مش ع الهامش "لا تتفوّهين مهما فعل زوجك وتحمّلي الألم"، جملة بدأت بها سوسن (23 عاماً) من بغداد، رواية تجربتها مع التزويج القسري للطفلات، متابعةً "كل ما يمكنني أن أشارككم فيه من قصتي أن هذا اليوم (تقصد يوم العرس) عالق بذاكرتي أسترجعه كلما جاء موسم الشتاء بزخّات أمطاره".
وتكمل: "لا يزال في أدني صوت والدتي وهي تطلب من "أم الصالون" -وهو تعبير محلي يُطلق على من تزين النساء- أن ترفع شعري وتضع لي مكياجاً صارخاً وألواناً بارزة، فأخرجت من حقيبتها بعض قطع الإسفنج كوّرتها ودستها في فستاني الأبيض كي يرتفع صدري وتبرز "معالم أنوثتي".
وتواصل سوسن بصوتٍ هادئ: "قطع الإسفنج التي استخدمتها والدتي لم تكفِ ليبرز لي صدر، فطلبت قطعاً إضافية من 'أم الصالون' وحين تعذّر ذلك، أفرغوا حشوة الوسادة واستخدموها".
مراسيم حفل زفاف سوسن كانت مخيفة بالنسبة لها. فهي في ذلك الوقت لم تكن تتجاوز عامها الثاني عشر. فبعد تجهيزها وتكبير ملامحها لإظهارها امرأة "كاملة الأنوثة والنضج" خرجت من الصالون واستقبلها أهل العريس بموكب من السيارات متجهين إلى بيت العريس.
وحين وصل الموكب دخلت إلى غرفتها التي كانت ممتلئة بالزهور الصناعية الملونة وعلى الخزانة لاحظت مجموعة من قطع الفراش، تتابع سوسن حديثها وتقول: "دخلت والدتي معي مع جمع غفير من النساء وأعادت على مسمعي للمرة الألف: 'مهما فعل بك زوجك لا تتفوهي'، وعزّزت خالتي الحديث قائلةً: 'صوتج لا يطلع تفضحينا'".
"ليلة حمراء" ممزوجة بأوجاع سوسن
"زوج" سوسن يكبرها بـ20 عاماً. تقول إنه كان "طويلاً وضخماً وصوته خشناً". كانت سوسن جالسة وقطعة بيضاء على وجهها وقد أوصت والدة العريس ابنها أن يكون "حاسماً وشجاعاً" بينما صوت الأهازيج خارج الغرفة يحمّسه: "اليوم يومك يا بطل، ادعبل على جرباية"، ولها معاني كثيرة في اللهجة العراقية من بينها "ضع ذراعيك حول العروس ولفها بهما" و"سيطر على جسدها وتدحرج بها على السرير". لكن هذه الأصوات كانت مخيفة ومرعبة بالنسبة لسوسن، كما تقول.
وتضيف: "دخل زوجي ليُثبت رجولته على جسدي النحيل. كان على عجلة من أمره، خلع ملابسه بسرعة وتقدّم نحوي قائلاً: "علينا أن نتمّم الأمر بسرعة". تصف سوسن شعورها في تلك اللحظات: "في عمر السبعة أعوام كنت أُربّي خروفاً صغيراً ونحره والدي أمام عينيّ… شعرت بسقوط رقبته التي حزّها السكين. هذا ما حدث لي تلك الليلة. الفرق بيني وبين الخروف هو أنني لم أصرخ".
أم علي (60 عاماً)، من محافظة بابل، تقول إنها زُوِّجَت في عمر 11 عاماً، حتّى أن الدورة الشهرية جاءتها للمرة الأولى وهي في بيت "زوجها". وتتساءل: كيف أحب العلاقة وهو يضربني في النهار ويجامعني بدون رحمة في الليل؟
وتروي سوسن أن زوجها "بعدما فض بكارتي، نهض عن جسدي مثلما نهض والدي عن الخروف. الدماء صفة مشتركة أخرى بيننا. الاختلاف أن دمائي سالت على القطعة البيضاء 'نيشان الزواج' وملأتها وتسرّبت على الفرشة فيما دماء الخروف سالت على الأرض".
خرج العريس بعدها منادياً والدته ووالدة سوسن، فدخلتا الغرفة ومعهما النساء بالزغاريد مهنّئات والدتها بجملة: "كرت عينج يا أم فلان بيضتوا وجه"، وهي جملة تبريك باللهجة العراقية.
