رولد دال (1990-1916) هو واحد من أهم رواة القصص في العالم. له العديد من الأعمال الأدبية التي تتنوع بين القصص القصيرة والروايات للأطفال والبالغين وقد ترجمت أعماله إلى أكثر من 15 لغة، وبيعت منها مئات ملايين النسخ حول العالم. بالإضافة الى ذلك، كان دال جاسوساً وطياراً مقاتلاً ومؤرخاً للشوكولاتة ومخترعاً طبياً حين دعته الحاجة. يتميز إرث رولد دال في العالم الأدبي بقدرته الابتكارية الفائقة والمميزة على مزج الفكاهة السوداء بنوع من الفكاهة الخفيفة والمرحة، مما خلق قصصاً لا تنسى يتردّد صداها عند كلّ من الأطفال والبالغين.
اشتهر دال بحكاياته الخيالية مثل "تشارلي ومصنع الشوكولاتة" و "ماتيلدا" و "The BFG"، كما صاغ روايات تستكشف موضوعات العدالة وقوة الخيال ومساندة البشر لبعضهم بعضاً. ترك أسلوبه المميّز في سرد القصص، الذي يتميز بشخصيات حيّة ومقعدّة وتقلّبات غير متوّقعة وساحرة، تأثيراً دائماً على أدب الأطفال، وألهم أجيالاً من القراء والكتّاب على حد سواء. وعلى الرغم من مواقفه وآرائه الشخصية التي لحقت بها تهمة معاداة السامية، لا تزال أعمال دال تأسر وتسلي الملايين حول العالم بصورة مباشرة وغير مباشرة في التلفزيون والسينما والمسرح، مما يعزز مكانته المستمرّة كواحد من أكثر المؤلفين المحبوبين في القرن العشرين.
على الرغم من مواقفه وآرائه الشخصية التي لحقت بها تهمة معاداة السامية، لا تزال أعمال دال تأسر وتسلي الملايين حول العالم بصورة مباشرة وغير مباشرة في التلفزيون والسينما والمسرح
بعد ثلاثين عاماً على وفاة الكاتب، أصدرت عائلة دال وشركة "رولد دال ستوري" منشوراً على موقعه اعتذرت فيه بشدة وبالنيابة عنه بشأن التعليقات المعادية للسامية التي أدلى بها رولد دال، معترفةً بالأذى الدائم والمفهوم الذي سببته تصريحات رولد دال المعادية للسامية. وقالت العائلة إن "هذه الملاحظات المتحيزة غير مفهومة بالنسبة لنا وتتناقض بشكل ملحوظ مع الرجل الذي عرفناه والقيم التي تكمن في قلب قصص رولد دال، والتي أثرت بشكل إيجابي على الشباب لأجيال. ويحدونا الأمل، في أفضل حالاته، كما في أسوأ حالاته، أن يساعد رولد دال في تذكيرنا بالأثر الدائم للكلمات".
ما خلفيات هذا الاعتذار؟
يسلّط مقال لمجلة تايم (TIME) الأمريكية الضوءَ على مجموعة من هذه التصريحات التي كان أدلى بها دال في مقابلات عدّة بالإضافة إلى مراجعته لكتاب تصويري عن حرب لبنان ظهر في طبعة آب/أغسطس 1983 من المجلّة البريطانية "Literary Review"، حيث كتب دال في إشارة إلى الشعب اليهودي: "لم يحدث من قبل في تاريخ الإنسان أن تحوّل عرق من الناس بهذه السرعة من ضحايا يرثى لهم إلى قتلة بربريين". كما أشار إلى "هؤلاء المصرفيين اليهود الأمريكيين الأقوياء" وأكدّ على "هيمنة المؤسسات المالية اليهودية العظيمة هناك على حكومة الولايات المتحدة". في وقت لاحق من العام نفسه وهذه المرة لمجلة "نيو ستيتسمان" البريطانية قال دال: "هناك سمة في الشخصية اليهودية تتصف بالعداء، ربما يكون نوعاً من عدم الكرم تجاه غير اليهود".
وقبل بضعة أشهر من وفاته في عام 1990، زعمت مجلّة تايم أنّ دال صرّح أنه معادٍ للسامية في مقابلة مع "الإندبندنت" بعد ادعائه أن غزو إسرائيل للبنان عام 1982 "تم تكميمه في الصحف كونها مملوكة من قبل اليهود في المقام الأول"، وقال: "أنا بالتأكيد معاد لإسرائيل وأصبحت معاديا للسامية بمقدار احتمال أن تجد شخصاً يهودياً في بلد آخر مثل إنكلترا داعماً شديداً للصهيونية. أعتقد أنهم يجب أن يروا كلا الجانبين. هي القصة القديمة نفسها: كلنا نعرف عن اليهود وبقية القصة. لا يوجد أي ناشرين غير يهود في أي مكان، إنهم يسيطرون على وسائل الإعلام - وهو أمر ذكي بالطبع - ولهذا السبب يتوّجب على رئيس الولايات المتحدة بيع كل هذه الأشياء لإسرائيل".
لا يبدو هذا الواقع الموصوف في حينها مختلفاً كثيراً عن واقعنا الحالي، بالأخص بالنسبة إلى تقييد الأصوات الاعلامية وترهيب الصحافة أو لجهة تواطؤ وسائل اعلامية عالمية تتبنّى وصف الحرب على لبنان بـ"العمليات المحدودة". حتى هذا الاقتباس الآتي والذي ورد في المراجعة نفسها، ينطبق على واقع الحرب المستمرة التي نعيشها في فلسطين وفي لبنان. عنها قال دال: "بعد واحد وأربعين عاماً بالضبط، في حزيران/يونيو 1982، كانت القوات الإسرائيلية تتدفق شمالاً مما كان يعرف بفلسطين إلى لبنان ، وبدأت المذابح الجماعية للسكان. لقد نزفت قلوبنا من أجل الرجال والنساء والأطفال اللبنانيين والفلسطينيين، وبدأنا جميعاً نكره الإسرائيليين".
في خضم الحرب الإسرائيلية المتجدّدة على غزة في العام الماضي والتي فضحت السردية الإسرائيلية في عدة أوجه مهمة اعتُقد باستحالة خرقها، لاح طيف دال وظلّه الملاحق له: معاداة السامية، حتى استدركت العائلة سريعاً الحرب الضروس التي كانت ستقوم على عائلة ومؤسسة الكاتب، فسجلّت اعتذاراً قصيراً ورد نصه أعلاه.
بعض الصحف العالمية رأت الاعتذار قاصراً، كون النص لم يرسل إلى المؤسسات والجمعيات اليهودية، بل تم نشره على الموقع الرسمي الخاص فحسب. برأيي يسقط الاعتذار حكماً لأنه لم يأتِ من صاحب النص. الكاتب ببساطة ترك لنا ما أراد أن يترك لنا، لذا سأترككم مع صفحات قليلة قمتُ بترجمتها من كتابه "الذهاب منفرداً"، وهو تكملة لسيرة رولد دال الذاتية ("الصبي") التي يروي فيها تجربته عندما كان شاباً بالغاً في شرق إفريقيا، حيث عمل في شركة شيل للنفط، ومن ثم خدم كطيار مقاتل في الحرب العالمية الثانية التي أخذته إلى أثيوبيا والسودان واليونان ومصر وفلسطين ورياق اللبنانية. في هذا القسم المُختار، يصف دال المحنّك العقليةَ الإسرائيلية والطموحات الاستعمارية الاستيطانية ببساطة لقاء ودردشة بين شخصين (المقاطع الآتية هي من كتاب دال "الذهاب منفرداً"، ومن ترجمة كاتبة المقال):
في أحد الصباحات في حيفا، استدعاني قائد السرب جانباً وأخبرني أنه تم تجهيز حقل هبوط صغير للأقمار الصناعية على بعد 30 ميلاً إلى الداخل خلف جبل الكرمل، حيث يمكن للسرب العمل من هناك في حالة تعرَّضَ مطارنا في حيفا للقصف. قال قائد السرب: "أريدك أن تطير إلى هناك وتلقي نظرة عليه. لا تهبط إلاّ إذا بدا لك الأمر آمناً. وإذا هبطت أريدك أن تصفه لي جيداً. الغرض من هذا الحقل هو أن يكون بمثابة مخبأ سري صغير بحيث لا تتمكن طائرات الـJu 88 من العثور علينا أبداً.
طرت بمفردي وفي غضون 10 دقائق اكتشفت شريطاً من الأرض الجافة كان قد دُحرج في وسط حقل كبير من الذرة الحلوة. وعلى أحد الجانبين كانت هناك مزرعة لأشجار التين، وكان بوسعي أن أرى عدة أكواخ خشبية بين الأشجار. هبطت، وتقدّمت بالطائرة وأوقفت المحرك.
وفجأة، اندفعت مجموعة من الأطفال من بين أشجار التين ومن بين الأكواخ. وحاصروا طائرتي الهوريكان (وهو جنس من الطائرات المقاتلة التي استخدمتها بريطانيا في الأعوام 1930-1940)، وراحوا يقفزون من شدّة الإثارة ويصيحون ويضحكون ويشيرون بأيديهم. لابد أن عددهم كان أربعين أو خمسين طفلاً. ثم خرج رجل طويل ملتحٍ، وسار بين الأطفال وأمرهم بالابتعاد عن الطائرة. فخرجتُ من قمرة القيادة، فتقدم الرجل وصافحني. وقال لي بلهجة ألمانية قوية: "مرحباً بكم في مستوطنتنا الصغيرة".
كنتُ قد رأيت عدداً لا بأس به من الألمان الناطقين باللغة الإنكليزية في دار السلام حتى صرتُ متمكناً من معرفة اللهجة جيداً. والآن، وبشكل طبيعي تماماً، أي شخص لديه حتى ولو عن بعد جزء من الهويّة الألمانية كان يدّق نواقيس الخطر عندي. علاوةً على ذلك، كان من المفترض أن يكون هذا المكان، وفقاً لقائد السرب، سرّاً، وها أنا تقابلني لجنة ترحيب مكونة من خمسين طفلاً صارخاً ورجلاً ضخماً ذي لحية سوداء يشبه النبي إشعياء ويتحدث بطريقة وكأنها محاكاة ساخرة لهتلر. بدأت أتساءل عما إذا كنت قد وصلت إلى المكان الصحيح.
"لم أكن أعتقد أن أحداً يعرف بهذا المكان"، قلت للرجل الملتحي.
ابتسم الرجل وقال: "لقد قطعنا الذرة بأنفسنا وتساعدنا في فردها كشريط. هذا هو حقل الذرة الخاص بنا". فسألته: "ولكن من أنتَ ومن هم كل هؤلاء الأطفال؟".
"نحن لاجئون يهود"، قال. "الأطفال كلّهم أيتام. هذا هو وطننا". كانت عينا الرجل لامعتين بشكل مذهل. بدت الحدقة السوداء في وسط كل منهما أكبر وأكثر سواداً وإشراقاً من أي حدقة عين رأيتها من قبل، وكانت القزحية المحيطة بكل حدقة زرقاء لامعة.
في حماسهم لرؤية طائرة مقاتلة حقيقية، بدأ الأطفال يضغطون بأجسادهم على الطائرة، وبمد أيديهم وتحريك المصاعد في ذيل الطائرة لأعلى ولأسفل. "لا، لا!" صرخت. "من فضلكم لا تفعلوا ذلك! من فضلكم ابتعدوا! قد تُتلفونها!" تحدثّ الرجل بحدّة إلى الأطفال باللغة الألمانية فتراجع الجميع إلى الوراء. فسألته: "لاجئون من أين؟ وكيف وصلتم إلى هنا؟"
"هل ترغب في تناول فنجان من القهوة؟" قال. "دعنا ندخل إلى كوخي". اختار ثلاثة من الأولاد الأكبر سناً وجعلهم يحرسون طائرة الهوريكان. "ستكون طائرتك آمنة تماماً الآن"، قال.
تبعته إلى كوخ خشبي صغير يقع بين أشجار التين. كانت هناك امرأة شابة ذات شعر داكن بالداخل، تحدّث الرجل معها باللغة الألمانية لكنه لم يقم بتعريفي عليها. سكبت المرأة بعض الماء من دلو في قدر وأشعلت موقد البارافين وبدأت في تسخين الماء للقهوة. جلسنا أنا والرجل على مقاعد عالية أمام طاولة عادية. كان هناك رغيف من الخبز يبدو وكأنه خُبز في البيت على الطاولة وسكين.
"يبدو أنك مندهش من وجودنا هنا"، قال الرجل.
"أنا مندهش"، قلت. "لم أتوقع أن أجد أحداً".
"نحن في كل مكان"، قال الرجل. "نحن في جميع أنحاء البلاد".
قلت: "سامحني، ولكنني لا أفهم. من تقصد بكلمة نحن؟".
"اللاجئون اليهود".
زعمت مجلّة تايم أنّ دال صرّح أنه معادٍ للسامية في مقابلة مع "الإندبندنت" حول غزو إسرائيل للبنان عام 1982.
لم أكن أعرف حقاً ما الذي كان يتحدث عنه. كنتُ قد أمضيت عامين مقيماً في شرق إفريقيا، وفي ذلك الوقت كانت المستعمرات البريطانية ضيقة الأفق ومعزولة. لم تذكر الصحيفة المحلية، التي كانت كل ما بوسعنا قراءته، أي شيء عن اضطهاد هتلر لليهود في عامَي 1938 و1939. ولم تكن لدي أدنى فكرة عن حدوث أعظم جريمة قتل جماعي في تاريخ العالم، في ألمانيا في تلك اللحظة.
سألته: "هل هذه أرضك؟".
"ليس بعد"، قال.
"هل تقصد أنك تأمل في شرائها؟".
نظر إليّ في صمت لبعض الوقت، ثم قال: "الأرض حالياً ملك مزارع فلسطيني، لكنه سمح لنا بالعيش هنا. كما سمح لنا باستخدام بعض الحقول حتى نتمكن من زراعة طعامنا".
فسألته: "إلى أين ستذهب من هنا؟ أنت وكل أيتامك؟".
"نحن لن نذهب إلى أي مكان"، قال وقد لاحت ابتسامته من بين شعيرات لحيته السوداء. "نحن باقون هنا".
"إذاً ستصبحون جميعاً فلسطينيين"، قلت. "أو ربما قد أصبحتم فلسطينيين بالفعل".
ابتسم مجدداً، على الأرجح بسبب سذاجة سؤالي.
"لا"، قال الرجل. "لا أظن أننا سنصبح فلسطينيين".
"ماذا ستفعل إذاً؟".
"أنت شاب يافع يقود الطائرات"، قال، "لا أتوقع منك أن تفهم مشاكلنا".
"أية مشاكل؟" سألته. وضعت الشابةُ كوبين من القهوة على الطاولة، بالإضافة إلى علبة من الحليب المكثف بها ثقبان في الأعلى. قام الرجل بتقطير بعض الحليب من العلبة في كوبي، وحرّكه لي بالملعقة الوحيدة. فعل الشيء نفسه بقهوته، ثم أخذ رشفة.
"لديك بلد لتعيش فيه، وهو يسمى إنكلترا"، قال. "لذلك ليس لديك أي مشاكل".
"لا مشاكل عندي!". صرخت. "إنكلترا تقاتل من أجل حياتها بمفردها ضد أوروبا بأكملها تقريباً! نحن نقاتل حتى فرنسيي فيشي، ولهذا السبب نحن في فلسطين الآن! أوه، لدينا مشاكل حقاً!". بدأتُ أنزعج وشعرتُ بالاستياء من هذا الرجل الجالس في بستان التين الخاص به والقائل إنني لم أواجه أي مشاكل عندما كنت أتعرض لإطلاق النار يومياً".
"لدي مشاكلي الخاصة"، قلت. "في محاولاتي للبقاء على قيد الحياة لا أكثر".
قال الرجل: "هذه مشكلة صغيرة جداً، أما مشكلتنا فهي أكبر بكثير".
لقد أذهلني ما قاله. لم يكن يبدو مهتماً على الإطلاق بالحرب التي كنا نخوضها. بدا وكأنه منغمس تماماً في شيء أسماه "مشكلته"، ولم أستطع رغم محاولاتي أن أفهم ذلك. فسألته: "ألا يهمك إن كنا قد هزمنا هتلر أم لا؟".
"بالطبع يهمّني الأمر. من الضروري هزيمة هتلر. لكن ذلك مسألة شهور وسنوات فقط. تاريخياً، ستكون معركة قصيرة جداً. كما أنها معركة إنكلترا. ليست معركتي. معركتي مستمرة منذ زمن المسيح".
"أنا لا أتفق معك على الإطلاق"، قلت. بدأت أتساءل عما إذا كان مجنوناً. بدا وكأنه يخوض حرباً خاصة به مختلفة تماماً عن حربنا.
لا أزال أحتفظ بصورة واضحة جداً للجزء الداخلي من ذلك الكوخ وللرجل الملتحي ذي العينين الناريتين اللامعتين الذي ظلّ يتحدّث معي بالألغاز. كان الرجل يقول: "نحن بحاجة إلى وطن لنا. حتى الزولو لديهم زولولاند، لكننا لا نملك شيئاً".
"هل تقصد أن اليهود ليس لديهم وطن؟".
"هذا بالضبط ما أعنيه"، قال. "لقد حان الوقت لأن يكون لدينا وطن".
"ولكن كيف لكم أن تحصلوا على دولة لأنفسكم؟"، سألته. "جميع البلدان غير شاغرة. النرويج ملك للنرويجيين، ونيكاراغوا ملك للنيكاراغويين. الأمر ينطبق على كل البلدان".
قال الرجل وهو يرتشف قهوته: "سنرى". كانت المرأة ذات الشعر الداكن تغسل بعض الأطباق في حوض من الماء على طاولة صغيرة أخرى وكانت تدير ظهرها لنا.
قلت بمرح: "يمكنكم الحصول على ألمانيا. عندما نهزم هتلر، ربما تمنحكم إنكلترا ألمانيا".
"نحن لا نريد ألمانيا"، قال الرجل.
"ما هو البلد الذي في بالك إذاً؟"، سألته، مظهراً قدراً أعظم من الجهل.
في خضم الحرب الإسرائيلية المتجدّدة على غزة في العام الماضي، لاح طيف دال وظلّه الملاحق له: معاداة السامية، حتى استدركت عائلته سريعاً الحرب الضروس التي كانت ستقوم عليها وعلى مؤسسته، فسجلّت اعتذاراً قصيراً
"إذا كنتَ تريد شيئاً بقوة،" قال، "وإذا كنتَ بحاجة إلى شيء بقوة، فسيمكنك دائماً الحصول عليه". وقف صافعاً ظهري بكفّه. "ما زلتَ بحاجة إلى تعلّم الكثير من الأمور"، قال، "لكنك فتى جيد. أنت تقاتل من أجل الحرية. وأنا مثلك".
قادني الرجل خارج الكوخ عبر بستان أشجار التين التي كانت مغطاة بثمار صغيرة غير ناضجة، وكان كل الأطفال ما زالوا متجمعين حول طائرتي الهوريكان، ينظرون إليها في دهشة مطلقة. كنتُ اشتريت كاميرا "زايس" أخرى في القاهرة لتستبدل الكاميرا التي فقدتها في اليونان. توقفتُ والتقطتُ صورة سريعة لبعض الأطفال حول الطائرة. شق الرجل الملتحي طريقه برفقٍ عبر حشد الصغار، وهو يعبث بشعر العديد منهم بطريقة محببة أثناء مروره، ويبتسم لهم جميعاً. ثم صافحني مرة أخرى وقال: "لا تظن أننا غير شاكرين لك. أنت تقوم بعمل جيد. أتمنى لك التوفيق".
"وأنت أيضاً"، قلت وصعدت إلى قمرة القيادة وشغلت المحرك. عدت إلى حيفا، وأبلغت عن سلامة شريط هبوط الطائرات وبأن هناك الكثير من الأطفال ليلعب معهم الطيارون إذا اضطررنا إلى الذهاب إلى هناك. بعد ثلاثة أيام، بدأت طائرات Ju 88 في قصف حيفا جدياً، لذا قمنا بتحليق طائراتنا الهوريكان إلى حقل الذرة، وتم نصب خيمة كبيرة في بستان التين لنعيش فيها. لم نكن هناك سوى لبضعة أيام وكان الأطفال على ما يرام، لكن الرجل الطويل الملتحي، عندما واجه الكثير منا، بدا وكأنه ينغلق تماماً، وأصبح بعيداً جداً. لم يتحدث معي بشكل حميمي مرة أخرى كما فعل في اجتماعنا الأول، ولم يكن لديه الكثير ليقوله لأي شخص آخر.
كان اسم تلك المستوطنة الصغيرة التي كان يعيش فيها الأيتام اليهود رامات داوود. وقد أوردت هذا الاسم في سجلي. لا أعلم ما إذا كان هناك أي شيء في الموقع اليوم أم لا. والاسم الوحيد القريب منه الذي أستطيع أن أجده في أطلسي هو رامات داوود، ولكنه ليس المكان نفسه إذ يقع بعيداً جداً لجهة الجنوب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
astor totor -
منذ 19 ساعةاسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ يومفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته