تُكابد المرأة في العراق رحلةً شاقةً ضدّ العنف والتهميش، في ظل مجتمع ذكوري يفرض عليها قيوداً صارمةً، ويُمارس ضدها مختلف أشكال الاضطهاد والتمييز. وفي هذا السياق الصعب، تصبح كل خطوة تخطوها نحو مؤسسات الدولة مغامرةً محفوفةً بالمخاطر، ولا يُستثنى القطاع الصحي من هذه المعادلة المُظلمة.
تعاني المستشفيات والمرافق الصحية في العراق من تدهور في البنية التحتية، ونقص في المعدات الطبية الحديثة، بالإضافة إلى نقص في الأدوية والمستلزمات. وكان مؤشر "نومبيو"، الذي يُعنى بالمستوى المعيشي لدول العالم وجودة الرعاية الصحية فيها، قد صنّف العراق مؤخراً في المرتبة الثالثة كأسوأ دولة في مجال الرعاية الصحية الأوّلية في العالم، فكيف يؤثر ذلك على صحة النساء الإنجابية، خصوصاً في مستشفيات الولادة الحكومية؟
تواجه النساء العراقيات ظاهرةً مروّعةً تُغفلها الكثير من الجهات، ألا وهي العنف التوليدي الذي يتعرّضن له في صالات العمليات وغرف التوليد. فبدلاً من أن تُوفّر المستشفيات بيئةً آمنةً وداعمةً للنساء الحوامل، تُصبح مسرحاً لممارساتٍ مُهينةٍ وقاسيةٍ تُخلّف ندوباً جسديةً ونفسيةً عميقةً.
يُمارَس هذا العنف بأشكالٍ مُتعددة، من الإهانات اللفظية والإيماءات المُهينة، إلى الإهمال الطبي المتعمد، وصولاً إلى إجراء عمليات قيصرية دون داعٍ طبي، ناهيك عن الاعتداءات الجسدية.
"ما يحدث في صالات الولادة مرعب، الاعتداءات اللفظية والجسدية موجودة. لا يصدر العنف من الممرضات فحسب، ولكن أيضاً من طبيبات الاختصاص، ويشمل العنف اللفظي توجيه إهانات تنتهك خصوصية الحياة الجنسية للمريضات مثل "تحملتِ الجنس، لكن ما تتحملين الولادة؟"، أيضاً، تتعرض المرأة للتنمر على شكل جسدها ولون مهبلها مثلاً، وعندما تصرخ المريضة من الألم قد تتعرض للضرب مثل ضرب الأرجل، والقرص في مناطق مختلفة من الجسد"
تُعرّف منظمة الصحة العالمية، العنف التوليدي، بأنه "أحد أشكال الإساءة التي تتعرض لها المرأة في أثناء الولادة، مثل الإهمال، الاعتداء الجنسي، الحرمان من مسكنات الألم، الإهانة، غياب الخصوصية، عدم التوعية بالحقوق، التعقيم الإجباري، رفض المنشأة الطبية إيداع الحالة، الإهمال في أثناء الولادة، عمليات طبية لا إرادية، طرد النساء من المؤسسة الطبية بسبب عدم قدرتهنّ على دفع التكاليف، وكل تلك الأمور التي تشكل انتهاكاً صارخاً لحقوق المرأة".
ووفقاً للمنظمة، لا تقتصر نتائج هذا العنف على الجانب الجسدي، بل تُخلّف ندوباً نفسيةً عميقةً لدى النساء، ممّا قد يُؤدّي إلى اضطراباتٍ في المزاج، والقلق، واكتئاب ما بعد الولادة، بل قد يصل الأمر إلى حدّ رفض تجربة الإنجاب مرةً أخرى.
العنف اللفظي
في العراق، يأتي العنف اللفظي الموجّه من قبل العاملات والممرضات في المرتبة الأولى، حيث يشمل توجيه الإهانات والشتائم إلى الأم في حال نسيت أو عجزت عن إحضار حقيبة الولادة ومستلزمات الطفل معها مثلاً، أو عدم قدرتها على دفع رشاوى للممرضات، أو لأنها تصرخ من الألم كثيراً؛ هذا ما روته لنا سارة العيسى (27 عاماً)، من خلال تجربتها في ولادة طفلها في أحد مستشفيات البصرة الحكومية.
"لم أشعر بإهانة مثل تلك التي شعرت بها في أثناء ولادتي طفلي الأول. لم أستطع الدفاع عن نفسي لأن حياتي بين أيديهنّ وهنّ قادرات على إيذائي"، تروي سارة لرصيف22، عن تعرّضها للإهانة والتوبيخ لنسيانها جلب أحد مستلزمات الولادة معها؛ القماط.