لم يكترث أحد لألم سوسن، فوالدتها كانت فَرِحَة وأم العريس تتباهى أن ابنها "رجل". وعن ألمها في تلك اللحظات، تقول سوسن: "لم أكن أستطيع أن أتحرك من شدة الألم. أمسكت بي بنات عمي وجارات أهل عريسي وأخذنني إلى غرفة الضيوف وخطواتي العرجاء كانت محط سخرية الجميع. سمعت إحداهن تهمس في أذن شقيقة زوجي: 'أخوج بطل، ملخها'"، وهو تعبير باللهجة العراقية يدلّ على القوة.
ثلاثة أيام تقريباً مرّت على زواج سوسن وكانت ما تزال تنزف بينما زوجها مستمر في مجامعتها بالقوة. وبحسب رأي والدة زوجها -التي لم تكمل تعليمها الابتدائي- فإن هذا "طبيعي، لا تقلقي. استخدمي الحرمل (نبات عُشبي يُقال إنه يخفّف الالتهابات) مع الملح".
استفاقت سوسن في اليوم الرابع مع نزيف حاد وضعف عام أسقطها مغشىً عليها على الأرض، ثم أُدخلت صالة العمليات بعدما تسبّبت الممارسات الجنسية العنيفة المتكررة في تمزّق شديد في رحمها، ما أدّى إلى رفعه.
تضيف سوسن: "بعد سنة تزوّج زوجي من سيدة أخرى أنجبت الأطفال واحتفظ بي من أجل العلاقة الجنسية حين تكون زوجته في فترة الحيض أو على وشك الولادة. والسبب الآخر أن أخدم والدته".
الأمر الذي أحزن سوسن أكثر في هذا الزواج أنها طالما "كنت أرفع يدي أثناء الصلاة طالبةً من الله أن يرزقني ولداً يحميني من والده حين يضربني، لم أكن أعرف أن رفع الرحم سوف يحرمني من الحمل طول العمر". تختتم سوسن بالإشارة إلى شجرة ميتة أُسند عليها ثمار أشجار أخرى وتقول: "قصّتي مثل هذه الشجرة. حتّى بعدما ماتت لا يُسمح لها بأن تستمتع بموتها".
الروايات متشابه والسيناريو مكرر
قصص تزويج الطفلات قسراً في العراق تتشابه وتتقاطع كثيراً. فاطمة من النجف (20 عاماً) من قضاء الكوفة، لا تختلف تفاصيل "ليلة دخلتها" كثيراً عن سوسن إذ عاشت في عمر 13 عاماً رعباً رغم أن زوجة شقيقها حدّثتها عن ليلة الزفاف لأنهما متقاربتان في العمر و"نصحتها" ألّا تتحرّك اثناء الجماع مهما حدث.
في إحدى الليالي الباردة من عام 2017، دخل زوجها غرفتها الجديدة في خميس زفافهما، كان يكبرها بـ25 عاماً، ولم تشاهده حينها سوى مرتين طيلة فترة الخطوبة. تروي فاطمة: "همس في أذن والدته فأسرعت إلى اصطحاب أمي إلى خارج الغرفة. كنا جالسين جميعاً على السرير المفروش بالبياض. أمسكت بوالدتي لكنها أبعدت يدي وذهبت".
تتابع فاطمة بأن الخوف بدأ يتسلّل إليها حين خلع ملابسه، و"أُغمي عليّ. ولم أشعر بشيء حتّى وجدت نفسي في المستشفى وملابسي ملطّخة بدماء، وقد تم ربط كانونة (Cannula) وقنينة دم جرى تغييرها أربع مرّات… هذه المرّة عدّت بسلامة".
بعد سنة ونصف السنة، كنت في المستشفى نفسه ببطن منتفخ بتوأمين ولا أستطيع التنفّس واجتمعت فوق رأسي طبيبات عدّة، قالت إحداهن: "أدري خبز ما عدكم؟ شنو هذه طفلة ومزوجينها!"، وهي كلمات باللهجة المحلية معناها "ألم يكن لديكم المال لإطعامها؟ كيف تزوجونها وهي طفلة!".
تجربة صالة العمليات كانت صعبة جداً، إذ بعد الولادة حدث انفجار بالرحم وخسرت طفلاً، والثاني مريض لم يكمل عامه الثاني وتوفي. عادت فاطمة إلى بيت أهلها لخدمة منزل العائلة بعد أن قُتل زوجها في فصل عشائري (أي أُهدر دمه لقتله فرد من عشيرة أخرى). تقول: " فرصتي في الزواج للمرة الثانية باتت مستحيلة لأنني بدون رحم. هذا هو السبب الأول، علاوة على ادعاء أهل زوجي بأني صاحبة فأل نحس إذ مات زوجي وطفلي وأنا على قيد الحياة".
