لا أذكر متى انهمر المطر الأوّل الخريف الماضي، لطالما ترقّب عمّي موعده ليحدّد توقيت قطاف الزيتون. في دار عمّي كثير من الشجر وكثير من الثّمر، أحلاه هو الذي يقطفه بيديه لحفيدته الصغيرة المدلّلة، وأطيبه هو الذي يقطفانه معاً، بيدين اثنتين، تختصران صورة العمر بصلبه ولينه. يفرحان. فرحتهما بسلّة توتٍ صغيرة هي بساطة العيش في زمنٍ مرّ كثير العقد، خام ضحكتهما تذكير دائم أنّ السّعادة كانت تحيطنا بتفاصيل صغيرة، كانت تحيطنا بغيمة جميلة عابرة، بسماء صافية، بطفلتي تحتفل بالمطر الأوّل، ببستان الزّيتون.
توّسعت الحرب في لبنان في أيلول من هذا العام، فصار بستان الزيتون بعيداً ووحيداً. أغصان الشجر فيه، رمز السلام عند الإغريق واليونان، تحمل حبّاتها تحت سماء البقاع الخريفيّة الحزينة، حيث طار الحمام، فلا غصن ولا زيتون ولا سلام. شكل القهر يتمدّد، يقبع في أقفاص بلاستيكية فارغة، يُعصر، فتنتشر رائحة الدمار في كل مكان.
لا خوابي زيت في تشرين. خسارة. ربما سيحلّ الشّتاء وتتناثر حبّات الزّيتون، تزداد الحموضة فيها فتفسد، ثمّ تغطّيها حبّات الثلج فتستر عيبها الذ لم تكن تبغيه. ربما سيذوب الثّلج في موسم جديد، فتغرس جذوع الشجرة جذوراً جديدة كي تبقى وتستمر. بسيطة حياة الشّجر. تمتلك تلك الشجرة هالة قدسية خاصة في تاريخ البشرية، استثنائيتها عبّرت عنها منظمة الأونيسكو باتفاق مع المجلس الدولي للزيتون، بتحديد تاريخ 26 تشرين الثاني/نوفمبر، يوماً عالمياً للزيتون. يدل هذا الاتفاق على المعنى الذي تحمله الشجرة فيما يتعلق بالسلام والتناغم.
توّسعت الحرب في لبنان في أيلول من هذا العام، فصار بستان الزيتون بعيداً ووحيداً. أغصان الشجر فيه، رمز السلام عند الإغريق واليونان، تحمل حبّاتها تحت سماء البقاع الخريفيّة الحزينة، حيث طار الحمام، فلا غصن ولا زيتون ولا سلام
بعيداً عن المحافل الدوليّة والاتفاقات التي تتحدث عن سلام غير موجود، تعتبر شجرة الّزيتون بالنّسبة لي مسألة اهتمام وفضول. إعجابي بها يرتقي إلى أن أتأملها كأنها مثلنا، إنسان، كأنها شخصيّة فريدة أطمح أن أحذو حذوها، وأملك من مزاياها ما أتمنى أن أملك أو ما أتمنى أنّي لم أفقد.
منذ عام وأكثر، لم أرتو. درجة حرارة جسدي ثابتة، طبيعيّة، لكنّي أرتجف ولا أشعر بالدفء. أشعر أنّي أعيش خارج نفسي. ينظر إليّ وجهي في المرآة، لا يعرفني. أشعر أنني غيري. أنسى كلماتي أثناء الحديث أو قبل الحديث، وأحياناً لا أريد الحديث أصلاً. أخشى الكتابة، أخشى أن أفتح الباب لشعوري فيغرقني.
لمَ أكتب؟ لم أعبّر وأشارك مشاعر قد شاركها حتماً من يعيش المأساة نفسها، بأشكال ودرجات مختلفة، على مرّ عام أو أكثر؟ لا مشاعر جديدة. مشاعري قد سئمت منّي وسئمت منها. سئم منّي اكتئابي وسئمت منه، لكنه طريقتي لأقول فقط كم أنا حزينة، كم أنا بائسة ويائسة، كم أنا عاجزة ومتعبة.
