بذهول شديد حدّق مصطفى شراب (46 عاماً) في كومة ورق اشتراها من بائع أوراق مستعملة في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، قبل أن يستخدم بعضاً منها لإشعال النار التي تستخدمها زوجته للخَبز.
لم يتخيل مصطفى أن من ضمن تلك الأوراق مستندات وخرائط تعود لمنزل عائلته، وأخرى صور لبطاقاتٍ تعريفية لأشخاص لا يعرفهم.
"نصحني صديق لي أن أشتري هذه الأوراق، فأسعارها مناسبة وستساعدني على إشعال النار والقيام بمستلزمات منزليّة أخرى"، يقول مصطفى لرصيف22.
ولا يخفي أنه كان على علم بأن تلك الأوراق سُلبت من بلدية خان يونس، بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من المدينة، "لكنني لم أعلم أن فيها مستندات رسمية ووثائق تتعلق بممتلكات المواطنين وكنت أظنها ملفات بالية وقديمة"، يؤكد.
قد لا يُدرك المتفرّج خارج غزّة- إلى جانب القتل والدمار والتشريد- عبثيّة الفوضى التي تركتها وتتركها حرب الإبادة المستمرّة على غزّة، وخلقها الفراغ الأمنيّ، الذي غذّته إسرائيل بجوانب عدّة.
وربّما تتجاوز هذه الفوضى موضوع أوراق الناس الثبوتيّة التي سرقت من المؤسّسات الحكومية، أو أصبحت تحت الرّكام وفي مواقد الخبيز، فتصل حدّ العنف أو الإجرام، في حالات سُجلت وشوهدت، يكتنفها الكثير من الغموض، في ظل إخلاء السجون وغياب القانون والنُظم الرسميّة.
مُستندات مسروقة تُباع بالكيلو
مع انسحاب الجيش الإسرائيليّ من مدينة خان يونس في آذار/ مارس 2024، وبعد عدوان بري واسع، وتشكّل الفراغ الأمني الذي ترك آثاراً وخيمة، تكشفت سرقة الكثير من الممتلكات العامة من المؤسسات والدوائر الحكومية في المدينة، مما أدى إلى فقدان وثائق ومستندات ضرورية للمواطنين.
بلدية خان يونس لم تكن الجهة الوحيدة التي تعرضت لسرقة وثائقها الرسمية، فمجمع المحاكم الشرعية غرب المدينة كان هدفاً لبعض الخارجين عن القانون، إضافة إلى جامعة الأقصى ودوائر حكومية أخرى.
يقول خالد أبو سل (32 عاماً): "عثرتُ على وثائق رسمية وملفات ضريبية وكتب وعقود زواج وإيصالات دفع وسندات قبض تُباع بالوزن، لإشعال النار أو تغليف الفلافل والحلويات، في منطقة العطار غرب المدينة، تعود في معظمها للمحكمة الشرعية وجامعة الأقصى".
عثرتُ على وثائق رسمية وملفات ضريبية وكتب وعقود زواج وإيصالات دفع وسندات قبض تُباع بالوزن، لإشعال النار أو تغليف الفلافل والحلويات
ويضيف في حديثه لرصيف22: "وصل سعر الكيلو إلى 35 شيكلاً (9 دولارات)، وفي بعض الأحيان بلغ أكثر من ذلك، وكان البائعون يعرضونها دون اكتراث لأهميتها لمستقبل المواطنين".
عُرض على أبو سل شراء كميات من تلك المستندات، لكنه رفض الأمر "لكونها أوراقاً رسمية، وربما تجلب له معضلات مع أصحابها إذا ما اكتشفوا أمرها، فضلاً عن أن بيعها غير قانوني وقد يعرضني للمساءلة" يقول.
لدى أبو سل متجر لبيع الملابس المستوردة في مركز المدينة، تعرض هو أيضاً للسرقة. وبالكاد استطاع أخذ ما تبقى من البضاعة، فافتتح مشروعه الصغير في خيمة صنعها من القماش والنايلون وبعض الأخشاب على شارع الرشيد "لأبدأ رحلة شاقة من أجل توفير ما يسد احتياجاتي في واقع أكثر قسوة وأشد مرارة مما أتصور"، يقول شارحاً.
اختطاف واعتداء وقتل
ولا تقف حالة الفوضى في القطاع عند هذا الحد، فغياب الأمن وتوقف عمل المنظومة القضائية وإخلاء السجون التي تحوّلت إلى مراكز نزوح، شكّلت تربة خصبة للخارجين عن القانون في تجديد جرائمهم.