تكره فاطمة في الزواج العلاقة الجنسية. لكنها تأمل أن يطرق بابها رجل ينقذها من مرارة عيشها مع زوجات أشقائها.
أضرار العلاقة الجنسية على الصغيرات
يؤدي تزويج القاصرات "الطفلات"، أي قبل بلوغ 18 عاماً، عادةً إلى أمراض وأزمات نفسية وصحية عديدة، بحسب اختصاصية أمراض النسائية والتوليد، الدكتورة لينا فاضل، التي تعدّد منها "تشوّه الأعضاء التناسلية، والألم الذي لا يُحتمل أحياناً أثناء الممارسة الجنسية، والالتهابات الحادة، والناسور المهبلي الذي يُسفر عن حدوث تسريب متواصل للبول إلى المهبل بشكل لا إراديّ".
وتضيف الطبيبة فاضل أن معظم الفتيات اللواتي يُزوجن مبكِّراً يتعرضن للعنف في ليلة الزواج، وهو ما يُسبب لديهن النزيف وتشوه الأعضاء التناسلية وقد يصل الأمر في بعض الحالات إلى الموت أو رفع الرحم، لا سيّما مع تمزّق الأعضاء التناسلية".
الخطر الثاني على القاصرات في التزويج المبكِّر هو الحمل والولادة، بحسب فاضل التي تشرح أن هناك احتمالاً عالياً أن تفقد القاصر حياتها لأنها لا تستطيع الحصول على الرعاية الصحية إذ إنّ جسمها في مرحلة النمو.
وتختم فاضل بالإشارة إلى أن الولادة الطبيعية تكون صعبة جداً على القاصر لأن حوضها غير مكتمل، وبالتالي تلد عادةً قيصرياً، وفي حالات عديدة تتعرض إلى الإجهاض المتكرر وخسارة الأجنة.
دخل "زوجي" ليُثبت رجولته على جسدي النحيل. كان على عجلة من أمره، خلع ملابسه بسرعة وتقدّم نحوي قائلاً: "علينا أن نتمّم الأمر بسرعة"، تصف سوسن التي كانت في عمر 12 عاماً آنذاك شعورها في تلك اللحظات: "في عمر سبع سنوات كنت أُربّي خروفاً ونحره والدي أمامي… هذا ما حدث لي تلك الليلة. الفرق بيني وبين الخروف أنني لم أصرخ"
"أكره الجنس من الليلة الأولى..."
أم علي (60 عاماً)، من محافظة بابل، تقول إنها زُوِجَت في عمر 11 عاماً، حتّى أن الدورة الشهرية جاءتها للمرة الأولى وهي في بيت "زوجها". تروي تفاصيل ما عاشته ليلة زفافها: "لن أشعر بيوم ما بالمتعة أو بالحب الذي أراه في المسلسلات التركية. كلما شاهدت مشهداً مؤثّراً أقول في نفسي: 'هذا حقيقي؟' لأن أول يوم زواج ضربني زوجي و'أخذني بالكوة' (تقصد اغتصبني) وحين نهض عن جسدي شاهدت الدماء تتدفّق مني مثل صنبور الماء".
وتؤكد أم علي أن الحال وصل بها إلى الموت إذ أصيبت بارتفاع درجة حرارتها وبرعشة، وزارتها "الحبوبة" -أي القابلة- ونصحتها أن تغتسل بعُشبتي الجفت والشب. ومرت السنون وأم علي تزداد كرهاً لممارسة الجنس مع الرجال بينما رسمت الكدمات على جسدها آثاراً من شدة التعنيف. لذا تتساءل: كيف أحب العلاقة؟ وهو يضربني في النهار ويجامعني بدون رحمة في الليل؟ قبل أن تختتم قائلةً: "لم أسترِح من هذا الواجب الزوجي الملل إلا بعد موت زوجي".
وفي هذا الشأن، تقول المستشارة النفسية والاجتماعية، الدكتورة إخلاص جبرين، إن الممارسة الجنسية مع القاصرات تترتب عليها آثار جانبية نفسية لا يستطعن التخلّص منها حتّى الممات، بما في ذلك كراهية الفتيات/ النساء للعلاقة الزوجية فيخضعن لها رغماً عنهن، وكل شيء بالإجبار يهدم الطاقة الروحية، وبالتالي يُصيب بالأمراض.
وتلفت جبرين إلى أن العلاج النفسي يكون مستبعداً ولا تحظى به هذه الفتيات/ النسوة، "ولكن من خلال لقاءاتي بالنساء في الاجتماعات والمناسبات أُشخِّص أنهن تعرضن للعنف الجنسي إذ تكون آثاره متراكمة وواضحة عليهن، لا سيّما أن العلاج النفسي في العراق مُهمَل ويُعتبر وصمةً مجتمعيةً يعاني منها الشخص أو يُلقَّب بالمجنون".
وتؤكد أن الفتيات اللواتي يُزوَّجن في أعمار صغيرة يعانين من مشاكل كثيرة مثل الخوف والاكتئاب الحاد ويملن إلى العزلة، والكارثة الكبرى هي بعد الولادة، مضيفةً "فلنتصوّر طفلةً عمرها أقل من 18 عاماً مكانها المدرسة، وهي بحاجة إلى عناية وعوضاً عن ذلك، يُقدّم لها طفل لتعتني به؟".
ناهيك بالحرب النفسية التي تجد نفسها فيها في واقع لا تقبله ولم تختره بل فُرضَ عليها، تضيف جبرين، متابعةً: "لا يوجد تبرير لتزويج طفلة لا الوضع الاقتصادي ولا الظروف. هذه حجج واهية".
الموقف نفسه تعبر عنه الطبيبة النسائية رقية الخالد التي تقول: "في بداية عملنا، يتم تعبيننا في المحافظات ثم نتنقّل من محافظة إلى أخرى، وخلال العمل في الطوارئ نشهد يومياً كوارث أنا وزميلاتي في الخفارات الليلية. يوم الخميس تحديداً نُطلق عليه يوم العرائس، واعتدنا مشهد سيارة الزفاف تُقبل إلى المستشفى مسرعةً والعريس في الخارج مفتخر بفحولته، ونستقبل طفلات بأعمار متفاوتة. في إحدى المرات استقبلنا طفلة عمرها عشر سنوات، تم تزويجها لأنها 'بدينة'، هكذا أخبرتنا والدتها حين سألنا عن سبب تزويجها في هذه السن!".
"يوم الخميس تحديداً نُطلق عليه يوم العرائس، واعتدنا مشهد سيارة الزفاف تُقبل إلى المستشفى مسرعةً والعريس في الخارج مفتخر بفحولته، ونستقبل طفلات بأعمار متفاوتة. في إحدى المرات استقبلنا طفلة عمرها عشر سنوات، تم تزويجها لأنها 'بدينة'، هكذا أخبرتنا والدتها حين سألنا عن سبب تزويجها في هذه السن!"
توضّح الخالد أن الأوضاع النفسية للفتيات "الزوجات" اللاتي قابلتهن في المستشفيات تتشابه وتختلف على حسب الحالة. فهي فمثلاً شاهدت طفلة تعاني من الصدمة صامتة وترفض التحرّك وتسليم يدها لوضع الكانولا، وأخرى من شدة الصراخ والرعشة لا يستطيع الكادر الطبي أن يسيطر عليها لعلاجها.
وتحكي أنها لا تنسى مشهد طفلة عمرها 12 عاماً أمسكت يد الممرضة وقبّلتها وقالت لها: "عليج الله لا توجعيني بعد ما بيه حيل" أي"أستحلفكِ بالله، لا تؤلميني فلا طاقة لي على تحمل المزيد من الألم". كما تشدّد على أن حالات عديدة من فرط النزف تفارق الحياة، وحالات أخرى يتم إسعافها بتزويدها بقناني الدم.
ومنذ 20 عاماً، تكافح ناشطات ومدافعات عن حقوق المرأة في العراق التزويج المبكّر للفتيات والفتيان، وتذهب مطالباتهن سُدى كل مرة بتفعيل تشريع يحد من هذا العرف القاتل، علاوة على قانون يُجرّم العنف الأسري، وما تزال هذه المطالبات الحقّة حلماً صعب المنال، بحسب الناشطة المدنية سارة جاسم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Karem -
منذ يومدي مشاعره وإحساس ومتعه وآثاره وتشويق
Ahmed -
منذ 5 أيامسلام
رزان عبدالله -
منذ 6 أياممبدع
أحمد لمحضر -
منذ أسبوعلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ أسبوعالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ أسبوعوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة