شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
اليقظة والنوم... مفارقة الإله والإنسان في المشرق العربي القديم

اليقظة والنوم... مفارقة الإله والإنسان في المشرق العربي القديم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 8 سبتمبر 202110:57 ص

مُنح الإنسان الخلود في موروث المشرق العربي القديم مرة واحدة، في شخص بطل الطوفان، وحُرم منه مرة أخرى، في شخص حكيم يدعى أدابا. في كلتا القصتين، كان الممنوح أو المحروم ساعياً وراء نجاته الخاصة وليس الخلود، والإله إنكي كان وراء هذه البركة أو الحرمان، وليس المانح لها. وحده جلجامش كان ساعياً وراء الخلود وهارباً من حقيقة الموت، وجُلّ ما ناله جلجامش كان عشبة لتجديد الشباب، وقد أكلتها أفعى، بما تعنيه رمزياً وبيولوجياً من تجدد الحياة والذكورة والشر والحكمة الخفية.

البطل الذي مُنح الخلود

هو بطل الطوفان في أساطير المشرق العربي القديم، ومُنح عدة أسماء يترجمها نائل حنون في كتابه "الحياة والموت" زيوسُدرا في الصياغة السومرية، بمعنى الحياة لأيام طويلة، في الأكدية والبابلية أوتانبشة (يجد الحياة) وفي الآشورية أتراخاسيس المترع بالأحاسيس.

زيوسُدرا، وهو آخر ملوك عصر ما قبل الطوفان كما ذكرتهم الألواح القديمة، مُنح الخلود من قبل الإلهين آنو وإنليل، والكيفية يذكرها صموئيل هنري هوك في كتابه "منعطف المخيلة البشرية"، بأن "وهباه أنفاساً خالدة كتلك التي للآلهة، نفخوا فيها ثم كان زيوسدرا الملك، المحافظ على اسم النبات وبذرة البشرية في بلاد العبور، أرض دلمون المكان الذي تشرق منه الشمس جعلوه يقيم". إن فعل "وهب المعجزة بالنفخ" وصف قديم لسلوك سحري عند الكثير من الشعوب والأديان.   

وحده جلجامش كان ساعياً وراء الخلود وهارباً من حقيقة الموت، وجُلّ ما ناله كان عشبة لتجديد الشباب، وقد أكلتها أفعى، بما تعنيه رمزياً وبيولوجياً من تجدد الحياة والذكورة والشر والحكمة الخفية

يذكر نائل حنون في كتابه "الحياة والموت" كيفية حصول أوتانبشة على الخلود: "صعد إنليل على الفلك، وأمسك بيدي وجاء بي إلى السطح، وجلب زوجتي وجعلها تركع إلى جانبي. لمس جبهتينا وهو واقف بيننا ليباركنا: من قبل كان أوتانبشة بشراً فانياً، ولكنه وزوجته الآن يكونان مثلنا نحن الآلهة وسيستقر أوتانبشة بعيداً حيث منبع النهر".

فعل منح الخلود هنا أكثر تطوراً، ويتمثل بالركوع ومسّ الجبهة ونطق الكلمة، وهو سلوك مازال ممارساً في جميع الأديان السماوية لمنح البركة حتى يومنا هذا.

أما كيفية حصول أتراخاسيس على الخلود في النص الآشوري الذي ينقله طه باقر في كتابه "ملحمة جلجامش"، فهي مشوهة وتبقى مجهولة لنا، إلا أنها ربما ستتشابه مع الأفعال السابقة من نفخ أو مسّ جبهة أو قوة الكلمة، أو ما نعرفه من طقوس المسح بالزيت وسكب الماء، وربما لا، بحكم عدم تشابه اسم أتراخاسيس، الذي يعني الفائق أو المترع بالإحساس مع اسمي زميليه اللذين يعنيان الديمومة "الحياة لأيام طويلة" و"يجد الحياة"، من يعلم؟

عندما حُرمنا من الخلود

هنا تبرز قصة أدابا، وهو من سكان مدينة أريدو في العراق؛ المقر الرسمي لعبادة الإله إنكي. يذكر نائل حنون في كتابه "عقائد ما بعد الموت"، أن قصة أدابا وصلتنا بنسختين، واحدة من مصر، في تل العمارنة (القرن الرابع عشر) والثانية في ثلاثة ألواح في مكتبة آشور بنيبال (القرن السابع).