يروي الصحافي عبد الله السيد حيثيات محاولة اختطافه من قبل أربعة مجهولين في مدينة دير البلح، وتعرضه للضرب والسرقة فور أن استقل سيارة أجرة متّجهاً نحو خان يونس، في أيلول/ سبتمبر الماضي.
"سألني أحد الخاطفين عن عائلتي، وحين أخبرته أنّي نازح من غزة بدأ بضربي على وجهي وعينيّ حتى لا أتمكن من تحديد هويته. كان الخاطفون يرتدون كمامات فأثار ذلك حفيظتي"، يقول عبد الله لرصيف22.
ويردف: "أخبرني أحدهم أنهم يتبعون لإحدى الفصائل الفلسطينية، وأنهم يقتادونني لإحدى المدارس للتحقيق معي. كانت محاولة منهم لتمويه عملية الاختطاف، وجعلي أمكث في السيارة دون أن أطلق نداء استغاثة".
ثم ما لبث أن سرق أحدهم ممتلكات عبد الله؛ هاتفه وحاسوبه والكاميرا والنقود. "ثمّ ألقوا بي في منطقة قريبة من شارع صلاح الدين. عندها، احتميت بمجموعة من الشّبان ظناً مني بأنهم من لجان تأمين المساعدات، لأكتشف أنهم لصوص يترصدون قدوم الشاحنات لسرقتها".
نجا عبد الله بأعجوبة، بعد أن أعطاهم ساعة يده؛ الشيء الوحيد الذي تبقّى معه بعد السرقة. ويقول إن شبان وزملاء صحافيين آخرين تعرضوا لعمليات سرقة لمعداتهم الصحافية.
ويؤكد مصدر أمني في غزة، لرصيف22، فضّل عدم ذكر اسمه "أنّ بعض الحالات الخارجة عن القانون استغلت حالة الحرب التي فُرضت على قطاع غزة، وحاولت أن تنشط بهدف سرقة المال العام، وترويع المواطنين، وإحداث شرخ في السلم المجتمعي".
وأشار المصدر إلى أن حالات الخروج عن القانون تنوعت ما بين تجدد لحالات الثأر القديم، وحالات سرقة فردية، وسرقات لشاحنات المساعدات التي تكون على مقربة من الحدود مع الاحتلال، مؤكداً أن العناصر الأمنية تعمل كل ما بوسعها لمنع تفشي الجريمة ومحاصرتها.
ألقوا بي في منطقة قريبة من شارع صلاح الدين. عندها، احتميت بمجموعة من الشّبان ظناً مني بأنهم من لجان تأمين المساعدات، لأكتشف أنهم لصوص يترصدون قدوم الشاحنات لسرقتها
وقد سٌجلت حوادث عنف وقتل كثيرة منها الاعتداء على أحد تجار الهواتف المحمولة وسرقة أمواله وبضاعته. وقد ظهر في مقطع مصوّر وهو يبكي ويصرخ في أثناء الاعتداء عليه.
وربّما أعنفها كان مقتل الناشطة في مجال العمل الإنساني ومديرة مؤسسة شفاء فلسطين، إسلام حجازي، على أيدي مجهولين قتلوها بنحو 90 رصاصة "عن طريق الخطأ"، حسبما قالت الجهات الأمنية لعائلتها.
وتتعدى حالات الاعتداءات الفردية إلى تجدد بعض المشكلات العائلية على مستوى القطاع، والتي تم إخمادها قبل الحرب سواء بطرق قانونية أو عبر دوائر الإصلاح العشائري. ففي غرب مدينة خان يونس، قتل شخص وأصيب عدد من الأفراد في شجار بين عائلتين كانت جهات إصلاحية قد أنهت خلافهما، بينما تجددت أخرى بعدها بعدة أيام راحت ضحيتها امرأة.
الفصائل تقف متفرّجة أو مشاركة
بيدَ أنّ حوادث القتل المُدبّرة ليست وحدها من يؤرق مضاجع الغزيين، إذ يعاني أهالي القطاع المحاصر من سرقة شاحنات المساعدات والسيطرة على محتوياتها، وسط صعوبة بالغة في تأمين وصولها لمخازن المنظمات الدولية والمؤسسات الخيرية العاملة في مجال الإغاثة.
يقول الكاتب والمحلل السياسي إبراهيم أبراش: "إن الناس في قطاع غزة لا يعانون فقط من الموت والدمار والتجويع الذي تنتهجه إسرائيل؛ المسبّب الرئيس لمصائب شعبنا، بل أيضاً من إرهاب عصابات مسلحة بعضها يتبع لفصائل قسم منها يتبع لبعض العائلات الكبيرة أو للتجار والمهربين".
ويضيف أبراش في مقال له: "الغريب والمؤلم في الأمر أن كل الفصائل والأحزاب في القطاع؛ حماس والجهاد والشعبية وفتح والديمقراطية والتيار الإصلاحي والمبادرة الخ، تقف إما متفرجة على ما يجري أو مشاركة في حالة الفوضى".
ويشير الكاتب إلى أن فئة إجرامية تشكّلت وراكمت الملايين من التجارة بالمساعدات التي يُفترض أن توزّع مجاناً، ومن خلال أموال الربا بمكاتب الصرافة ومن خلال فتح حسابات في الخارج لجمع تبرعات لا يصل منها للناس إلا القليل.
بدوره، يقول مهند عامر (34 عاماً) النازح من مدينة رفح إن "سرقة الشاحنات بات أمراً شبه مألوف على طرقات القطاع، لكنه مُدان، ويشي بحالة من انعدام الضمير لدى السارقين، فضلاً عن أنه من مسببات حالة الغلاء المستشرية في الأسواق".
ويضيف: "تأخرتُ في استلام حصتي من الدقيق لعدة أسابيع، لأن مندوب التوزيع في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" أخبرني بسرقة شاحنات الدقيق التي كانت مخصصة للتوزيع".
ويتابع عامر بأسى: "اضطررت حينها لشراء الدقيق، ولم يكن لدي ما يكفي منه، لن أسامح من تسبب في معاناتي ومعاناة الآلاف مثلي جراء سرقة المساعدات والسطو عليها".
إسرائيل تحرس الفوضى
ولا شك أن تكرار استهداف الجيش الإسرائيلي لشاحنات المساعدات، جعل من الصعوبة بمكان تأمين تلك الشاحنات في كل مرة، فضلاً عن أن مناطق السطو عليها تقع في أماكن محاذية لسيطرة الجيش وتحت مراقبة طيرانه الاستطلاعيّ والحربي.
وذكر تقرير لصحيفة "هآرتس" أن "الجيش يسمح للعصابات بسرقة المساعدات، بل ويدعم بشكل غير مباشر لكن متعمد، عصابات مسلحة تسرق شاحنات المساعدات الإنسانية الشحيحة التي تدخل قطاع غزة".
إن الناس في قطاع غزة لا يعانون فقط من الموت والدمار والتجويع الذي تنتهجه إسرائيل؛ المسبّب الرئيس لمصائب شعبنا، بل أيضاً من إرهاب عصابات مسلحة بعضها يتبع لفصائل قسم منها يتبع لبعض العائلات الكبيرة أو للتجار والمهربين
وأشارت الصحيفة إلى أنّ عمليات النهب ممنهجة ويغض الجيش الطرف عنها، وبما أن منظمات إغاثية ترفض دفع أموال حماية، فغالباً ما تنتهي المساعدات في مستودعات تابعة للجيش.
ولفتت الصحيفة، نقلاً عن مصادر مطلعة على عملية توزيع المساعدات لم تسمها، إلى أن "العصابات توقف الشاحنات عبر حواجز مرتجلة أو بإطلاق النار على الإطارات، ثم تطلب "رسوم عبور" تبلع 15 ألف شيكل (4 آلاف دولار)، وأي سائق يرفض ذلك يخاطر بالتعرض للاختطاف أو سرقة محتويات شاحنته".
وتشير الصحيفة إلى أنه على بعد كيلومتر من معبر كرم أبو سالم، وقبل الأحياء الشرقية من رفح بقليل، توجد منطقة يطلق عليها الجيش اسم "منطقة النهب".
في هذه المنطقة، تجري عمليات نهب شاحنات المساعدات، وهي تخضع بالكامل لسيطرة الجيش، الذي يتمركز جنوده على بعد مئات الأمتار فقط، وأحيانا أقل، من الحواجز التي تقيمها العصابات على الطريق.
وطبقاً لما أوردته الصحيفة، فإن سلاح الجو الإسرائيلي يراقب المنطقة عن كثب، عبر استخدام طائرات بدون طيار. ويقول الجنود العاملون في غزة إنهم على دراية تامة بعمليات النهب، التي يقولون إنها "أصبحت روتينية".
وأمام تلك التحديات الداخلية والخارجية، يكابد الغزيون الصعاب، مُثقلين بالهموم والمآسي، لتبقى آمالهم معلقة بغدٍ أفضل يُنهي الحرب وويلاتها المتكاثرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم