بيّنت أن الجمال لم تُعرف في تلك المنطقة إلا في القرن الثالث قبل الميلاد، إذ تذكر المشاهدات الأركيولوجية أن الجمال عرفت في القرن الحادي عشر ق.م حسب النصوص والنقوش المسمارية وهذا يدلّ على أنّ تدجينها لم يتم إلا بعد ذلك.

والتوراة لا تشير أيّ إشارة إلى مسير إبراهيم إلى جزيرة العرب، مع أنها ذكرت أنه بعد خروجه من مصر يمّم شطر الجنوب، وهنا تقف الرواية التوراتية لننتقل إلى الرواية الإسلامية: فعندما تلد هاجر النبي إسماعيل تشتد الغيرة لدى سارة، وتطالب بإبعادها عن المكان فيأخذها إبراهيم ويذهب بها إلى منطقة الحجاز الصحراوية، ويقفل راجعاً وهناك يشتد بهما العطش وتحار هاجر في إنقاذ ابنها، وتركض بين تلّتي الصفا والمروة ذهاباً وإياباً سبع مرات تلتمس القوت والماء لابنها إسماعيل، حتى يفجّر لهما الملاك جبريل بئر زمزم، وتسقيها ووحيدها إسماعيل، وتلك الهرولة ارتبطت بشعيرة الحج بما فيها من إحياء وتمثل لحركة هاجر بين الصفا والمروة، وتأتي بعدها الأضحية وهنا في هذه الأثناء تلد سارة ابنها إسحق ويصبح الخلاف بين الرواية الإسلامية والتوراتية حول من هو الذبيح أو الأضحية: إسحق أم إسماعيل؟

ففي التوراة سفر التكوين الإصحاح 2:22: "خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ".

وفي بعض الأسفار لم يتم ذكر إسحق بالاسم، لأنه من المعروف أن الوحيد هو إسماعيل الذي وُلد حكماً قبل إسحق، وهنا كانت فكرة الذبيح تنطبق عليه أولاً، ومن ذلك كانت فكرة الأضحية التي استمرت كطقس ديني إسلامي إلى يومنا هذا، يعاد سنوياً باسم عيد الأضحى. قال تعالى: ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ سورة الصافات.

وورد في إحدى آيات التوراة، أن إبراهيم اتجه جنوباً وسكن في قادش وشور "تكوين إصحاح1:20"، وتُفسّر هنا بأنها مكان في اليمن لا في المناطق الرافدينية، فقد ذكر الباحث جواد علي، في موسوعته في تأريخ مملكة قتبان اليمنية، أن أهم مدنها هي شور.

المحطة الثالثة لرحلة النبي إبراهيم كانت في الجزيرة العربية، فقد رجع إبراهيم إلى حيث ترك ابنه إسماعيل الذي أسس قبيلةً من سلالته بعد ربط نسبه بالعماليق وجرهم وسواهما من العرب البائدة، التي وُجدت في تلك المنطقة، وأعاد مع ابنه بناء بيت الله الحرام، ويطلق عليه كذلك وفق تعبير الذكر الحكيم بأنه عتيق أي أنه موجود قبل إبراهيم، وقام إبراهيم وإسماعيل بإعادة بنائه بعد أن تهدم بفعل انهيار سد مأرب في اليمن بفعل زلزال أو بركان، ما أدى إلى هجرة القبائل اليمانية، وتظهر النقوش السبئية أوّل قاضٍ قدّم النذور إلى "المقة" التي اصطلح على أنها بيت الرب واسمه "سمه-على". فهل كان المقصود هو النبي إسماعيل؟ وقد عاد بعدها إبراهيم إلى الشمال ليتخذ زوجةً أخرى هي قطورة وينجب منها العديد من الأبناء.

الحكاية بين الأسطورة والتاريخ

من الصعوبة في مكان الفصل بين القصص المتناقلة في المخيلة الشعبية كالأساطير، وبين ما هو راسخ بالإيمان الديني، وبين ما تؤكده ثوابت التاريخ، فالديانات التوحيدية عُرفت قبل ذلك في جزيرة العرب وفي الهند وإيران، والأحناف أخذوا أفكارهم وعلومهم من محيطهم التوحيدي وهو ما يميزهم بشكل أساسي عن الديانات القائمة في المنطقة منذ غابر الزمن.

يحكى مثلاً أن صحف إبراهيم هي نفسها كتب الفيدا المقدسة في الهند، وقد عرفت سابقاً أسطورة باسم "براما"، وأنها أصل عقيدة "براهما" الهندية، ويقال إن العبرانيين بدورهم أخذوا هذه الأسطورة وحولوها إلى شخصية إنسانية، واحتسبوا أن "براما" هو جدّهم البعيد، بناءً على نهج التدين القديم الذي يستند إلى تقديس الأسلاف.

وتتالت القصص المشتركة من قصة نمرود الذي أمر بقتل ذكور القبيلة، ومنهم إبراهيم، ومحاولة أمه أن تنقذه من الموت على يد "نمرود"، كذلك تتكرر قصة سرجون الأول وقصة أوديب والنبي يوسف، وتتكرر أيضاً قصة الطوفان والكثير من أبطال الأساطير والحكايات بتباينات مختلفة وفقاً لكل جماعة.

بالتدقيق في حكاية الملك نمرود بن كنعان، نلاحظ أن الروايات التاريخية لم تخبر عن ملوك نماردة في أور أو المناطق العراقية، برغم كثافة اللقى الأثرية التي ترجع إلى تاريخ حمورابي ونبوخذ نصر، ولكن يكفي ذكر اسمه الكنعاني ليصار إلى احتسابه عدواً من المفروض الصراع معه ويكفي أيضاً لتجييش العامة والتمكن من عقولهم ضد أحفاده من أصول كنعانية لتصعيد عداوتهم على أحفاد الكنعانيين أي الفلسطينيين، وتكون مبرراً للاستيلاء على أرضهم، فحتى في سفر التكوين إصحاح 2:12، يرد نص في التوراة يقول: "بك تتبارك جميع الأمم".

إبراهيم جاء غريباً إلى منطقة فلسطين وإلى الأرض التي وهبها الرب له، وهناك أناس فلسطينيون موجودون في المكان قبله، فأي منطق يقبل طردهم منها؟

وفي هذا التعبير ما يقوض الرواية اليهودية في كراهية الآخر والاستعلاء عليه أو حصر الانتماء إلى النبي إبراهيم بالشعب العبراني وحده. وعلى الرغم من أن الأديان السماوية الثلاثة لم تناقض بعضها في ما جاء في كل منها، ولم تكذب ما اختلف عليه، ولكن بالمعنى التاريخي فإن العلوم التاريخية واللقى الأثرية لم تثبت مرور إبراهيم الخليل في أي من الأماكن التي وردت سواء في أور الكلدان أو حران أو أرض فلسطين أو مصر أو الحجاز.

وبغض النظر عن أصل الحكاية، فإنّ ما نودّ الإشارة إليه هو أن إبراهيم جاء غريباً إلى منطقة فلسطين وإلى الأرض التي وهبها الرب له، وهناك أناس فلسطينيون موجودون في المكان قبله، فأي منطق يقبل طردهم منها؟ فإذا كانت الأعراف الدولية لا تقبل الكتب الدينية فيصلاً للحق والوجود، فما بالك بالقوانين الوضعية الحالية التي تستند إلى شرعة حقوق الإنسان ولا تعتبر تلك الكتب مرجعاً لها؟

عموماً، لا أحد يجبر أياً كان على تبنّي أي قصة أو حكاية، لكن علم التاريخ له أدواته وأساليبه، وربما تخبئ لنا الأيام اكتشاف ما غفلنا عنه أو ما التبس علينا في تفسيره وتحليله ومطابقته لما هو مثبت وأكيد من الوقائع والأحداث.






رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image