يذكر طه باقر في كتابه "مقدمة في أدب العراق القديم"، أن بعض الباحثين وجدوا في اسم أدابا صيغة لفظية أخرى لاسم آدم، وأن من معاني كلمة أدابا وأدب في البابلية "الإنسان". بينما يقول حكمت بشير الأسود، في كتابه "الرقم سبعة في حضارة بلاد الرافدين"، أن معنى اسمه في المعاجم المسمارية هو الحكيم أو العاقل أو العارف.

ملخص قصة أدابا، أن الإله أيا (نفسه الإله إنكي) خلقه نموذجاً للبشر الكامل ومنحه الحكمة ومعرفة خطط البلاد. كان أدابا موضع اعتماد وثقة مدينته، فهو يعمل مع الخبازين لتحضير خبز المعبد وتجهيز الماء فيه. امتهن صيد السمك الذي يقدم قرباناً لمعبد سيد مدينة أريدو الإله أيا. حدث في إحدى رحلاته أن الريح الجنوبية هبّت في أثناء صيده فأغرقت سفينته، فلعن أدابا الريح، وأدت اللعنة إلى كسر جناحها، فسكنت الريح ولم تعد تهب.

أحسّ كبير الآلهة آنو (الذي منح الخلود لبطل الطوفان) باضطراب نظام الطبيعة وأخبره وزيره بفعلة أدابا، فغضب آنو وأمر أن يحضر أدابا ليعاقب على فعلته. علم الإله أيا وجهّز عبده للمثول أمام الإله آنو، بأن أطال له شعره (من مظاهر الحداد قديماً) وألبسه الحداد وأعطاه هذه النصيحة:

"يا أدابا، إنك ذاهب إلى حضرة آنو الملك، ستسلك طريق السماء وحين تصعد إلى السماء وتصل إلى بوابة آنو، ستجد تموز وكزيدا واقفين إزاءها. وحين يريانك سيسألانك: أيها الرجل علام تبدو هكذا؟ يا أدبا لم ترتدي ثوب الحداد؟ فقل لهما إن ذلك حزناً على إلهين اختفيا من الأرض. من هما هذان الإلهان اللذان اختفيا من على الأرض؟ إنهما تموز وكزيدا، وسينظر أحدهما إلى الآخر ويبتسمان، وسيتفوهان بكلام طيب من أجلك أمام آنو. وحين تقف أمام آنو، وحين يقدمون لك خبز الموت فلا تأكله، وحين يقدمون لك ماء الموت فلا تشربه، أما إذا قدموا لك ثوباً فالبسه، وإذا قدموا لك زيت فادهن به جسمك. لقد زودتك بهذه النصيحة فلا تهملها وتمسك بما قلته لك".

كان إنكي السبب غير المباشر في منح بطل الطوفان الخلود عندما أسرّ له بإرادة الآلهة في إفناء الإنسان، والرمزية ببساطة تتعلق بكشف السرّ، سر الآلهة. في عصر كانت الأسرار كثيرة ولعارفيها أهميتهم. معرفة السر تفتح الأبواب وتعطى صاحبها قوةً وحكمةً كانت تنقص بطل الطوفان

هو ما جرى مع أدابا أمام تموز وكزيدا، ثم أمام آنو الذي سأله عن سبب كسره لجناح الريح الجنوبية، فأخبره أدابا أن الريح أغرقت سفينته وحرمته من كسب عيشه. سانده الإلهان المذكوران، فرق له قلب آنو وتوسم فيه رجاحة العقل، فقرر بدلاً من العقاب أن يطعمه ويسقيه طعام وماء الحياة، ويجعله خالداً كما هو حكيم، ولكن أدابا رفض، فتعجب آنو من أمره وسأله السبب، فأخبره أدابا بنصائح أيا، فغضب آنو ولعن أدابا قائلاً: "لأنك لم تأكل طعام الحياة ولم تشرب ماء الحياة فلن تنال الحياة الخالدة أيها البشر الناقص المعوج"، فأخفق أدابا كما أخفق جلجامش.

اللقاء بين البشري الفاني والبشري الخالد

بطل طلب الخلود هو ملك مدينة أورك جلجامش الذي تأثر بموت صديقه أنكيدو، والذي تصعب ترجمة اسمه، ولكن نائل حنون في كتابه "ملحمة جلجامش"، ينقل رأي عالم المسماريات الألماني آدم فلكنشتاين، الذي افترض أن جلجامش يعني "المعمر (يبقى) شاباً". جلجامش، وعلى العكس من بطل الطوفان وأدابا، كان القلق من الموت عنده طاغياً ومحركاً لتشرده وبحثه، فكان اللقاء بين جلجامش وبطل الطوفان العقدة في القصة، ففي حوارهما تلخيص مكثف لحضور حكمة الموت في المشرق العربي القديم.

يخبره بطل الطوفان، كما يترجم نائل حنون في كتابه، بخلاصة معرفة الوجود القديمة: "الآلهة أنوناكي، الآلهة العظام، كانوا مجتمعين، والآلهة ماميتو، صانعة المصائر، كانت معهم وقدروا الموت. لقد وضعوا الموت والحياة، وفيما يخص الموت لم يعلنوا يومه".

ويقص عليه قصته في نيل الخلود، وينهي قصته بالقول: "والآن، من أجلك من يجمع الآلهة لك، حتى تجد الحياة التي تبغي؟ هلم! لا تنم ستة أيام وسبع ليال". أهمية الجملة الأخيرة أنها الأمر من الخالد إلى الفاني: لا تنم! ولكن بمجرد نطق الخالد بهذا الأمر "جلس جلجامش القرفصاء، نفشت عليه سِنة نومٍ كالضباب".

كانت القرفصاء إحدى وضعيات دفن الموتى في المشرق العربي القديم، فالموت عند إنسان العصر الحجري بمثابة النوم، لذلك تعامل مع الموتى من حيث الدفن ومواضعه (تحت أرضية المنازل مثلاً) كأنهم سيستيقظون يوماً ما

النوم والموت

كانت القرفصاء إحدى وضعيات دفن الموتى في المشرق العربي القديم، فالموت عند إنسان العصر الحجري بمثابة النوم، لذلك تعامل مع الموتى من حيث الدفن ومواضعه (تحت أرضية المنازل مثلاً) كأنهم سيستيقظون يوماً ما، وليس انتقال الدفن إلى خارج المنازل إلا تسليماً بعدم إمكانية عودة الموتى فأصبح لهم مكان وعالم خاص يدعى المقبرة الجماعية التي تطورت من قبر فردي خارج المنزل. وسيترافق الضباب مع النوم حكماً، لأن الخروج من الضباب رمزياً يعني فرصة لوعيٍ أو سلوك جديد بعد الضياع.

النوم في ثقافات الشعوب وآدابها "شقيق الموت"، يتمثل أحد وجوه العبارة في مئات آلاف السنين التي كان النوم فيها يجسد خطراً على وجودنا، من الكائنات المفترسة التي تحيط بنا ليلاً، ومن جهة أخرى، وبعد تغلبنا على خطر الموت ليلاً ونحن نيام.

أصبح النوم علامةً نتميز بها عن الآلهة التي لا تنام، وإن نامت فثمة كارثة ستحل بها، وليست الرمزية في أسطورة اغتصاب عشتار من قِبل الفلاح عندما نامت في حقله، على سبيل المثال، إلا أحد تفاصيل هذه المفارقة. يقول شارل فيروللو في أحد هوامش تعليقاته على ملحمة جلجامش في كتابه "أساطير بابل وكنعان"، إن التلمود يقول: "آدم قبل سقوطه كان يشبه الله تماماً، حتى الملائكة خلطوا بينهما.

وبعد أن تهيئوا ليغنوا نشيدهم في تمجيد الإنسان، أسقط الله على مخلوقه نوماً عميقاً. عند ذلك عرف الملائكة خطأهم". وفي القرآن "الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سِنة ولا نوم"، ومن هنا تبدو صيغة الاحتقار للإله النائم، عندما قال صموئيل في التوراة، الملوك الأول الاصحاح 18، مندداً بكهنة بعل: "ادعوا بصوتٍ عال لأنه إله مستغرق في خلوة أو سفر أو لعله نائم فينتبه". 

خروج جلجامش من ضباب النوم

يستيقظ جلجامش من النوم بعد سبعة أيام منكراً مدة نومه، وقد استعدّ بطل الطوفان لهذا الإنكار بأن جعل زوجته تعجن الدقيق كل يوم، كي يشاهد جلجامش الفوارق بين عجينة كل يوم نام فيه. إن عبور جلجامش من الضباب وبدون وعيٍ جديدٍ لحقيقة الموت كان متوقعاً، فبقي يلح على بطل الطوفان أن يمنحه سرَ الخلود.

رمزية نوم جلجامش مدة سبعة أيام تذكرنا ببقاء صديقه إنكيدو مستيقظاً سبعة أيام، شغوفاً بجسد شمخة (كلمة بابلية تعني الفاتنة) هذا الجسد الأنثوي الذي أخرجه بالجنس من حياته البرية، وأدخله إلى المدينة بعد أن كان يحيا بين الحيوانات. إن استخدام العدد سبعة في موضوع النوم واليقظة يخبرنا بمباهج الحياة ولذاتها تلميحاً، وأن نضع قلق الموت جانباً. إنها كامل حكمة ملحمة جلجامش، ومن هنا ينفتح باب جديد لفهم عرض عشتار على جلجامش ليقترن بها، ومقدار جحود جلجامش الذي رفض عرضها ذاكراً أخطاءها (وهو تعداد يمثل الخطاب الأبوي المتعالي وكبرياءه المزيف)، لا ننسى أن ملوك المشرق العربي القديم تفاخروا بأن الملوكية كانت ببركة تمنح من عشتار.

أصبح النوم علامةً نتميز بها عن الآلهة التي لا تنام، وإن نامت فثمة كارثة ستحل بها

الخلود وخسارته في عالم الماء والعِمادة

ينصح بطل الطوفان جلجامش بالاستحمام والعودة إلى مدينته، وكان هذا ما سيجري لولا تدخل زوجة بطل الطوفان ليمنح جلجامش شيئاً من الشقاء، فيخبره بطل الطوفان بعشبة في أعماق البحر، وأنها ستعيد له صباه. يربط جلجامش نفسه بقطع من الحجارة ويلقي بنفسه إلى الماء إلى النبتة فيقطفها ويقطع الحبال ليعود للسطح.

إن عملية الغوص بالحجارة تمثيل لدخول قسري إلى عالم الحكمة والولادة في الماء (العنصر الأنثوي)، وهو عالم الإله إنكي المقيم فوق الماء العذب، إنها عمادة قسرية تجبر الجسد بالحجر. تعاكس هذه العمادة القسرية تلك الحقيقية اللاحقة والتي يفقد جلجامش فيها عشبته، فعندما يقف ليستحم في بركة ماء عذب (العمادة الحقة) تسرق الأفعى منه عشبة تجدد الشباب! وهنا حكمة العمادة الحقة.

لم تكن تلك العصور تعتبر الذرية من الأبناء (الذكور بالتحديد) حصة الإنسان من الخلود كما في أيامنا هذه، فرغم معرفتنا أن ابني جلجامش كانا ملكين على مدينة أوروك، إلا أن جلجامش لم يشِر إليهما كتعزية. كانت ثقافة عصره تعتبر الأبناء جزءاً من متع الحياة وليس الخلود أو البقاء بالاسم. إن اعتبار الأبناء بديلاً عن الخلود هو اعتقاد معاصر نسبياً.

إرادة الإله إنكي

اسمه يعني سيد الأرض. دوره رئيسي في قصص خلق الإنسان والجوانب المتعلقة ببقائه من زراعة وصناعة ومعارف وسحر وحكمة. تقدّمه الأساطير بصفة الإله المحب للبشر والمتعاطف مع أصحاب الأزمات، ومع الآلهة التي تمر بوقت عصيب، فهو من أنقذ إنانا من الموت، ومن اخفى الإله نرجال عن غضب آلهة العالم السفلي، وهو من حاول انقاذ الفلاح الذي اغتصب عشتار أثناء نومها من غضبها العارم، وغيرهم الكثير.