تشتد تلك العاصفة في رأسي ثم تهدأ، ترتطم بطريق مسدود حفظت تفاصيله حتّى صرت أؤمن أنّ تلك الكآبة طريقتي وليست طريقي. أشتاق. أشياء كثيرة أشتاق إليها.
أأحكي عنها؟ لا أريد أن أحكي عنها، فأنا أريد بعد عام وأكثر أن أكتب نصّاً غير ممل، نصّاً يلفت من يعيش في كوكبي حيث الحرب، ومن يعيش في الكوكب الموازي حيث "لا حرب". ماذا لو كتبت أنّي أشتاق إلى صوتي يغنّي؟ رتيبة. رتيب غناء الشوق في النّصوص، رتيب الغناء بلا صوت. ماذا لو كتبت أنّي أشتاق إلى بريق عينيّ حين أضحك؟ أريد نصّاً يرممني لا نصّاً أغرق فيه، فأنا صرت أخشى حزني، أهرب منه.
فجأة، ابتلعت السّماء الطائرات الحربية، فعادت العصافير تحطّ على شجر الزّيتون. أطفأ المطر الأول النيران المشتعلة، فطغت رائحة التراب الحلوة على كل رائحة. حمل عمّي سلّة القصب وأمسك بيد حفيدته الصّغيرة التي تمشي برفقته كأنها ترقص. ملأوا سلالاً وسلالاً من الزّيتون. كان موسماً فيه من الخير الكثير. جمعوا أقفاصاً كبيرة ثقيلة، حبّاتها للنظر راحة. الزّيت في الخوابي صلاة، سكينة خشعت في كيان كل مزارع فاته موسم القطاف، فبكي عوضه فرحاً كأنه لم يبك مرة. ثمّ فجأة، اختفى الشريط الأحمر "العاجل" من على الشاشات، فصارت الأخبار بطيئة.
لم يحدث شيء من هذا كلّه. الحقيقة أنّ لا السّماء ابتعلت الطائرات الحربية ولا قطف عمّي بستان الزّيتون. إنّي أكذب فقط كي أكتب نصّاً غير ممل، لعلّ جذوري تنبت جذوعاً جديدة كي أستمر. الحقيقة، أنني أكذب أيضاً، فأنا لست شجرة زيتون
حينها، حقن الخوف نفسه حتّى الموت، فخرج النّاس إلى الطرقات، توّجهوا إلى أشغالهم فرحين بموته، أمّا أنا فزرت دار أهلي دون قلق مرهق، احتسينا كوباً من الشّاي بعد غداء لذيذ طهته أمّي.
عندما أشبع أفرح، أفكّر أكثر، أحكي أكثر، وأحلم. تزداد أخباري، تكثر مشاريعي. أفكّر أن أتعلّم الرّسم أو الغناء أو أي شيء لا يكرّر نفسه. أفرح بكل هذا. أغنّي، أسمع صوتي. يحلّ المساء، أشعر فيه بالتّعب الجميل بعد يوم طويل. أستلقي على الأرجوحة في باحة المنزل الخارجية، وأتأمل السّماء بنجومها دون خوف. أتأمل القمر المكتمل دون أن يثقب نوره خرافة سخيفة، فينزف فألاً سيئاً في أفكاري. أغفو بهناء، ثمّ أصحو على البعوض يلهو على وجنتي. أشتاق إلى الليالي التي كان فيها البعوض أكثر ما يؤرقني.
لم يحدث شيء من هذا كلّه. الحقيقة أنّ لا السّماء ابتعلت الطائرات الحربية ولا قطف عمّي بستان الزّيتون. الحقيقة أنّي لم أغفُ على الأرجوحة بهناء، ثمّ أنتقل إلى سريري بعد أداء بعوضة سمجة، وأنّي لست أدري كم من الليالي نحتاج كي نمنح سريراً ليس لنا، اسم "سريرنا". إنّي أكذب فقط كي أكتب نصّاً غير ممل، لعلّ جذوري تنبت جذوعاً جديدة كي أستمر. الحقيقة، أنني أكذب أيضاً، فأنا لست شجرة زيتون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 5 أيامأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 5 أيامحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم
Tester WhiteBeard -
منذ أسبوعtester.whitebeard@gmail.com