تقول سارة: "اعتقدت أنه من الطبيعي التعرض للشتم والتأنيب لأنني لست الوحيدة التي تعرضت للشتم بألفاظ جارحة، إذ رأيت قبلي كيف تعرضت النساء اللواتي ولدن في اليوم ذاته معي، للموقف نفسه مع اختلاف التفاصيل، حيث تم إدخالي مع عدد من النساء الأخريات إلى صالة الولادة من دون أي احترام للخصوصية". تسرد سارة ما قيل لها من قبل إحدى الممرضات: "مانسيتي تجيبين حمرة (أحمر شفاه)، وياج بس نسيتي تجيبيلى قماط إضافي، هذني أمهات هالوكت ميعرفن بس النومة وصور السيلفيات"، ثم صرخت في وجه والدتي لتسرع في الإتيان بمستلزمات احتياطية".
تروي لوديا ريمون (30 عاماً)، عن رحلة مرافقتها لأختها في مستشفى ابن غزوان في البصرة جنوبي العراق، والتي استمرت ليومين: "لقد استمر الطلق لدى أختي 10 ساعات. كانت على وشك الولادة، لكن لم يتوسّع عنق الرحم، ولأن الطبيبة المختصة لم تكن موجودةً، لم يكن بالإمكان اتخاذ قرار بشأن وضع شقيقتي الصحي وما إذا كانت بحاجة إلى الخضوع لجراحة قيصرية أم لا، إذ كان الوقت متأخراً، لذا استمرت الممرضات في الصراخ على أختي بجمل مثل: 'كافي تصرخين، اسكتي'، و'بس تعرفن تنامن جوه الرجال؟'... كان الأمر صادماً بالنسبة لي ولها".
"عبالج الزواج بس ونسة؟"، و"بس تعرفن تنامن جوه الرجال؟"؛ عيّنتان من جمل تتكرر على مسامع أغلب النساء في صالة الولادة كما أكدت لوديا، التي أردفت: "الأسوأ من ذلك أن صالة الولادة ليست فيها أي خصوصية، حيث تدخل كل خمس نساء أو أكثر إلى الصالة معاً، بالإضافة إلى من تستعصي حالة الولادة الطبيعية لديها نوعاً ما، حيث يشقّون عجانها دون موافقتها، ويخيطون الجرح دون تخدير".
تقول ريمون إن غياب الطبيبة المختصة أدى إلى تأخّر اتخاذ القرار المناسب بشأن طريقة الولادة التي يجب أن تخضع لها شقيقتها، وبما أن إجراء عملية قيصرية لم يكن ممكناً لعدم وجود طبيب/ ة مختصّ/ ة، استعانت الممرضات بعملية شقّ العجان، ووُلدت الطفلة في حالة ازرقاق شديد، ونجت من الموت "بأعجوبة".
مستشفيات بلا أطباء مختصّين
في الحالة المذكورة وفي حالات عدة أخرى، لا يمكن للممرضة اتخاذ قرار بخصوص إجراء عملية، لكن أين الطبيب/ ة المختصّ/ ة؟
رافد باقر، وهو طبيب مقيم في أحد المستشفيات التابعة لدائرة صحة النجف، يقول لرصيف22: "بعض الولادات تُجرى دون وجود طبيب مختص، والأمر لا يقتصر على صالات الولادة بل في بعض الأحيان تكون الطوارئ خاليةً منهم أيضاً". وعندما سألناه عن السبب الذي يجعل الطبيب/ ة غائباً/ ة، أجاب باقر بأن "حالات تسيّب وتهرّب الأطباء من ذوي الاختصاص من الدوام في المستشفيات شائعة، وغالباً ما يعتمدون على الطبيب المقيم كبديل، وفي بعض الأحيان، خصوصاً في فترة الخفارات (المناوبات) الليلية، يقتصر وجود الكادر الطبي في المستشفى على الممرضين فقط، ويتم الاكتفاء بإجراء مكالمة هاتفية مع الطبيب المختص في حال وجود حالة طارئة تستدعي وجوده، حيث تُشرح الحالة للطبيب عبر الهاتف ويقرر بعدها إن كان بحاجة إلى أن يتوجه إلى المستشفى أو لا".
تبرر العنف التوليدي، الممرضة في مستشفى الزهراء الحكومي في واسط، نبأ كامل (26 عاماً)، لرصيف22، فتقول: "بعض النساء لا يرغبن في الإنجاب بصورة طبيعية، ويطلبن التوجه إلى العملية برغم أنّهنّ قادرات على الإنجاب بشكل طبيعي بحسب كلام الطبيبة المختصة، والبعض الآخر لا يردن شقّ العجان برغم أن الحالة تستدعي ذلك"، مضيفةً أن النساء "لا يمتلكن الثقافة الطبية الكافية لذا نلجأ إلى الصراخ أحياناً حتى يستجبن لنا، فنحن أدرى بمصلحتهنّ".