كان إنكي السبب غير المباشر في منح بطل الطوفان الخلود عندما أسرّ له بإرادة الآلهة في إفناء الإنسان، والرمزية ببساطة تتعلق بكشف السرّ، سر الآلهة. في عصر كانت الأسرار كثيرة ولعارفيها أهميتهم. معرفة السر تفتح الأبواب وتعطى صاحبها قوةً وحكمةً كانت تنقص بطل الطوفان.

إنها القوة والحكمةُ عينها التي يملكها أدابا بمعنى اسمه وبالصورة التي تقدمها الأسطورة عنه، ولكن نصيحة إنكي وتصرف أدابا الملتزم بها، وبدون أن يتبين لنا أي ومضة لحكمة أدابا الخاصة، حولته إلى قاصر أو طفل يوجه نحو مصلحته، وأسطورته بالتأكيد تريد أن تقول: إن الطاعة العمياء وحتى بناء على نصائح الآلهة مضرة وهي نكوص عن الحكمة.

"أما أنت يا جلجامش، فليكن كرشك ممتلئاً. ابتهج على الدوام، صباحاً ومساء، أقم احتفالاً في كل يوم، ارقص والعب صباحاً ومساءً، لتكن ثيابك نظيفة، ليكن رأسك مغسولاً، ليكن مستحماً بالماء، ارعَ الصغير الذي يمسك بيدك. لتسعد القرينة بحضنك. فهكذا هو سفر البشرية"

تقول الحكمة السومرية في كتاب خزعل الماجدي "متون سومر": "عندما تخطط للمستقبل يكون إلهك إلهك، وإذا لم تخطط للمستقبل، ليس إلهك إلهك". الحكمة في قصة أدابا سبقت وتجاوزت مفاهيم عصور لاحقة تحدثت عن تصنيف أفعال الإنسان بين جبرية ومخير ومسير. بالتأكيد أدابا لا يستحق الخلود.

تقدم أسطورة جلجامش النقيض من البطلين السابقين، فلا يعرف السر ولا يملك حكمة يستند إليها، وهو إلى اللحظة الأخيرة في قصته يطلب السر بدون حكمة، ولذلك في كل سعيه وراء الخلود لم يقابل كنتيجة إلا بشرياً أصبح خالداً. لم يكن إنكي مُنطَلقاً، ولم يصب هذا البحث إلى إله السماء نتيجة.

إن كامل شخصية جلجامش وسلوكه الذي ضاق منه أهل مدينته، وطلبهم من الآلهة أن تخلق صنواً له لتفرغ له طاقته التي لا تنضب (فكانت شخصية إنكيدو) والمغامرات التي يخوضانها معاً، والتي كان فيها إنكيدو أكثر حكمة من جلجامش، تدل على شخصية جلجامش الشابة والمنفعلة والفوّارة، والتي ينقصها النضج الذي قدمته الأسطورة ذاتها في شخصية صنوه إنكيدو، الذي يتقبل موته مثلاً ويقلب لعناته القاسية على شمخة التي كانت السبب لدخوله عالم المدينة إلى بركات ودعاء.

بقي إنكيدو مستيقظاً مع الأنثى سبع ليال سعيداً فتملّك شيئاً من الحكمة، وبدون الأنثى نام جلجامش سبع ليالٍ ولم ينل من الحكمة شيئاً. إن كامل حكمة ملحمة جلجامش تتمثل فيما قالته سدوري، وهي صاحبة حانة تقيم على طرف البحر، وهي الأنثى الأخيرة والوحيدة التي قابلها جلجامش في ترحاله حيث، قالت له: "يا جلجامش إلى أين تهيم؟ إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.

فحينما خلق الآلهة البشر، حددوا الموت للبشر، ومسكوا الحياة بأيديهم. أما أنت يا جلجامش، فليكن كرشك ممتلئاً. ابتهج على الدوام، صباحاً ومساء، أقم احتفالاً في كل يوم، ارقص والعب صباحاً ومساءً، لتكن ثيابك نظيفة، ليكن رأسك مغسولاً، ليكن مستحماً بالماء، ارعَ الصغير الذي يمسك بيدك. لتسعد القرينة بحضنك. فهكذا هو سفر البشرية. يرد جلجامش: يا صاحبة الحانة، من أين الطريق إلى أوتانبشة؟".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard