بعد غياب دام أكثر من عامين عن الساحة السياسية، شغل مقتدى الصدر المشهد العراقي بقرار عودته إلى السياسية. وبرغم أن هذا القرار لم يُعلَن بشكل صريح، إلا أن تحركاته الأخيرة تشير بوضوح إلى استعداده لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة في 2025، تحت اسم "التيار الوطني الشيعي"، بدلاً من "التيار الصدري" الذي كان قد انسحب من البرلمان في حزيران/ يونيو عام 2022.
بدأ الصدر باستخدام هذه التسمية الجديدة منذ نيسان/ أبريل الماضي، وأثار تساؤلات حول طبيعة هذا التحول وأهدافه المستقبلية في تشكيل المشهد العراقي.
التيار الوطني الشيعي وجذور التغيير
فاز مقتدى الصدر، بالأغلبية النيابية في الانتخابات التشريعية التي جرت في عام 2021، حيث حصل على 73 مقعداً، وزاد عدد مقاعده بتشكيله تحالفاً تحت اسم "إنقاذ وطن"، مع كتلتي الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتحالف السيادة الذي ضمّ كتلاً سنّيةً بزعامة رئيس البرلمان الأسبق محمد الحلبوسي، وحليفه السابق خميس الخنجر.
الصدر الذي طالب بتشكيل حكومة أغلبية نيابية، اصطدم برغبات خصومه في الإطار التنسيقي الشيعي، وعارض تلك القوى بتفعيل "قانون الثلث المعطل"، وأفشل من خلاله جلسات انتخاب رئيسَي الوزراء والجمهورية، عبر امتناع نوابه عن التصويت، لكن الضغوط التي مورست ضده، وتحديداً بعد أن حصل خصومه على فتوى قانونية من المحكمة الاتحادية لنقض قانون الثلث المعطل، أفشلت مسعاه في تشكيل الحكومة.
بعد غياب دام أكثر من عامين عن الساحة السياسية، يعود مقتدى الصدر إلى السياسية عبر التيار الوطني الشيعي... كيف قد تؤثّر هذه العودة في المشهد السياسي العراقي؟ وما الذي يهدف إليه من التخلّي عن تسمية "التيار الصدري"؟
بعد هذه الضغوط المستمرة، وتحديداً في حزيران/ يونيو 2022، قرر الصدر سحب نوابه وتقديم استقالاتهم، معلناً انسحابه من العملية السياسية بالكامل. وفي تصريح له، قال إنه لن يشارك في أي انتخابات قادمة "حتى لا يشترك مع الساسة الفاسدين"، مشدداً على رفضه التعامل مع الأوساط السياسية التي يراها غير جديرة بالثقة، على حد تعبيره.
وبالفعل اعتكف هو وتياره عن المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات التي جرت في أواخر العام الماضي، ودعا أنصاره إلى عدم المشاركة فيها أيضاً. انسحابه أثار تكهنات واسعةً في الأوساط السياسية وقتها، واعتبر البعض أن هذا الانسحاب كان نتيجة اتفاق ضمني بين القوى السياسية التقليدية من أجل تعزيز موقع "الإطار التنسيقي"، بعد أن أدركت خسارته الانتخابية الحتمية.
تسمية جديدة وإستراتيجية متغيرة
يبدو أن مقتدى الصدر لم يتخلَّ عن حلمه بتشكيل حكومة الأغلبية، وأدرك أن انسحابه لم يُحدث فارقاً قوياً، بل زاد من نفوذ خصومه، ولكن لماذا قرر تغيير اسم تياره السابق؟
يعكس تغيير الاسم رغبةً في تجاوز إطار الدعم التقليدي للتيار الصدري، وتوسيع نطاق التأييد الشعبي. يؤكد مصدر مسؤول في مكتب التيار الصدري في ناحية الرصافة، أن هذا التغيير نابع من رغبة الصدر في كسر عزلته السياسية، وسعيه إلى توسيع قاعدته الشعبية، لذا قرر تغيير اسم التيار، دلالةً على انفتاحه، خاصةً بعد أن كسب تعاطف العديد من العراقيين مع تياره عقب انسحابه من العملية السياسية.
ويضيف في تصريحه لرصيف22، أن "تغيير التسمية يأتي ضمن إستراتيجية طويلة اتّبعها الصدر خلال الفترة الماضية، من أجل توسيع تأثيره داخل قواعده الشعبية".
وبرغم اعتزاله الرسمي، حافظ الصدر على تفاعله غير المباشر مع قاعدته الشعبية عبر لجان محلية ومبادرات اجتماعية، تقدّم له إحاطات أسبوعية عن أنشطتها المجتمعية، وتسعى غالباً إلى جسّ نبض الشارع تجاه خطواته، وكان آخر هذه الأنشطة دعوته للمشاركة في تجمعات رياضية قبل أداء الصلاة.
ومن الجدير بالذكر أن تغيير اسم التيار الصدري ليس بالأمر الجديد، ولم يسبق أن شارك الصدر في الانتخابات تحت مسمى ثابت، بل استخدم أسماء مختلفةً لتمثيله، مثل "سائرون" و"الأحرار" وغيرهما.
الصدر حصر اسم تياره بالشيعة، ولكن مقرّبين منه ينفون ذلك، على غرار منشور نشرته صفحة وزير القائد المقرّبة منه، إجابةً عن أحد الاستفسارات الموجهة إليها، وأكدت عدم حصر التيار الجديد بالشيعة.
يُعتقد أن هذه الخطوة قد تكون جزءاً من إستراتيجية الصدر، وإشارةً إلى أن دعمه قد تجاوز حدود تياره ومرجعيته الدينية، ليصبح منهجاً عراقياً شيعياً، وهو ما يندرج ضمن سيناريو مناكفته خصومه في الإطار التنسيقي الشيعي.
تحديات الخصوم ومناوراتهم
مصدر مطّلع داخل التيار الوطني الشيعي، يؤكد وجود مشاورات سرّية من أجل ترتيب أوراق المرحلة السياسية المقبلة، ويستدرك أن المشروع السياسي الجديد يعتزم تجنّب الأخطاء السابقة التي منعت تشكيلهم الحكومة.
ويفيد لرصيف22، أن التيار اجتمع مع شخصيات مرشحة للتحالف، من بينها نواب مستقلون وآخرون داخل الإطار التنسيقي نفسه.
مصدر مطّلع داخل التيار الوطني الشيعي، يؤكد لرصيف22 وجود مشاورات سرّية من أجل ترتيب أوراق المرحلة السياسية المقبلة، لافتاً إلى أن المشروع السياسي الجديد يعتزم تجنّب الأخطاء السابقة التي منعت تشكيلهم الحكومة. كما يفيد بأن التيار اجتمع مع شخصيات مرشحة للتحالف، من بينها نواب مستقلون وآخرون داخل الإطار التنسيقي نفسه
في المقابل، لن يقف الإطار التنسيقي ساكناً أمام ما يجري، فمثل هذه الخطوات تُعدّ تهديداً صريحاً لوجوده السياسي.
وكان رئيس الوزراء الأسبق، ورئيس ائتلاف دولة القانون، نوري المالكي، قد صرح قبيل الإعلان عن التيار الوطني الشيعي، عن قرب عودة الصدر إلى الساحة السياسية ومشاركته في الانتخابات البرلمانية القادمة.
صحيفة "الشرق الأوسط"، نقلت عن مصادر بأن المالكي حمّل رسائل عبر وسطاء سرّيين إلى الصدر، تدعوه للتفاهم حول عودته السياسية المرتقبة. ويحاول المالكي تدشين تحالف واسع يضم نخبةً من أبرز القوى السياسية، من أجل قطع الطريق أمام حليفه في الإطار التنسيقي، ورئيس الوزراء الحالي، محمد شياع السوداني. ولكن مثل هذه التحالفات مستبعد حالياً بسبب تاريخ الخصومة الذي يجمعه بالصدر.
يُذكر أن المالكي كان من أبرز داعمي السوداني، وقد دعم ترشحه لرئاسة الوزراء، ولكن استقلال الأخير في قراره السياسي، أجج نار الخصومة بينهما، والتي زادت تدريجياً وصولاً إلى اتهام السوداني بالوقوف خلف فضيحة "السوداني غيت"، وتنصّته على العديد من خصومه وحلفائه السياسيين عبر شبكة "محمد جوحي".
وبحسب المصادر داخل الإطار التنسيقي، فإن قضية التجسس (شبكة جوحي)، تتفاعل داخل أروقة الوسط السياسي في العراق على الرغم من محاولات عديدة لغلق الملف، وتشير معلومات متداولة إلى رفع 800 شكوى قضائية من شخصيات سياسية، من بينها المالكي، بخصوص تلك الشبكة.
تحالفات محتملة
ستكون عودة الصدر إلى الحياة السياسية، مقترنةً بحصوله على تحالفات قوية وحاسمة تتجاوز المكوّن الديني، وتمهد لتشكيله الحكومة. وتالياً، فإن من المرجح ابتعاده عن تحالفاته القديمة، والاتجاه نحو حلفاء جدد، وغالباً سيكونون من الوجوه الشبابية الجديدة على الساحة السياسية، أو من ضمن القواعد القريبة منه داخل الإطار التنسيقي الشيعي، مثل رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، الذي سبق أن نال تأييد الصدر إبان ترشحه لرئاسة الوزراء في عام 2014.
لطالما ارتبطت السياسة العراقية بأيديولوجيات وأجندات أجنبية، تسيطر كل من واشنطن وطهران على قواها السياسية البارزة، وهنا يُطرح السؤال حول موقف كلا الدولتين من هذه العودة، نظراً إلى التاريخ العنيف الذي يجمعهما بالصدر.
ولكن هل يتجه الصدر إلى التحالف مع رئيس الوزراء الحالي، محمد شياع السوداني، مستغلّاً خلاف الطرفين مع الإطار التنسيقي؟
مصدر داخل هيئة مستشاري رئاسة الوزراء، يستبعد هذا التحالف حالياً، إذ لا يزال السوداني حتى الآن جزءاً فاعلاً في الإطار التنسيقي، ولم يخرج عنه، ويستدرك أن التحالف قد يرى النور إذا استمر الإطار التنسيقي في محاربة رئيس الوزراء.
وكان مستشار رئيس الوزراء، إبراهيم الصميدعي، قد تحدث عن ذلك، وحدد تحالف الصدر والسوداني، باستمرار الضغط على السوداني في ملف تغيير قانون الانتخابات المرتقبة في العام القادم.
ويقود المالكي حملةً من أجل تغيير قانون الانتخابات ومنع ترشح السوداني إلى رئاسة الوزراء للمرة الثانية، بسبب الخلاف الحاصل بينهما.
وجدير بالذكر أن رئيس الوزراء يحظى بتأييد شعبي كبير، يزيد من حظوظه الانتخابية، وهو ما تحتاجه قوى الإطار التنسيقي، وفي الوقت نفسه قد يحتاج التيار الصدري إلى هذا التأييد من أجل تشكيل أغلبية برلمانية.
الموافقة الدولية... بين واشنطن وطهران
لطالما ارتبطت السياسة العراقية بأيديولوجيات وأجندات أجنبية، تسيطر كل من واشنطن وطهران على قواها السياسية البارزة، وهنا يُطرح السؤال حول موقف كلا الدولتين من هذه العودة، نظراً إلى التاريخ العنيف الذي يجمعهما بالصدر.
الباحث السياسي سلام العزاوي، يستبعد حصول الصدر على تأييد واشنطن، فهي برغم عدائها لقوى الإطار التنسيقي المقربة من طهران، تعتقد أن تقلبات الصدر قد تأتي بنتائج عكسية لها، وتتسبب في أضرار جسيمة لمصالحها في العراق، فيما هي على دراية واسعة بخطوات القوى والفصائل المقربة من طهران.
إيران من جهة أخرى، تمتلك علاقةً شائكةً مع الصدر، إذ يسود اعتقاد بأنها دعمت الصدر منذ بداية الاحتلال الأمريكي للبلاد، باعتباره أول مناورة منها ضد الأمريكيين في العراق، وخاض بدعم منها معارك شرسةً ضد القوات الأمريكية في محافظة النجف، ومدينة الصدر في بغداد.
ولكن خصومةً وقعت بينهما بعد تصاعد نفوذ باقي أذرعها السياسية، مثل حزبي الدعوة وبدر والمجلس الإسلامي الأعلى وعصائب أهل الحق لاحقاً، وتوطين قواعدها السياسية وقتها.
أما في الوقت الحالي، فقد تعود إلى دعم الصدر بغية قلب الطاولة على هذه الأذرع التي خلقت لنفسها استقلالاً نسبياً عن نفوذها خلال الفترة الماضية، خاصةً بعد تصاعد وتيرة صراعها مع إسرائيل. إذ يسود اعتقاد بأن الفصائل المسلحة التي انبثقت عن أذرع طهران السياسية في العراق، بدأت تتمرد على التوجيهات الإيرانية بخصوص شنّ أو وقف عملياتها العسكرية، مثل كتائب حزب الله.
وتشير مصادر متعددة إلى وجود محاولات لتقريب وجهات النظر بين فصائل المقاومة الإسلامية المقربة من طهران والتيار الصدري، يقودها رجل الدين وأحد مسؤولي حزب الله، الذي يحمل الجنسيتين العراقية واللبنانية، محمد كوثراني، ولكن هذه المحاولات لم تصل إلى نتائج ملموسة.
وكان مقرّ سرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر، قد تعرّض لهجوم بقاذفة RPG في ناحية كنعان في محافظة ديالى، في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، ويُعتقد بتورط فصيل مسلح في هذا الهجوم، فيما تؤكد مصادر داخلية اتهام كتائب حزب الله في هذا الهجوم، بسبب خلافات بينهما بخصوص السيطرة على المنطقة.
بين الإصلاح والأزمات
التكهن بخطوات الصدر التالية ليس يسيراً، بسبب تقلباته المستمرة، فلطالما عُرف عنه تراجعه عن مواقفه السابقة، وتأرجح علاقاته السياسية، إذ إن عودته إلى الحياة السياسية، ستُدرج ضمن تقلّب مواقفه بعد إعلان انسحابه من البرلمان، واعتزال الحياة السياسية بشكل نهائي.
التكهن بخطوات الصدر التالية ليس يسيراً، بسبب تقلباته المستمرة، فلطالما عُرف عنه تراجعه عن مواقفه السابقة، وتأرجح علاقاته السياسية، إذ إن عودته إلى الحياة السياسية، ستُدرج ضمن تقلّب مواقفه بعد إعلان انسحابه من البرلمان، واعتزال الحياة السياسية بشكل نهائي
ولكن هل ينجح الصدر في هذه العودة، خاصةً أنه أضاع أصوات المصوّتين له؟ يقول الباحث السياسين غانم العابد، إن القاعدة الجماهيرية الكبيرة التي يحظى بها الصدر داخل الشارع الشيعي بصورة خاصة، وفي العراق بصورة عامة، تؤهله للنجاح مرةً أخرى، ويعزز رأيه بعدد المقاعد التي حازها في الانتخابات الماضية، ويؤكد أنه لولا استقالة كتلته لما تمكّن الإطار التنسيقي من تشكيل حكومته، وتالياً يؤكد أن الصدر سيحوز على عدد المقاعد التي حازها خلال الانتخابات السابقة نفسه، أو أكثر، إذا قرر خوض الانتخابات.
ولكن هل سيتجاوز الصدر أو الإطار التنسيقي خياراتهما السياسية المستندة إلى أساس رفض كل منهما الآخر؟ الأرجح لا، فهما متمسكان بعدائهما لبعضهما البعض، وتالياً فإن تكرار سيناريوهات أزمة الانسداد السياسي سيكون بلا شك تحصيل حاصل، نظراً إلى توازن قواهما وقدرتهما على تشكيل تحالفات تمنع تشكيل حكومة أو انتخاب رئيس الوزراء من خارج تحالفاتهما.
كما أن التيار الجديد سيواجه صعوبةً في تخطّي ملفات الفساد التي طالت وزاراته سابقاً، بسبب غياب الوجوه القيادية الإصلاحية وعدم القدرة على ضمان نزاهة الوزراء الجُدد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 4 ساعاتأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...