شقّ العجان، المعروف أيضاً بالـepisiotomy، هو إجراء جراحي يتم فيه شقّ النسيج الموجود بين فتحة المهبل والشرج في أثناء الولادة، ويهدف إلى تسهيل عملية الولادة. هذه الممارسة شائعة بين الأطباء، ولكنها تثير الكثير من الجدل. وفقاً للكلية الأمريكية لأمراض النساء والتوليد (ACOG)، يوصي الخبراء الآن بتقليل استخدام شقّ العجان، حيث أظهرت الأبحاث أن هذا الإجراء قد يزيد من خطر التمزق الشديد، سلس المستقيم، والألم المزمن. زيادةً على ذلك، لم تُظهر الدراسات أن شقّ العجان يحسّن مسار الولادة أو عملية التعافي بعد الولادة. وبحسب تقرير نشرته منظمة "أطباء بلا حدود"، يُعدّ شقّ العجان غير ضروري في كثير من الحالات، ويجب عدم تنفيذه بشكل روتيني، حيث يمكن أن يسبب مضاعفات مثل العدوى، النزيف، أو الألم المستمر.
فساد مستشرٍ
لا يقتصر الأمر على الإهانة وقلة الرعاية وانعدام الخصوصية، ولكن تضاف إليها أيضاً الرشاوى التي تُدفع للممرضات والقابلات.
"ترفض القابلات تقديم معلومات لمرافقي المريضة عن وضعها الصحي إلا بعد أن يعطوها مبلغاً من المال، و'إذا تدفع فلوس، يعاملوها زين'"، تقول يسر مازن (28 عاماً)، وهي مدربة في مجال الصحة الإنجابية في محافظة واسط وسط العراق.
تقول مازن التي تعمل في مؤسسة آفاق لدعم المرأة، إنها ومن خلال عملها تعرفت على قصص الكثير من النساء اللواتي تعرّضن للعنف التوليدي في المستشفيات الحكومية العراقية. تصف يسر لرصيف22، حجم الفساد المتفشي في المستشفيات الحكومية، قائلةً: "تقوم أسر المرضى بتقديم مبالغ مالية للعاملات اللواتي يرتدين زيّاً أزرق ورقياً ويعملن في تنظيف المستشفى أو مساعدة المريضات، وتتراوح هذه المبالغ بين ثلاثة إلى عشرين دولاراً أمريكياً. أما القابلات فيحصلن على مبالغ أكبر قد تصل إلى ثمانين دولاراً، وذلك مقابل تقديم المساعدة للحامل والتعامل معها بلطف في صالة الولادة. وعلى الرغم من أن هذه الممارسات تُعدّ مخالفةً قانونيةً، إلا أن المريضات وأسرهنّ يلجأن إلى دفع هذه المبالغ بهدوء لتجنّب أي إساءة محتملة أو لضمان الحصول على رعاية جيدة".
تضيف مازن: "الرشوة لا تُسمّى بمسماها في المستشفى، ولكن يُطلَق عليها 'لبشارة' إذ تخرج الممرضة من صالة العمليات وتتوجه إلى أهل المريضة وتطلب 'بشارة الولادة'".
وفقاً لما ذكرته مازن، تكون هذه الممارسات أقل شيوعاً في المستشفيات الخاصة، حيث توجد رقابة مستمرة وعقوبات تُفرض على من يطلب الرشوة. كما أن النساء يدفعن مبالغ كبيرةً للحصول على رعاية جيدة في هذه المستشفيات. وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن القول بأن الإساءة أو الرشوة غائبة تماماً في المستشفيات الخاصة، إلا أن هذه الممارسات تقلّ بشكل كبير مقارنةً بالمستشفيات الحكومية.
شكاوى بلا توثيق
"ما يحدث في صالات الولادة مرعب، الاعتداءات اللفظية والجسدية موجودة. لا يصدر العنف من الممرضات فحسب، ولكن أيضاً من طبيبات الاختصاص، ويشمل العنف اللفظي توجيه إهانات تنتهك خصوصية الحياة الجنسية للمريضات مثل "تحملتِ الجنس، لكن ما تتحملين الولادة؟"، أيضاً، تتعرض المرأة للتنمر على شكل جسدها ولون مهبلها مثلاً، وعندما تصرخ المريضة من الألم قد تتعرض للضرب مثل ضرب الأرجل، والقرص في مناطق مختلفة من الجسد"، هذا ما صرّح به معاون مدير أحد مستشفيات الولادة في محافظة ديالى، رفض الكشف عن هويته، من خلال الشكاوى التي تصل إليه. وفي الإجابة عن سؤال كيف يتم التعامل مع شكاوى النساء يقول: "لا يصل الأمر إلى الشكاوى التحريرية، إذ ترفض النساء اتخاذ إجراءات صارمة بحق الممرضات والقابلات اللواتي أسأن إليهنّ. وعلى الرغم من محاولاتي المستمرة لإقناعهنّ، لكنهنّ يفضّلن الشكوى والحديث دون اتخاذ إجراءات رسمية، خوفاً من ذكر أسمائهن ووصول القضايا إلى أروقة المحاكم، والتحدث عن أمور خاصة وحساسة في مجتمعنا المحافظ".
ويختم الطبيب حديثه بالقول: "العنف التوليدي ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل هو انعكاس لثقافة أعمق من التمييز والإهمال التي تسود في العديد من المؤسسات الصحية. الطريق لا يزال طويلاً أمام تحقيق بيئة صحية آمنة وعادلة للنساء في العراق".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.