يفتح رصيف22، في هذا التحقيق، ملف "الأعمال السحرية" المنتَجة في العراق، والمستخدمة داخله وخارجه بعد تصديرها إلى الدول العربية والغربية، والتي تنتشر في ظلّ غياب تامّ لأيّ رقابة حكومية، وقد راح ضحية أعمال الشعوذة هذه الكثير من الضحايا.
"ها وين أوصل 'العمل'؟"؛ السؤال نفسه يكرره يومياً، سعيد (25 عاماً)، من محافظة النجف جنوبي العراق. ينطلق سعيد كل يوم، لتوصيل "الأعمال السحرية" التي تحضّرها "العلويّة"، إلى الزبائن. يقول: "عملي هو التوصيل من "العلوية" إلى الزبائن، ولا أتدخل بأي شكل من الأشكال في العمل"، موضحاً "معظم الزبائن لا يستطيعون الذهاب إلى "العلوية" خوفاً على سمعتهم أو لأسباب أخرى خاصة بهم".
"العلويّة" لفظة شعبية تُطلق على الساحرة في العراق، ومردّها الانتساب إلى آل بيت رسول الله إذ غالباً ما يدّعي العاملون/ات في هذا المجال، هذا النسب، لإيهام الناس بأن لديهم "كرامات".
يجوب سعيد شوارع النجف بسيارته لتسليم "الأعمال". "في الكثير من الأحيان، أُخفي العمل وأُغلّفه ليظهر على شكل هدية، أو قارورة عطر أو ملابس، بناءً على طلب الزبون، من أجل ألا يثير الشك عند أقاربه أو ذويه"، يشرح.
ولا تقتصر طلبيّات السحر على طبقات اجتماعية دون غيرها، إذ يؤكد سعيد: "زبائني من مختلف الفئات والطبقات، الفقير والغني والمثقف، ومن مختلف أحياء النجف الغنية والفقيرة، وجلّهم يطلبون العمل السحري الدليفري".
توصيل داخل العراق وخارجه
لا ينحصر توصيل "الأعمال السحرية" داخل النجف، إذ يتسع نطاقه ليصل إلى المحافظات العراقية كافة، وصولاً إلى بلدان عربية وأوروبية وأحياناً أبعد.
"السحر الأونلاين" و"السحر الدليفري"... رصيف22 يأخذكم في رحلة واقعية إلى عالم اللاواقع للتعرّف على أنواع "الأسحار" وطريقة عملها و"لوازمها"، والعلاقة الوثيقة بين "الأعمال" والمقابر ومرتاديها
يقوم سعيد بجمع "الأعمال السحرية" التي يسلّمها خارج النجف لإيصالها في يوم واحد. "على سبيل المثال، في حوزتي أعمال سحر يجب أن تصل إلى بغداد، لذا أجمع أعمال كل خمسة أو ستة زبائن، ثم أذهب لتسليمها مرةً واحدةً".
أيضاً، يقوم سعيد بإيصال "الأعمال" بنفسه إلى الدول العربية. يقول: "قبل مدة قصيرة، كنت في مصر، وقد رميت بعض 'الأعمال' في نهر النيل، وزرت بيروت لتسليم بعضها للزبائن".
في المقابل، لتوصيل الأعمال إلى أوروبا إستراتيجيات مختلفة، فقد عقد سعيد اتفاقاً مع شركات سياحة لتوصيل السحر إلى دولها، ولكنهم يواجهون الكثير من الصعوبات والتأخير في التوصيل لأسباب لوجستية لا تواجهه في الدول العربية.
كلفة "الدليفري"
تختلف أسعار التوصيل داخل النجف وخارجه، وبين الدول العربية والأوروبية. فتبلغ التكلفة داخل المحافظة 25 ألف دينار عراقي (نحو 20 دولاراً)، ويتضاعف السعر في المحافظات الأخرى. في حين يبدأ التوصيل إلى الدول من 200 دولار، ويصل إلى 1.000 دولار، وأحياناً يصل إلى 2.000 دولار أمريكي، بحسب البعد والصعوبة في التوصيل.
عن مفعول السحر الذي يقوم بتوصيله، يروي سعيد: "صديق لي كان يرغب في الزواج من فتاة عشقها وطلبها للزواج مرات عدة، وكان ردّ ذويها الرفض، وبعد أن نفذ صبره لجأ إليّ لعمل سحر، ورشّ العمل على باب دار أهل حبيبته، وبعد مدة تغيّرت قناعاتهم ووافقوا على طلبه بفضل السحر"، هكذا يزعم.
سعيد نفسه يرتدي قلادةً في نهايتها حقيبة صغيرة جداً في جوفها حرز يُسمّى "حجاب"، وهو عبارة عن ورقة بيضاء تُكتب عليها طلاسم سحرية، ويؤمن بأن هذه القلادة تحميه من تأثير السحر الذي يقوم بتوصيله، كما يمتلك حجاباً للرزق، وآخر للحسد.
يصل سعيد إلى نهاية مشواره. يركن سيارته عند نقطة قريبة من دار أحد زبائنه، ثم يمشي خطوات قصيرة ويقوم بقرع الباب أكثر من مرة من أجل تسليم "السحر". يُسلّمه ويمضي إلى منزل آخر، لتسليم عمل آخر.
أسعار السحر وأنواعه
تفاصيل "الأعمال السحرية" تشرحها "العلوية"، وهي أربعينية من قضاء الكوفة في النجف أتمّت دراستها الثانوية، ووصلنا إليها عبر عائلة نجفية يسألها أفرادها عن "طالعهم" ويستشيرونها في مشاريعهم الاجتماعية والاقتصادية. وافقت "العلوية" على الحديث معنا بعد انتظار شهر كامل، ومقابل 50 دولاراً. علماً أن الوصول إلى "العلوية" يكون عادةً عبر رقم يتداوله زبائنها مع معارفهم مشيدين بأعمالها وقدرتها على "استشراف المستقبل" بالتنجيم.
تقول العلوية: "كلفة 'السحر' تختلف حسب نوعه، فيتراوح سعر 'الشعلة'، الأكثر طلباً، وهي لجلب الحبيب العنيد وتتألّف من طلاسم وبخور يتم حرق جزء منها والجزء الآخر يتم زرعه في مناطق مختلفة من الدار، بين 250 ألفاً لكمية تكفي لأسبوع، و500 ألف لمدة أسبوعين، ويصل المبلغ إلى مليون دينار عراقي إن كانت مدتها شهراً كاملاً".
تضيف "العلوية" بلهجتها النجفية أن المراد يأتي بعد انتهاء طقوس شعلتها "خاضع مطيع يلبّي رغبات المحبوب وراكع يقبل أصابع الأقدام". لكنها تصارح زبائنها بأن "الشعلة مفعولها يبطل عند التوقّف عن العمل"، وتقترح على زبائنها عمل سحر يسمّى "موت القلب"، لأجل أن تموت مشاعر قلب أحدهم تجاه الجميع، وينبض للشخص الذي عمل السحر فقط.
