شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الهجرة العكسية في تزايد... هل ترحل

الهجرة العكسية في تزايد... هل ترحل "العقول" وتخلو إسرائيل للمتطرّفين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مناحٍ حياتية عديدة شملتها تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، منها ارتفاع معدل الهجرة إلى الخارج في أوساط الإسرائيليين، الذين وجدوا أنفسهم بين نارين؛ نار الظروف الأمنية المضطربة، ونار ما ترتب عليها من أزمات اقتصادية تعمّقت مع استمرار الحرب وعدم وجود أفق لإنهائها، سيّما في غزّة.

تذكر صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، أن حوالي ثمانية آلاف إسرائيلي حصلوا على تأشيرات عمل في كندا خلال هذا العام، بنسبة أكثر من خمس مرات من عام 2023 بأكمله، وأوضحت أن "بعض الذين اتخذوا هذه الخطوة حزموا جميع ممتلكاتهم وودعوا كل من يعرفونهم"، في إشارة إلى هجرتهم الدائمة.

وبحسب تقرير صادر عن مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية ووصفته بـ"المثير للقلق"، فإن هناك تزايداً ملحوظاً في عدد الإسرائيليين الذين غادروا البلاد عام 2023 وانخفاضاً في عدد العائدين لإسرائيل، إذ غادر حوالي 55 ألفاً وثلاثمائة إسرائيلي لفترة طويلة من الوقت، فيما عاد 28 ألفاً وثمانمائة فقط، ما يشكل ميزان هجرة سلبي.

هناك تأثير كبير على إسرائيل جراء هذه الهجرة، خاصة أن جُل المهاجرين من الأدمغة وأبناء الطبقة المتوسطة، الذين يشكلون صلابة المجتمع

وأوضح التقرير أن معظم المهاجرين من الرجال، وأغلبهم عازبون، والفئة العمرية الرائدة هي من 25 حتى 44 عاماً.

ووفقاً لصحيفة "يسرائيل هيوم"، فإن مكتب الإحصاء المركزي يُعرّف "المهاجر لفترة طويلة" بأنه الشخص الذي لم يبق في إسرائيل لأكثر من 275 يوماً. وبالتالي تشير بيانات المكتب إلى أنه خلال عام 2023 ارتفع عدد الإسرائيليين الذين أقاموا في الخارج أكثر من هذه الفترة بنحو 46% مقارنة بعام 2022، وخلال الأشهر السبعة الأولى من 2024، قفز عدد المهاجرين طويلي الأمد بنسبة 58.9%.

قلق إسرائيلي من تسارع وتيرة الهجرة

"رغم أن هذه الأرقام صادرة عن جهة رسمية إسرائيلية، يجب النظر إليها بحذر شديد، لا سيما أنها مبينة على دراسات شاملة وليست دراسة خاصة بالهجرة العكسية. وبالتالي فقد تكون غير دقيقة ومنقوصة. لكنها في كل الأحوال تشير إلى ارتفاع نسبة الهجرة من إسرائيل، وإلى القلق الإسرائيلي المتصاعد تجاه أسبابها وتداعياتها"، تقول د. هنيدة غانم، رئيس المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) لرصيف22.

وبحسب غانم، فإنّ "هناك تقاطعاً بين عاملين رئيسين ساهما في تسريع وتيرة الهجرة العكسية، أولهما الضغط الخارجي المتمثل في استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، وعدم وجود أي مؤشرات أو أمل في القريب لحياة آمنة".

"وثانيهما يتمثل في الضغط الداخلي؛ المتمثل في الصراعات العميقة بين ما يمكن تسميته بـ"التيار الليبرالي" والتيار اليميني المتشدد الذي يفرض إيقاعه وتصوراته على المجتمع الإسرائيلي".

أياً كانت الأسباب، فإن نظرة المجتمع الإسرائيلي للمهاجرين إلى الخارج اختلفت عن الماضي. فتضيف غانم: "بعد قيام دولة إسرائيل، كان يُنظر إلى هذه الهجرة على أنها خيانة ووصمة عار، لأن المهاجر تخلى عن إسرائيل في هذه الفترة الفارقة، لكن الأمر اختلف الآن وبات يُنظر له كأمر عادي".

"لكن هذه النظرة لا تنفي أن هناك تأثيراً كبيراً على إسرائيل جراء هذه الهجرة، خاصة أن جُل المهاجرين من الأدمغة وأبناء الطبقة المتوسطة، الذين يشكلون صلابة المجتمع. ويترتّب على هجرتهم آثار قريبة وأخرى بعيدة المدى؛ منها تفكيك المجتمع، وتراجع اقتصادي. وعلى المدى البعيد، سيخلو المجتمع للمتطرفين المتشددين، ومن ثم ستتغير هويته ويصبح أكثر تطرفاً وعدوانية"، حسبما تذكر غانم.

"ولمواجهة تسارع وتيرة الهجرة العكسية، أعلنت إسرائيل عن برامج اقتصادية لتشجيع هجرة اليهود إليها من أوروبا ومناطق أخرى مختلفة، وفي نفس الوقت وقف الهجرة العكسية، لكن مع استمرار الضغط الخارجي المتمثل في الحرب، والضغط الداخلي الخاص بالصراع بين التيارين الليبرالي والمتشدد، تفقد هذه البرامج كثيراً من أهدافها"، تقول مضيفةً.

تهديد المشروع الاستيطاني

ولا تتوقف تداعيات الهجرة العكسية من إسرائيل عند هذا الحد، بل تمتد لتهديد مشروعها الاستيطاني. يشرح محمد سلامة عيد، في دراسته "جهود إسرائيل في قمع هجرة الأدمغة من إسرائيل وانعكاسها في الرواية العبرية المعاصرة"، أن "الحركة الصهيونية اعتمدت منذ بدايتها على إحلال المهاجرين اليهود مكان العرب في فلسطين، ومن ثم فإن بروز الهجرة العكسية وتخلي اليهود عن الحلم يعتبر كابوساً لإسرائيل".

ثمّ إنّ تزايد عدد المهاجرين من إسرائيل لأوروبا وأميركا، وبقاءهم فيها، يؤثر بالسلب على دور منظمات الهجرة والوكالة اليهودية في إقناع يهود دول العالم المختلفة بضرورة الهجرة واستثمار أموالهم في إسرائيل.

وبحسب عيد، "كذلك، تؤثر الهجرة العكسية، سلبيّاً، على جمع التبرعات التي تُرسل إلى إسرائيل من قبل المتبرعين اليهود أو الجمعيات اليهودية في الدول الأوروبية وأميركا، باعتبار أن الهدف من هذه التبرعات هو تعزيز الاستيطان، ومن ثم فإن تزايد أعداد المهاجرين يعني فشل إسرائيل في جذب وصهر اليهود في مجتمعها".

الهجرة العكسية بعد قيام دولة إسرائيل

والظاهر أن عدم رضا الكثير من الإسرائيليين عن الإقامة في إسرائيل والهجرة منها، ليس وليد الظروف الحالية، بل يمتد إلى الفترة القريبة من قيام الدولة، وذلك رغم الصعوبات التي كانت تضعها السلطات المسؤولة، كالوكالة اليهودية والكنيست وغيرهما لمنع ترك إسرائيل.

ويذكر الدكتور إلياس زين في كتابه "هجرة الأدمغة والهجرة المضادة من إسرائيل"، أن تيار الهجرة المعاكسة كان يزداد قوة واندفاعاً أثناء الأزمات الاقتصادية التي تمر بها إسرائيل، نظراً لتأثيرها على عملية استيعاب المهاجرين الجدد، وذلك من ناحية نقص المساكن المناسبة وارتفاع الإيجارات وتدني الرواتب وارتفاع الضرائب وانتشار البطالة.

بعد قيام دولة إسرائيل، كان يُنظر إلى هذه الهجرة على أنها خيانة ووصمة عار، لأن المهاجر تخلى عن إسرائيل في هذه الفترة الفارقة، لكن الأمر اختلف الآن وبات يُنظر له كأمر عادي

ففي عام 1953، وهي سنة ركود اقتصادية، سجل عدد المهاجرين من إسرائيل 13 ألفاً، وفي الوقت ذاته عانت إسرائيل من انخفاض أعداد القادمين إليها إلى 10,347 مهاجراً، مقارنة بـ 23,375 ألفاً في عام 1952، و17,471 ألفاً في عام 1954، بحسب زين.

وبين عامي 1961 و1965، تحسنت الحالة الاقتصادية نتيجة للتعويضات الألمانية الغربية، بل ووصلت إلى مرحلة الازدهار، وانعكس ذلك بوضوح في معدلات المهاجرين من إسرائيل بعد أن وصلت إلى رقم منخفض جداً عام 1957، هو 7.5 ألف، ثمّ قابل ذلك ارتفاع هائل في عدد المهاجرين إليها إلى 52,193 ألفاً.

ثمّ عاد وتصاعد عدد المهاجرين من إسرائيل وانخفض عدد القادمين إليها، في حرب حزيران/ يونيو 1967، أي "النكسة" واحتلال الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، ارتفع عدد المهاجرين إلى 9.5 ألف شخص مقارنة بـ7.5 ألف للعام 1964. كما ارتفع عدد المغادرين إسرائيل بشكل عام في 1967 إلى 108,564 ألفاً، بحسب زين.

بيد أن هناك مشاكل حياتية واجهت المهاجرين الجدد في إسرائيل وتسببت في اتخاذهم قراراً بالهجرة العكسية، منها مشكلة تعلم اللغة العبرية التي كانت تفرضها السلطات الإسرائيلية. ويذكر زين، أن كل اليهود كانوا لا يعرفون هذه اللغة، خاصة أولئك الذين يأتون من أميركا وإنجلترا، الأمر الذي فصلهم ليس فقط عن مجرى الحياة في إسرائيل، بل عن أولادهم الذين يتكلمون العبرية كلغة أولى.

هجرة اليهود الشرقيين

وتسببت التفرقة العنصرية في هجرة كثير من اليهود الشرقيين من إسرائيل خلال الفترة التي أعقبت قيام الدولة، خاصة أن يهود أوروبا الغربية كانوا ينظرون إليهم باحتقار.

وتذكر هلدا شعبان صايغ، في كتابها "التمييز ضد اليهود الشرقيين في إسرائيل"، أن 25% ممن تركوا إسرائيل بين 1949 و1955 ليقيموا في أوروبا كانوا من اليهود الشرقيين. وهذه النسبة ليست بقليلة إذا ما أُخذ في الاعتبار أمران؛ أولهما أن رجوع هؤلاء إلى بلدان الشرق الأوسط أصبح صعباً، وثانيهما أن الشرقيين عموماً لا تسهل عليهم الهجرة إلى بلدان غربية، نظراً لعدم معرفتهم لغات تلك البلدان وعاداتها ونظمها الاجتماعية. ومع ذلك، ترك يهود شرقيون كُثر إسرائيل، خاصة يهود شمالي أفريقيا الذين رجعوا بالفعل إلى تونس والمغرب.

وبحسب صايغ، تحايل اليهود الشرقيون على ترك إسرائيل بشتى الطرق. فمثلاً، استوطنت أسدود 350 عائلة جزائرية خلال أعوام 1960 حتى 1962، لكن لم يبق منها سوى 130 عائلة فقط، بعد أن تمكن معظمهم من الهجرة من إسرائيل بطريقة مشروعة، بحجة وجوب الذهاب إلى فرنسا لملاحقة معاملاتهم للحصول على تعويضات عن فقدان ممتلكاتهم والأضرار التي لحقت بهم من جراء الثورة الجزائرية.

"ومن الذين لاقوا معاملة سيئة في إسرائيل وأرادوا تركها، اليهود المهاجرون من الهند، حيث تعرضوا لصنوف من التفرقة العنصرية، وأُجبروا على القيام بأعمال متواضعة، وكانوا يعيشون مستويات حياتية متدنية، ويُعيرون بلون بشرتهم"، تقول صايغ.

"المقاومة الفلسطينية" وهجرة الإسرائيليين

خلال الفترة من 1990 إلى 2007، غادر إسرائيل نحو 254 ألف شخص ولم يعدوا إليها، وتراوح المعدل السنوي للمهاجرين خلال هذه الفترة بين 11 ألفاً و14 ألف إسرائيلي، لكن العدد ارتفع قليلاً إلى 16 ألفاً في عامي 1993 و1995 (أي عقب اتفاق أوسلو) حسبما يذكر هشام سليم المغاري، في دراسته "مستقبل الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة وتداعياتها على الصراع الديمغرافي"، والتي تضمنها كتاب "قضية فلسطين ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني".

واقترب عدد المهاجرين من 20 ألف إسرائيلي في الأعوام 2001 و2002 و2003، وهو ما يفسره المغاري بارتفاع وتيرة أعمال "المقاومة الفلسطينية خلال هذه الفترة، خاصة العمليات الاستشهاديّة داخل إسرائيل"، ما أسفر عن تدني الأمن الشخصي واضطرار البعض إلى الهجرة.

 أمر آخر ربّما يصبّ في جوهر مبدأ تشجيع الهجرة إلى إسرائيل، وهو الصراع الديمغرافيّ الأزليّ مع الفلسطينيين، والذي يتجلّى على امتداد وجود إسرائيل؛ منذ حلم هرتسل لدى تأسيس الدولة، الذي قال" "علينا تشجيع السكان العرب الفقراء على عبور الحدود"

أما انخفاض عدد المهاجرين إلى خارج إسرائيل في عام 1994 لنحو 10 آلاف إسرائيلي، "رغم تصاعد العمليات الاستشهادية في حينه"، فيُفسر بحدوث "توازن في مستوى الأمن الشخصي لدى الإسرائيليين، بعد تسلم السلطة الفلسطينية مهماتها وشروعها في ملاحقة منفذي العمليات العسكرية والمحرضين عليها".

إجراءات إسرائيل لإعادة المهاجرين

ويرى عيد، في دراسته آنفة الذكر، أن أكثر ما يقلق إسرائيل خلال العقود الثلاثة الماضية هو هجرة الأدمغة، لذا أطلقت حملات دعائية ومنح تعليمية لإعادة هؤلاء الأكاديميين، لكن دون جدوى.

ففي عام 2011 صدر قرار حكومي بتأسيس برنامج "جلب العقول إلى إسرائيل"، بهدف جذب العلماء الإسرائيليين من الخارج واستيعابهم في الأوساط الأكاديمية. ورغم تكلفة تمويل هذا البرنامج الذي وصل إلى 360 مليون دولار، إلا أن العدد الضئيل من العلماء الذين عادوا إلى إسرائيل سرعان ما عاد ثانية إلى أميركا، يذكر عيد.

وتزامن تأسيس هذا البرنامج مع انطلاق برنامج "الكسب العقلي الإسرائيلي" في عام 2013. وبحسب عيد، تم إغلاق البرنامجين خلال عامي 2016 و2017، وفتحت هيئة الابتكار الإسرائيلية برنامجاً للمساعدة في إعادة أصحاب التكنولوجيا العالية إلى إسرائيل بدلاً منهما.

كما أنشأت إسرائيل مراكز تهدف إلى التواصل المجتمعي بالعلماء الإسرائيليين في الخارج عبر منظمة "العلم في الخارج"، لتشجيع عودتهم إلى إسرائيل. ورغم ذلك كما يذكر عيد "لا يعود المهاجرون، وإن أبدى البعض منهم نية العودة، فلا يتحقق ذلك".

لكن أمراً آخر ربّما يصبّ في جوهر مبدأ تشجيع الهجرة إلى إسرائيل، وهو الصراع الديمغرافيّ الأزليّ مع الفلسطينيين، والذي يتجلّى على امتداد وجود إسرائيل؛ منذ حلم هرتسل لدى تأسيس الدولة، الذي قال" "علينا تشجيع السكان العرب الفقراء على عبور الحدود"، مروراً بضمان الحفاظ على استمرار نسبة 80% من اليهود و20% من العرب لعقود طويلة، وحتّى اللحظة الراهنة التي يدعو فيها بن غفير وسموتريتش إلى "تشجيع الهجرة الطوعيّة في غزة". و"جعل سكان قطاع غزّة أقل من نصف عددهم اليوم"، كما قال سموتريتش قبل أيام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image