وتخيّر "العلوية" زبائنها بين إحضار لوازم السحر، أو تتكفّل هي بذلك. في حال عجز الزبائن عن إحضارها تقوم بذلك فلديها أذرع في المقبرة، وتزيد التكلفة.
وتتنوّع أدواتها الأساسية للقيام بالسحر بين "ماء المغتسل" (الماء الذي يُغسَّل به الميت)، وتزعم أنه ليمتلك الشخص قلب من أراده ويتحكم به. وأيضاً "قطع صغيرة من لحم الميت" لتُطعمه المرأة للرجل من أجل أن يكون العضو الذكري "مربوطاً" لها ولا يستطيع الرجل ممارسة علاقة جنسية مع سواها.
تكلفة "الربط"، بحسب "العلوية"، في حال قام الزبون بتأمين أدوات السحر، ثلاثة ملايين دينار عراقي، ويكون عملها فقط قراءة التعويذات والطلاسم عليها. أما إذا ترك الزبون الأمر كاملاً عليها، فتصل التكلفة إلى ثمانية ملايين دينار عراقي. تبرّر "العلوية" المبلغ الباهظ بأنها تتقاسمه مع الدفّان وأصحاب المغتسل.
هناك عمل آخر يسمّى "ربط اللسان"، يُصبح معه المسحور عاجزاً عن التعبير عن آرائه أمام "عامل السحر" أو تجاهه، وينفّذ كلامه بالحرف من دون اعتراض. يتطلّب هذا العمل رميه في نهر جارٍ ويفضَّل "نهر النيل" لتكون فعاليته أقوى، بحسب "العلوية". للقيام بهذا السحر يكون مطلوباً تأمين "أثر" الشخص المراد سحره، مثل خصلة شعره أو منديل فيه عرقه أو قطعة من ملابسه.
تستقبل "العلوية" زبائنها في منزلها بعد حجزٍ مسبق، بمن فيهم سياسيين/ ات، يقصدونها/نها من أجل حل مشكلاتهم/نّ أو تتنباْ لهم/نّ بالمستقبل، وبدورهم/نّ يقدّمون/ن لها الدعم الأمني والحماية.
تَعِد "العلوية"، من يساهم في جلب الزبائن لها بالهدايا، وعادةً ما تكون طلاسم مفيدة في الحياة اليومية لـ"جذب محبة الناس، أو الرزق، أو منع الحسد". وتتحدّد قيمة الهدايا بعدد الزبائن، فمن يوفرّ لها أكثر من خمسة زبائن يحصل على عمل هدية يسمّى "فرج الضبعة"، تستخدمه عادةً النساء لجلب محبة الرجال والعكس.
طقوس "الشعلة" وفعاليتها
"أفضل سحر استخدمته سحر النجف"؛ بهذه الكلمات بدأت رينا (اسم مستعار، 25 عاماً) من بغداد وتسكن في أربيل حالياً بسبب عملها في إحدى المنظمات الدولية، حديثها لرصيف22. تقول إنها تزوجت من زميل لها في الجامعة بعد علاقة حب، ومع مرور الوقت أظهر زوجها ملله من العلاقة. بعد فترة من الفراق اتصل بها وأخبرها بأنه لا يستطيع أن يُكمل حياته معها بعد أن غادر العراق لأجل فرصة عمل في ألمانيا.
تضيف أنها أصيبت بالصدمة بعد اتصاله حيث كانت حينها في مؤتمر وتعرفت إلى زميلة شعرت بالراحة تجاهها وأخبرتها عن مشكلات حياتها الزوجية، لا سيما أن لديها طفلةً من هذا الزواج.
تتابع: "ساعدتني زميلتي في الوصول إلى 'علوية' في النجف، وفي الحقيقة كانت لي بعض التجارب السابقة أيام الدراسة مع علويات أخريات لكشف المستقبل، لكن هذه المرة صُدمت من معلومات 'العلوية' عني، وعن أسرتي، وعن زوجي، وعن الخلافات التي بيننا. حتّى أن والدتي لديها مشكلات في العمل، وهي طبيبة أسنان، عرفت بها 'العلوية'".
"كلفة 'السحر' تختلف حسب نوعه، فيتراوح سعر 'الشعلة'، الأكثر طلباً، وهي لجلب الحبيب العنيد وتتألّف من طلاسم وبخور يتم حرق جزء منها والجزء الآخر يتم زرعه في مناطق مختلفة من الدار، بين 250 ألفاً لكمية تكفي لأسبوع، و500 ألف لمدة أسبوعين، ويصل المبلغ إلى مليون دينار عراقي إن كانت مدتها شهراً كاملاً"
شعرت رينا بالراحة والثقة في "العلوية"، وطلبت منها سحر "الشعلة" الدليفري من النجف إلى أربيل، واتّبعت التعليمات بحذافيرها، وتفاجأت بعد ذلك بعودة زوجها لمراسلتها والتعبير عن حبه لها، وعودته من ألمانيا ملهوفاً على رؤيتها.
تشير رينا إلى أنها في الوقت الحالي تفكر في أن تعمل له "ربطاً"، ولكن العائق أمام ذلك هو عدم قدرتها المالية إذ إن تكلفة الربط تصل إلى عشرة ملايين دينار عراقي، وقد وجدت حلاً بديلاً هو الاستمرار في استخدام "الشعلة" ريثما تتمكّن من جمع المال لعمل "الربط" من جيب زوجها.
تتابع رينا حديثها بينما تتلقّى مكالمةً من "الدليفري" يبلغها فيها بوصول "العمل". تفتح علبة وتجد "سحر الشعلة". "أكثر ما يسعدني في تعاملي مع 'العلوية'، الطريقة التي تبعث بها الأعمال: في صندوق هدايا مغلّف لا يثير شكّ أحد على الإطلاق"، تردف.
في الصندوق المصنوع من الكرتون، ورقة مكتوبة عليها تعليمات مفصّلة لتنفيذ السحر. تبدأ رينا بالتقاط الطلاسم وتقول: "هذا يُحرق في الصباح، وهذا في المساء". ثم تلتقط قطعة الحلوى، وتشير إليها قائلةً: "هذه القطعة ذات فعالية قوية. أضعها في منطقة العضو التناسلي لمدة دقيقة، ثم أعيدها إلى غلافها، وأطعمه إياها وقت الخلاف أو النفور".
تمسك بمجموعة إضافية وتعلّق: "هذه للحرق، وهذا يوضع في عتبة الباب، وهذه القارورة الصغيرة فيها قطرات ماء أضعها في صنبور الحمام وقت استحمامه".
تضيف رينا، أن "الشعلة" مقسّمة حسب أيام الأسبوع، وحسب ساعات النهار والليل؛ فمثلاً "هذه توضع في باذنجانة بعد حفرها، وتوضع الأخيرة في الجمر حتّى الصباح، وكلما انطفأ الجمر أعيد إشعاله".
عشر سنوات "تحت تأثير السحر"
"بعد سنوات طويلة من العذاب، صدمتني جملة اعتذار من زوجة شقيقي"، تقول هبة سعيد، من مواليد 1982، من بغداد، وتعاني من اكتئاب حاد، وأمراض أخرى. زارت العديد من الأطباء ولكن دون جدوى؛ بقيت التداعيات النفسية والصحية ترافقها أعواماً عديدة. تضيف: "أنا مسحورة منذ سنوات طويلة وكنت أجهل ذلك".
"عصر يوم من أيام شهر نيسان/ أبريل 2024، غطّت عاصفة ترابية المدينة، وبناءً على طلب أمي، بات شقيقي في منزلنا خوفاً من حوادث السير. وبينما كنت أعدّ العشاء، إذ بزوجة شقيقي تقترب مني وتقول بصوت ذليل: 'ابريني الذمة يا هبة… أريد الذهاب للحج'"، وطلب براءة الذمة عادة يفعلها الناس قبل ذهابهم إلى الحج، من أجل التسامح مع معارفهم لضمان الصفح عن ذنوبهم.
تكمل هبة: "كان ردّي المعتاد على هذه الرسميات: تذهبين وتعودين بالسلامة ونسألك الدعاء. لكن زوجة شقيقي أضافت بصوت خجول: 'هبة أنا أخطأت في حقك ومعترفة، وطامعة بمغفرتك، ورغبتي منكِ وعد تقطعينه لي بأن تصفحي عني إن تحدثت'".
تتابع هبة: "في تلك اللحظة راودت عقلي ألف فكرة. ماذا فعلت بي؟" قبل أن تقطع أفكارها زوجة شقيقها قائلةً: "قبل عشرة أعوام وضعت لكِ سحراً في طعامكِ، ودفنت سحراً آخر في الحديقة، وسكبت في عبوة الشامبو الخاصة بك سائلاً لونه بنفسجي، هل تسامحيني؟". تروي هبة أنها تعاملت بـ"روح رياضية" مع الموقف. ابتسمت ابتسامةً عريضةً، قبل أن تغادر زوجة شقيقها مسرعةً.
تسترسل الفتاة في رواية قصتها، وتعود إلى الماضي: "قبل عشرة أعوام، كنت في كلية الطب في جامعة بغداد. تقدّم لي شقيق زوجة أخي، وكان من خارج المحافظة، وتقدّم شخص كانت تجمعني به علاقة ودية في الجامعة. رفضت الأول ووافقت على الثاني، وقد هاتفني من رفضته، ليخبرني بأنه سوف ينتقم مني على جرح كرامته. لم أكترث لحديثه، وبدأت بتجهيز نفسي لحفل زفافي، وفي أول يوم زواج لم أستطع تحمّل بيتي الجديد، ورحت أصرخ كلما حاول زوجي الاقتراب مني، ويوماً بعد يوم بدأت أتصرف بطريقة هستيرية وعجز الأطباء عن معالجتي؛ الطعام لا يستقرّ في معدتي، وبدأ جلدي بالتحسّس، ومع غروب الشمس أبدأ بالصراخ وأتصور أشياء غريبةً، وأحلامي مزعجة في كل ليلة".
عادت هبة بعد سنة من بيتها الزوجي إلى بيت عائلتها "مطلّقةً"، وبدأت رحلتها مع العلاج النفسي، وأطباء الأعصاب، لكن جدّتها نصحت بأن تزور معالجاً روحانياً، أو "تكشف" عند "العلويّات"، إلا أن والد هبة رفض رفضاً قاطعاً لأنه لا يؤمن بالسحر والشعوذة.
تعود هبة بذاكرتها وتقول: "كنت من المؤيدين لفكرة والدي، لكن بعد طلاقي تغيّر الوضع، وعدت إلى حالتي الطبيعية، بل عملت مع والدي في عيادته الخاصة بطب الأسنان"، مشيرةً "أعود إلى حالة الهستيريا إن تقرّب شخص ما أو تودّد إليّ أو لخطبتي؛ سريعاً تزورني الأحلام المزعجة، حتّى بدأت أكره الحديث عن الارتباط".
بالعودة إلى زوجة شقيقها، فقد اعترفت بأنها ساهمت في إطعامها "الأعمال السحرية" مرات عدة، وسرقت من خزانتها ملابسها الداخلية، ومن مشطها بعض الشعرات المتساقطة، وسلّمتها لشقيقها الذي بدوره سلّمها إلى ساحرة.
وتضيف هبة: "كل ما ذكرته من أحداث، اعترفت به زوجة شقيقي بهدف أن أغفر لها من أجل ذهابها للحج. التساؤلات التي راودتني حينها: هل قبول اعتذارها سوف يحل المشكلات التي أعاني منها منذ سنوات؟ في الوقت الحالي أنا مشغولة بالبحث عن 'شيخ' ليفكّ لي السحر".
"أخطر سلاح هو ماء 'غسل الميت'، حيث يقرأ السحرة عليه الطلاسم السحرية ويسقونه لضحاياهم، وثمة احتمال كبير بأن يصاب شاربه بالجنون أو الموت أو العجز الجنسي".
جذور قديمة
قد لا يكون من يُحضّر السحر قادراً على فكّه. ثمّة "مشايخ"، وهي الصفة التي تُطلَق على العاملين في السحر من الرجال ولا علاقة لها بالمسمّى الديني، يقومون بعمل السحر وفكّه، لكن غالباً "المشايخ" ينقسمون إلى فريقين؛ منهم من يقوم بالسحر، وآخرون يعملون على فكّه.
يقول المعالج و"طبيب" الأعشاب "الشيخ" أبو علي من النجف: "نقل السحر من محافظة النجف وتصديره إلى المحافظات الأخرى والدول جذوره قديمة، إذ كان سحرة النجف يتفقون مع عملاء لهم في المحافظات على الترويج لهم وجذب الزبائن، ويمدّونهم هم بدورهم بالأعمال".
ووفق "الشيخ" أبو علي، "سحر النجف مطلوب محلياً ودولياً، بسبب قوة فعّاليته ونتائجه المبهرة، والسبب في ذلك أن تأدية الطقوس السحرية تكون في مقبرة النجف، التي يُعتقد أنها أكبر مقبرة في العالم، وفيها مقابر قديمة تعود لمئات السنين الأمر الذي يُسهّل عمل السحرة".
ويضيف: "غالبية السحرة من هذه المنطقة -خاصة المشهورين/ات منهم/نّ- امتهنوا السحر بالوراثة، ولا يهابون المقابر وطقوسها، وهم قريبون من الموتى وتغسيلهم وتكفينهم، ولهم معرفة بمراسيم الدفن".
كما يروي أن "السحر الأسود هو السحر الذي تكون فاعليته أقوى ويصعب تفكيكه، وجميع الأسحار التي تُدفن في المقابر هي سحر أسود، وأخطرها الذي يُدفن مع الميت، أما أصعبها فهي تلك التي تتم كتابتها على عظام الأموات وجماجمهم حيث يتم استخراجها من القبر، وتُكتب عليها الكلمات السحرية والتعويذات والطلاسم، ومن ثم تتم إعادة دفنها. والمعمولة له هذه الأنواع من السحر عادةً ما يصاب بالجنون أو الموت البطيء".
ويشير أبو علي، إلى أن بعض "المسحورين" يترددون عليه ولا يستطيع علاجهم، لأن السحر الأسود يحتاج إلى ساحر أيضاً تكون له سلطة على نوع من "الجان" يسمّى "النقال". الساحر يأمر "الجان" بأن يُحضر له السحر من المقبرة ليتم إبطاله، ولكن "طرق السيطرة على الجن وتطويعه تحتاج إلى طقوس خارقة للطبيعة".
يقتصر "علاج" أبي علي على بعض الأمراض التي تصيب الإنسان جرّاء تناوله السحر أو شمّه من خلال البخور، أو بسبب قراءة التعويذات الهوائية التي تسبّب أنواعاً من الحكّة الجلدية، أو التهاب الأمعاء الحاد، وتأخّر الإنجاب عند النساء، وعدم الانتصاب عند الرجال، وعلاجها بالعسل أو الرقية الشرعية، كما يزعم.
ويحكي "الشيخ" عن الأسحار الشائعة التي يرصدها، قائلاً: "هي التفريق بين الزوجين، أو عدم الانتصاب لدى الرجال، وتوقّف العمل وتعسّره". ويضرب مثالاً: "يأتي إليّ الكثير من الرجال والنساء يشكون ضيق حالهم ورزقهم وسوء حظهم، مع أنهم يعملون طوال اليوم وأحياناً يضاعفون عملهم في الليل، أو يشكون خسارة رفيقة دربهم. ومن خلال الكشف عليهم، أجد أنهم مصابون بالسحر أو بالعين… إلخ". وهو يعتمد في "علاج" هذه العقبات التي تصادف الإنسان، كما يقول، على الطلاسم الخاصة به التي ورثها عن أجداده والرقية الشرعية والعسل.
يتابع أبو علي حديثه عن النجف: "في كل حيّ وزقاق في النجف وضواحيها وأقضيتها، يوجد ساحر أو ساحرة، وأحياناً يتضاربون من أجل الزبائن ويتنافسون في ما بينهم ويتحدّون من سحره أقوى"، ولا ينكر وجود الكاذبين "لكن أهالي المحافظة لديهم خبرة مبنية على التجارب الشخصية. فبعض السحرة يعطونك مواصفات وأحداثاً للمستقبل تكون مبهرةً، وغالبية الزبائن في البداية يكون لديهم فضول يتحوّل إلى إدمان".
ويشير إلى وجود سحر شعبي شائع متوارث بين عائلات النجف تستخدمه العجائز، مثل الطلاسم والشعلة لجلب الحبيب، وطقوس استخدام عقد اللسان، ويبررون هذه الأفعال بأنها "رحمانية"، وفي الحقيقة، يؤكد أبو علي أنّ "أيّ عمل يُسلَّط على شخص من أجل إيذائه أو التلاعب بقراراته أو يُستخدم لتحقيق مكاسب شخصية من دون النظر إلى الضرر الذي يتسبب فيه، يُعدّ محرّماً في كل الأديان".
ويضيف أن "بعض السحرة يوهمون زبائنهم بأن أعمالهم بحسب الشريعة، فقد يتخذون من القرآن الكريم غطاءً من أجل إقناع الزبائن بأن أعمالهم رحمانية، وقد اكتشفت ذلك من خلال المصادفات وطلبات زبائن السحرة. فقد طلبت سيدة شراء قارورة لتضع فيها دماء الدورة الشهرية لتسقيها لزوجها، بعد أن تقرأ عليها الساحرة الطلسم، وقالت إن 'العلوية' أعمالها رحمانية لأنها تستخدم القرآن في الكشف".
أدوات الساحر في "المغتسل"
وبالحديث أكثر عن السحر وأدواته، يقول أبو حيدر من النجف (67 عاماً)، ويعمل "مغسلجياً" -التسمية المحلية لمن يقوم بغسل الموتى قبل دفنهم- في مغتسل داخل مقبرة النجف: "إنّ 'صابونة الميت' و'ليفة الميت'، اللتين يتم غسل الميت بهما، وجميع الأدوات التي يستخدمها 'المغسلجي'، حتّى المشط والشعرات والأظافر، تكون محل اهتمام السحرة فقد يتم تحويلها إلى أسلحة فتّاكة تنهك الإنسان وتدمّره".
ويضيف: "صادفتني عروض عديدة من أجل شراء الأدوات التي أستخدمها في المغتسل، لكن رفضتها كلها، لأن بيعها يعني مخالفة ضميري، لأن السحرة يستخدمونها في السحر الأسود".
وبحسب خبرته، أخطر سلاح هو ماء "غسل الميت"، حيث يقرأ السحرة عليه الطلاسم السحرية ويسقونه لضحاياهم، وثمة احتمال كبير بأن يصاب شاربه بالجنون أو الموت أو العجز الجنسي.
ويؤكد أبو حيدر، أن عائلات النجف عند إحضار ميتهم يرافقونه إلى المغتسل، وهم من يساعدون "المغسلجي"، ويحرصون على التخلّص من قطرات الماء التي تسقط منه عن طريق تنشيف الأرض، حتّى أنهم يرافقونه إلى مثوى القبر من أجل ألا يتم دسّ السحر معه. في أماكن أخرى، يهاب البعض أجواء المغتسل والدفن لذا يسلّمون ميتهم إلى المغتسل وهو من يتكفل بالباقي.
لا يُنكر أبو حيدر، أن هناك الكثير من المتعاونين مع السحرة من المغسلجية، يساهمون في دسّ السحر في فم الميت، أو بيع "ماء الميت" أو أظافره… إلخ، بمعنى أوضح يتعامل الساحر مع "المغسلجي"، وقد تصل الزجاجة الصغيرة من "ماء الغسل" إلى ثلاثة ملايين دينار عراقي أو أقلّ أو أكثر.
"المغتسل" يساهم في علاج المسحورين
يضع أبو حيدر يده على "دكّة" المغتسل، ويقول: "هذه الدكّة تُساهم في علاج السحر، وهذه الطريقة متوارثة من أجدادنا، حيث نضع المسحورين ويتم غسلهم وتقليبهم يميناً وشمالاً، ورأسهم في اتجاه القِبلَة، ثم تكفينهم وهم على قيد الحياة ووضع مادة الكافور لهم، والعقيق تحت ألسنتهم. هذه الطقوس تعالج المسحور، وإن عادت له العوارض نطلب من المسحور أن ينام بين قبرين قديمين، وهناك العديد من الطرق المتنوعة لفكّ السحر، وذلك بسبب صعوبة الوصول إلى السحر الأسود لتفكيكه، بالإضافة إلى أن جنّ المقابر من أخطر أنواع الجن".
ويضيف أبو حيدر، أن بعض الشبان يأتون بأصدقائهم إلى مغتسلنا، وملامح الخوف والرعب واضحة على وجوههم، والبعض يرفض الدخول الى المغتسل والاقتراب من المقبرة لأنهم في حالة هلع من الروايات والأحاديث المتناقلة عن "الطنطل"، وهو "جنّ المقابر".
"زيت مخّ الميت"
وأثناء الحديث معه، تدخل زوجته لتشاركنا معلوماتها، وهي تعمل أيضاً في غسل الموتى من النساء، فتقول: "الكثير من الساحرات يبعثن لنا مراسيلهنّ، ويعرضن أن أتعاون معهنّ لأرشدهنّ إلى القبور الجديدة، خصوصاً قبور الأطفال".
وتضيف أن طقوس "استخراج مخّ الميت" من الأشياء المحبّبة لدى السحرة. وتتم هذه الطقوس في المقبرة ليلاً، حيث يتم نبش القبر واستخراج الميت وإشعال شمعة في أذنه اليمنى تساهم حرارتها في ذوبان مخّ الميت، ويتحوّل إلى زيت يخرج من الأذن اليسرى، ويتم جمعه في وعاء، ويقرأ الساحر التعويذات والطلاسم عليه. وتردف: "يتم استخدام هذا النوع من السحر لأنواع عديدة. مثلاً، تدهن به المرأة العضو الذكري لزوجها، وبعد استخدامه لا يستطيع الرجل أن يمارس الجنس مع امرأة غيرها، أو يُدهن هذا الزيت على نوع من أنواع الأحجار التي يرتديها الرجال كخواتم، فيكون ذا تأثير على النساء وحظّ وقوة فلا تستطيع الواحدة منهنّ مهما كانت قوتها أن تُقاومه.
وتؤكد بحسب خبرتها وتواجدها لمدة 40 عاماً في المقبرة، أنه "لا يوجد سحر أبيض أو أسود، أو مبرّر للعمل في هذا الطريق، فعمل السحر يضرّ بجميع الأطراف؛ الساحر ومن يعمل السحر والمسحور". وتشرح أن "غالبية السحرة يلقون حتفهم في أحداث غامضة، ومن يعمل السحر قد يصاب بالجنون على إثر خطأ في العزيمة السحرية أو يبيع نفسه للجان، وهناك مثل شعبي نردده في أوساطنا: 'انقلاب السحر على الساحر'".
من بين أدوات "العلوية" الأساسية للقيام بالسحر "ماء المغتسل"، وتزعم أنه ليمتلك الشخص قلب من أراده ويتحكّم به. وأيضاً "قطع صغيرة من لحم الميت" لتُطعمه المرأة للرجل من أجل أن يكون العضو الذكري مربوطاً لها ولا يستطيع الرجل ممارسة علاقة جنسية مع سواها
"التابعة"
وتضيف أم حيدر: "أثناء عملي في المغتسل، تراجعني كثير من النساء المصابات بـ'التابعة'، وهو نوع من أنواع الجن، يصيب جسد الإنسان ويمنعه عن ممارسة حياته الطبيعية فتحدث له أشياء من قبيل التأخّر في الزواج والإنجاب، وعسر الحياة، والإصابة تكون أسبابها متنوعةً، وقد يكون الكشف لدى السحرة أحدها، أو تحضير الجنّ، واستدعاؤه في الطلاسم من أجل منافع شخصية".
"تعالج" أم حيدر، "التابعة"، وبعض "الأسحار" في مغتسلها، وتقول: "لكل نوع من 'التابعة' علاج خاص به، وأكثر ما يؤرقني هو نفي النساء استخدامهنّ السحر، فكثيرات منهنّ يُقسمن بأنهنّ لم يقابلن ساحرةً في حياتهنّ، وبعد مرور الوقت حين يجدن أنفسهنّ في مأزق حقيقي وبعض أمورهنّ المصيرية متوقفة، يعترفن لي سرّاً بأنهنّ عملن مثلاً 'شعلةً' أو حملن 'العضو الأنثوي للضبعة'".
"الدفّانون" وحفّارو القبور أساس المشكلة؟
في مقبرة النجف العديد من المهن. واحدة منها تسمّى باللهجة الدارجة "حفّار القبور". يقسم أبو جاسم، ويعمل لدى أحد المكاتب للدفن، مشيراً بسبّابته إلى ضريح الإمام عليّ، الخليفة الرابع: "وحق هذا (أي عليّاً بن أبي طالب)، إن بعض الدفانين والمغسلجية، وحفّاري القبور، هم أساس البلاء ومساهمون مع السحرة في انتشار السحر الأسود".
يتساءل أبو جاسم: من أين يحصل السحرة على "ماء الغسل"، وبعض أجزاء الميت؟ وكيف يُدفن "العمل"؟ ثم يجيب موضحاً أن السحرة سيعجزون عن الحصول على أدواتهم دون تعاون أطراف عدة من العاملين في المقبرة معهم.
ويوضح: "مقبرة النجف مقسّمة إلى سراديب، وقبور محفورة. في العادة لا يستطيع 'حفّار القبور' أو 'الدفّان' أن يدفن العمل في السراديب لأن غالبيتها تعود ملكيتها إلى أهالي النجف، وذوو الميت يرافقون 'الدفّان' حتّى انتهاء عمله فهم يحرصون على أن يُدفن ميتهم من دون أن يُدفن أي سحر معه، وأهالي المحافظة لديهم معلومات كافية حول طرائق الدفن والسحر بحكم قربهم من المقبرة".
يضيف أبو جاسم: "مهنتنا دخل عليها الكثير من الأغراب وشوّهوا أهدافها الإنسانية، ذلك لأن أجور الحفر تتراوح بين 50 و100 ألف دينار عراقي، ودفن السحر مع الميت يصل إلى خمسة أضعاف هذا السعر".
"انتقموا منّي"... ومات
ويقصّ أبو جاسم: "زميل لي في العمل حذّرته مرات عديدة، وكان يدفن السحر مع الموتى أثناء الحفر، وكان مضطراً لأن ظروفه المادية متعسرة، والساحرة أغرته بمبالغ مالية"، وينقل عنه "أن الساحرة أخبرته بأن عمله معها ومساعدتها في دفن السحر مع الموتى له أجر عظيم، لأن هذه الأعمال هي أعمال رحمانية وليست سحريةً".
يضيف: "زميلي نزل كالعادة لحفر القبر وتهيئته قبل وصول الجنازة ودفن السحر، وبعد وصول الميت وإنزاله إلى مثواه الأخير، فتح زميلي الكفن عن وجه الميت، وإذ بالأخير يفتح عينيه وينظر إليه نظرةً حادّةً"، مردفاً "معتاد أن يفتح الميت عينيه في أثناء الدفن أو التغسيل وبدورنا نغلقها... لكن ما حدث مع زميلي أمر خارج عن المألوف". يقول أبو جاسم إن "الميت كان شيخاً كبيراً وملتحياً، قام بفتح عينيه مرةً أخرى، وشعر زميلي بصوت يهمس في أذنه 'راح انتقم منك'".
يسترسل أبو جاسم: "بعد أن خرج زميلي من القبر كان مرعوباً، خصوصاً أنّ مراسم دفن موتى المحافظات تكون في عتمة الليل. خرج من القبر وهو يرتعش ولم يُفصح عما حدث له كي لا يرعب أسرة المتوفى، وعاد إلى منزله وأسدل الستائر وأغلق الأبواب ولم يستطع أن يخلد إلى النوم فنظرة المتوفى علقت في ذاكرته وكانت تظهر كلما أغلق عينيه".
يشير أبو جاسم إلى أن زميله زاره في الصباح وأخبره بما حدث، فاصطحبه إلى سادة ومشايخ من النجف، وتعدّدت تفسيراتهم، فبعضهم قال إن ما تعرّض له زميله هو مسّ من جنّ السحر، وآخر قال إنها تخيّلات الضمير الحيّ، وبعد تضارب الآراء والتفسيرات بين الحقيقة والخيال ومحاولات العلاج الطبي، تلقّى أبو جاسم اتصالاً من زوجة زميله تبلغه فيه بأنه فارق الحياة إثر سكتة قلبية، وكانت آخر كلماته "انتقموا منّي"...
"شربت السحر الذي تم وضعه لي من قبل جارنا على إثر خلاف نشب بيننا، وبعد أن عالجته في المغتسل، واغتسلت على دكّة الميت مرتين، تقيّأت مادةً سوداء من معدتي، شعرت بعد ذلك بالارتياح".
أكبر مقبرة في العالم
تُعدّ مقبرة النجف أكبر مقبرة في العالم، وتضمّ حسب التقديرات ما يقارب ستة ملايين قبر وأُدرجت ضمن قائمة التراث العالمي. وتتوزع إلى أقسام، في مقدّمتها مكاتب للاستعلامات تسمّى "استعلامات دفن الموتى"، يترأس إدارة هذه المكاتب "الدفّان"، وهو الشخص الذي تتعاقد معه عائلة الميت ليرتب عملية الدفن، ووضع اسم الميت على قبره. مؤخراً تطور عملهم، وأصبحت لديهم أرقام وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي يعرضون عبرها أعمالهم والقبور المميزة بزخرفتها الإسلامية المتنوعة.
يبرّئ "الدفّان" عباس الصريفي، صاحب مكتب ومعمل لبناء القبور في النجف، نفسه وزملاءه من التورط في دفن السحر أو التعامل مع السحرة، ويقول: "من سابع المستحيلات أن أضع نفسي في هذا المأزق. هذا يعني أنني أبيع ديني ومذهبي وضميري لأنّ السحر يحوّل الحيّ إلى ميت".
ولا ينكر الصريفي أنه "تلقّيت الكثير من المكالمات الهاتفية هذه السنة، وأبلغني المتّصلون باستعدادهم لتحقيق رغباتي المادية إذا وافقت على التعامل معهم"، وقال إن كل من يطلب هذه الخدمات يؤكد له ولزملائه أن "الأعمال السحرية" من أجل "فعل الخير وإصلاح ذات البين وكل الحجج الواهية التي يستخدمها السحرة".
ويضيف: "أكثر طلبات السحرة هي عظام الميت القديمة، والتراب من تحت رأس الميت؛ بعد وضع الجنازة تؤخذ حفنة من هذا التراب وتوضع في إناء وتُسلّم للساحر".
ويسترسل الصريفي بأن السحرة والساحرات، أو من يرغب في عمل السحر، على استعداد لتقديم الغالي والنفيس من أجل الحصول على "لوازم" السحر حتّى أن بعض النساء مستعدات لعرض أنفسهنّ جنسياً لمن يوفر لهنّ هذه الطلبات.
ويؤكد الصرايفي، أن "الدخلاء" سبب إفساد مهنة "الدفانة"، هذه المهنة التي كانت في السابق تنحصر في عائلات نجفية معدودة وتنتقل بالوراثة، والحفّارون هم من ذوي قربى الدم وأصحاب الدفان. وباتت هذه المهنة تجذب كل من هبّ ودبّ، وقام بفتح مكتب كل من لم يجد عملاً، وتعامل مع المكاتب من أجل كسب الأموال خصوصاً أنه لا يمكن السيطرة على المقبرة بسبب مساحتها الشاسعة التي تبلغ 601.16 هكتاراً (6.01 كم²)، وتستقبل ملايين الزوّار سنوياً.
نساء وألعاب ووزّ وجانّ
ويتابع الصريفي حديثه موضحاً قدرة النساء على الدخول إلى المقبرة ودفن السحر من دون أن يستطيع أحد التعرّض لهنّ، ويعود السبب بحسب الصريفي إلى أن طابع مدينة النجف عشائري والتعرّض للنساء نتيجته تكون مواجهة مشكلات مع عشيرتهنّ. ويضيف: "نرصد الكثير من النساء في المقبرة في أوقات الليل، أو نشاهدهنّ يتجوّلن بين القبور أو يحاولن فتح بعض السراديب المغلقة لوضع السحر في خانات الميت الفارغة".
ويوضح مشهداً بات مألوفاً لهم في مقبرة النجف، "نعثر على قطع قماش أو ملابس داخلية مربوطة بخيوط تعددت طياتها، وعند فتح الخيوط نجد صور أطفال ونساء مكتوباً عليها مرض، موت، زهايمر، أو ألعاباً مغروسة في عيونها الإبر والدبابيس، وأحياناً يتم استخدام الحيوانات مثل الوزّة لوضع السحر بداخلها ويتم تخييط فمها… إلخ، فنقوم بفتح الخيوط ونصبّ عليها بعض قطرات البول" لإفساد "العمل".
ويروي تجربته الشخصية مع السحر: "شربت السحر الذي تم وضعه لي من قبل جارنا على إثر خلاف نشب بيننا، وبعد أن عالجته في المغتسل، واغتسلت على دكّة الميت مرتين، تقيّأت مادةً سوداء من معدتي، شعرت بعد ذلك بالارتياح".
عظمة كتف الأضحية
في عيد الأضحى، ومع كثرة الأضحيات، تغزو مواقع التواصل الاجتماعي، التنزيلات والعروض الترويجية لأعمال "السحر والشعوذة". ويقول القصاب أبو زينب (44 عاماً)، من النجف: "خلال أيام عيد الأضحى، يقصدني الرجال والنساء من أجل عظمة الكتف الخاصة بالأضاحي".
ويضيف أبو زينب، وهو يحدّ سكينه لتقطيع اللحم: "ورثت هذه المهنة عن والدي، وكان يردد في كل مرة يأتي فيها أحدهم في موسم الأضاحي لطلب عظمة الكتف، أنّ شرف عملي في هذه القطعة، ويطلب مني أن أتذكر أن تسليمها يجعلني سبباً في فصل مدير واستبداله بفاسد، أو طلاق امرأة، أو موت طفل".
يكمل أبو زينب حديثه، وينادي حفيده تمار، ويخرج عظمة الكتف ويطلب منه أن يقطعها إلى نصفين، ويردد بعض الكلمات همساً، ويقول: "هذا حفيدي أربّيه على أصول هذه الصنعة وأنصحه بألّا يتعاطف مع من يستدرج مشاعره، بحجة أنه يطلب عظمة الكتف من أجل عمل الخير. لا خير في السحر والشعوذة".
يشرح أبو زينب أن عظمة الكتف "يأخذها الساحر ويكتب عليها الطلاسم الخاصة بالسحر السفلي، ويصعب على الشيوخ والمعالجين فكّ هذه الطلاسم، ما يؤدي إلى موت الشخص المسحور ببطء". ويختم: "القصابون وحدهم يعرفون عظمة الكتف، لأن شرطها الأساسي أن تكون من أضحية، وهي صغيرة ومتداخلة بين عظام الذبيحة، فإن امتنع القصابون عن منحها للسحرة وطالبي السحر، لا يستطيع شخص عادي الوصول إليها لصعوبة تمييزها بين العظام".
مواقع التواصل الاجتماعي… للسحر والابتزاز
كان السحرة في السابق، يروّجون لعملهم عن طريق شبكات العلاقات أو الأقارب، أو المناسبات مثل الأعراس والمآتم، أو عن طريق محال الأعشاب لارتباط أصحابها بالسحرة. أما اليوم، فوَجد السحرة والمشعوذون في مواقع التواصل الاجتماعي باباً جديداً للدعاية لعملهم، فتظهر للجميع على فيسبوك إعلانات ترويجية ومنشورات حول "ربط الحبيب، إخضاع الشريك، وردّ المطلقة… إلخ".
تقول سارة جاسم، المختصة بمجال الرصد والدفاع عن الحالات المجتمعية: "نجد مؤسسات الشعوذة تنتشر كالوباء المعدي في المجتمع، ونرصد بين الحين والآخر نساء سلّّمن صور أجسادهنّ عن طريق الهاتف لساحر لا تربطهن به أي علاقة أو معرفة سوى ادّعائه أنه سوف يحقّق لهن أمنيةً عن طريق المارد السحري أو الجنّ، فيضعن مصائرهن بيده مع صور شبه عارية لهن. ولأن بعض السحرة كاذبون وهدفهم الابتزاز، يقومون بابتزازهن جنسياً أو مادياً، والرفض يكون مصيره نشر المقاطع والصور. ولأن طبيعة المجتمع العراقي قبليّة، فسوف تتعرّض الفتاة للمصير المعروف؛ الموت، أو تدفع سمعتها ثمناً لذلك".
تضيف الجاسم: "تكمن الحلول في إغلاق الصفحات التي تبتزّ النساء"، وهو ما تسعى إليه مؤسسة التقنية من أجل السلام.
من جهته، يؤكد مدير ومؤسس "التقنية من أجل السلام"، أوس السعدي، ارتفاع نسب رصد هذه الحالات، فخلال شهر واحد رصدت منصتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، خمس حالات، وفي تقديره أن عدد الحالات أكثر، ولكن غياب المعرفة وأحياناً الثقة بالمؤسسات التي يمكن اللجوء إليها يحول دون ذلك.
ويوضح السعدي: "يطلب منهن الساحر المبتزّ، أن يرسلوا صور طلسم على أجسادهن، أو أن يفتحوا الكاميرا حيث يتم التسجيل لهن وتبدأ رحلة المساومات حتّى أننا رصدنا حالةً وصل مبلغ الابتزاز فيها إلى عشرة ملايين دينار عراقي".
وبالعودة إلى سارة جاسم، تقول إن هناك حاجةً ماسةً إلى ملاحقة أصحاب "البيجات" (الصفحات)، ونصب الفخاخ لهم، ومعاقبتهم قانونياً.
سحر يتطلب ممارسات جنسيةً
ينفي "الشيخ" (45 عاماً) من النجف، استخدامه الابتزاز، ويقول: "أنا لست بحاجة إلى ابتزاز امرأة أو رجل، ولا إلى أن أطرق باب أحد. الجميع يقصدني راغباً في أعمالي ويؤمن بها"، لافتاً "بعض الأعمال من أجل تنفيذها وتثبيتها بحاجة إلى ممارسات جنسية، أو إلى كتابة بعض الطلاسم على جسد المرأة أو الرجل، وأتحدث عن نفسي، أنا لا أجبر أحداً على ذلك. أعرض عليهم متطلبات العمل وبدورهم يوافقون على ذلك".
ويضيف: "هذا العمل هو مصدر رزقي، ولا يوجد اختلاف بين الموظف وبين الشيخ صاحب الرقية الشرعية، كلانا نقبض الأموال ولا نجبر أحداً على طرق بابنا، خصوصاً أن بعض العائلات والشخصيات لا تستطيع أن تخطو خطوةً دون استشارتنا".
ويتابع: "الأمر يخضع لموافقة الزبون، بعض الشباب يرغبون في عقد طلسم خاص بجذب النساء، يتطلب العمل ممارسة الجنس مع امرأة تبلغ من العمر 70 عاماً، أو ممارسة الجنس في المقبرة. نعرض عليهم طلباتنا، وهم أحرار في قراراتهم، ولكل شيخ طريقة وطلاسم خاصه به يعتمد عليها وقد ورثها عن أجداده أو حصّلها من الكتب أو من خلال الدراسة".
وحمايةً سياسيةً…
يؤكد مصدر أمني رفض ذكر اسمه لأسباب متعلقة بوظيفته أن "غضّ النظر عن هؤلاء الدجالين أمر في غاية الخطورة، خصوصاً أن لديهم دعماً سياسياً ويصلون إلى مبتغاهم ويتوسعون في أعمالهم دون ملاحقة حقيقية، حتّى أننا نشاهد تصدّرهم برامج تلفزيونيةً والبث المباشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم يتباهون بأسحارهم ويتحدّون بعضهم البعض".
"أغلبية السياسيين العراقيين يستخدمون السحر، ويرتدون الخواتم والأحجار التي تؤثر في الأقدار، ويقومون بتكليف مرافقيهم بشكل دائم بالحصول على عظم الهدهد، حتّى بات هذا الطائر مهدداً بالانقراض في العراق بسبب الصيد الجائر، أو يكلفونهم بالحصول على عرق السواحل… هناك سحرةً يحميهم سياسيون بسيارات الدولة ودورياتها"
ويضيف أن الدافع الأبرز للسياسيين للّجوء إلى السحر، هو البقاء في مناصبهم وتوسيع نفوذهم وتصفية أعدائهم، منوّهاً "أغلبية السياسيين العراقيين يستخدمون السحر، ويرتدون الخواتم والأحجار التي تؤثر في الأقدار، ويقومون بتكليف مرافقيهم بشكل دائم بالحصول على عظم الهدهد، حتّى بات هذا الطائر مهدداً بالانقراض في العراق بسبب الصيد الجائر، أو يكلفونهم بالحصول على عرق السواحل (من الأحجار النادرة ويشبه من حيث الشكل العروق، وكلما ازدادت التواءاته ارتفع ثمنه، وهو مرادف للقوة والجاه والسلطة، ويقال في العراق لمن يغتني ويقوى: "عنده عرك السواحل")، ويشترى بأثمان باهظة".
يؤكد المصدر الأمني أن الموضوع لا يقتصر على السياسيين بل يشمل موظفي الدولة الكبار، أمثال مديري البنوك، وحتّى الموظفين العاديين الصغار يستخدمون السحر من أجل التأثير، ويشير إلى أن "هناك سحرةً تتم حمايتهم من قبل السياسيين بسيارات الدولة ودورياتها لمنع الاشتباك أو حلّ النزاعات".
وعن تجربته الشخصية، يقول: "أنا صاحب منصب، وجدت في مكتبي 'سحراً' هو عبارة عن أوراق بها كلمات غير مفهومة، وفيها دبابيس وسائل بنفسجي اللون له رائحة كريهة، وبعد فترة وتزامناً مع ارتفاع درجات الحرارة وبينما كنا نقوم بتنظيف خزّان الماء الموجود على سطح المكتب، وجدنا في داخله قفلاً نُحت عليه طلسم، وبجانبه لعبة تخترق جسدها الدبابيس. تابعت الموضوع بنفسي، وراجعت الكاميرات السرّية في المكتب، ووجدت أن أحد عناصر حماية شخصية سياسية مهمة هو من وضع هذه 'الأعمال'، وكان يطلب من مرافقي أن يصعد إلى سطح المكتب من أجل التدخين".
"بصراحة، الموضوع مهمَل جداً ولا رقابة قانونيةً حقيقيةً في ظل هذه الفوضى، وحين تذاع أخبار إلقاء القبض على أحد السحرة فهذا يعني أن هناك خلافاً بينه وبين سياسيّ معيّن، وإن تم حلّ الخلاف سيعود هذا الساحر لممارسة عمله"، يختم.
عقوبة الساحر ورأي القانون والمجتمع
لا يجرّم القانون العراقي السحر، ولا يحاسب الساحر، والسبب الرئيس هو عدم الاعتراف الرسمي بوجود السحر. لكن تُعدّ ممارسة السحر نوعاً من أنواع النصب بحسب المستشار القانوني صفاء اللامي إذ تتم محاسبة "الساحر" قانونياً لحصوله على الأموال بطريقة غير مشروعة، باعتبار أن مصادر الأموال الخداع والنصب وإلحاق الضرر بالآخرين، ويُحاسب على هذه الأعمال في المادة 456 من قانون العقوبات. يضيف اللامي أن هناك اهتماماً من المشرّعين العراقيين باستحداث قوانين جديدة في التشريعات الجديدة تجرّم السحرة والساحرات والمشعوذين/ ات.
قد نجد جميع المرافق في الحسينيات والجوامع والأمكنة الترفيهية مكتوباً على جدرانها "عطّل بطّل سحر فلانة بنت فلانة".
وترى الدكتورة والباحثة المجتمعية إخلاص جبرين، أن ممارسة السحر لا ترتبط "بالجهل"، بل هي سلوك متوارث بين بعض أفراد المجتمع، فالإنسان بطبيعته يتحرّك وفق رغباته للحصول على "الخير" أو إيقاع الأذى بغريمه. وتؤكد جبرين، عدم القدرة على ربط السحر بالجهل، لأن اللجوء إليه منتشر أيضاً لدى النخب المهمة في المجتمع، إذ يلجأ إليه الدكتور والمعلّم والإنسان البسيط، والسبب الرئيس في استمراره، نتائجه المذهلة ومصداقيته لدى شريحة من المجتمع.
وتضيف أن "السحر هو الطريقة التي تختصر الجهد والوقت وتحقق ملذّات الإنسان، وتجذب فكرة تواصل السحرة مع عالم الغيب ومعرفتهم بالمستقبل وتأثيرهم على الأحداث والمريدين. ووجود السحرة على مرّ الأزمنة وتطور مهاراتهم وتحديثهم لأعمالهم مع تطور الزمن، جعلنا نصل إلى اليوم الذي نرى فيه 'السحر الأونلاين' و'السحر الدليفري'".
وتدلّل جبرين على حديثها بالإشارة إلى "السحر الشعبي" أو "سحر الجدّات" الذي ينتقل بالوراثة، وتلجأ إليه النساء في ليالي زفافهنّ، أو عند تأخّر زواجهن حيث يقال إنها مصابة بـ"التابعة". وهناك وصفات لفك هذا السحر عن طريق كتابة اسم الشخص الذي يشكون أنه عمل السحر واسم والدته في المرافق العامة، وقد نجد جميع المرافق في الحسينيات والجوامع والأمكنة الترفيهية مكتوباً على جدرانها "عطّل بطّل سحر فلانة بنت فلانة".
معظم أبناء النجف يدركون كيف يحافظون على أنفسهم من السحر، فهم يحملون طلاسم الحماية، وبحسب أبي علي، "النصائح المتوارثة للشبان والشابات من جدّاتهم وأمهاتهم تحميهم من الأعمال، فهم يُلقّنون عدم تناول الطعام في مكان غير موثوق، والحفاظ على آثار البنات، مثل عدم نشر ملابسهنّ الداخلية في أماكن مفتوحة، وعدم ترك شعرات داخل أسنان فرشاة الشعر، والحفاظ على الصور الشخصية لئلا تُستخدم في السحر المدفون". هذه النصائح اعتادت على توجيهها الجدّات، كما اعتادت ربّات المنازل على استخدام "بطلة السحر"، ويتم شراؤها من دبّاغي الجلود بعد شهر رمضان مباشرةً، لأن السحرة لا يعملون السحر الأسود في رمضان، لعدم ثبات فعاليته.
إلى ذلك، تختتم إخلاص جبرين حديثها بأن "استخدام السحر هو حجب للعقل، والقضاء عليه يعود لقناعات الشخص ذاته ومدى تأثره بمحيطه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Nahidh Al-Rawi -
منذ 12 ساعةتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
Tester WhiteBeard -
منذ 14 ساعةkxtyqh
بلال -
منذ يومحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ 5 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.