شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رحلتي مع المخدرات... على أنغام

رحلتي مع المخدرات... على أنغام "هذه ليلتي"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

السبت 19 نوفمبر 202201:59 م

البرطمان يعبق بالدخان الأزرق. يزيح خالي الغطاءَ من فوق البرطمان، ويستنشق الدخان. ثم يناوله لخالي الذي يفعل مثله، فيناوله لخالي الثالث.

إنه الحشيش الذي فتحت عيني عليه، يحتفي به رجال العائلة بمناسبة وغير مناسبة. كانت من عاداتهم الجلوس ليلاً بصالةِ جدّتي، والتناوب على الحكايات، وتدخين الحشيش مع أنغام أم كلثوم، تحديداً "هذه ليلتي".

لذا لم يكن تعاطي المخدرات بالأمر المشين في عائلتنا، بل العكس، ولعلكم تستغربون إن أخبرتكم أن أول زجاجة بيرة شربتها كانت في عامي الخامس تقريباً، تحت إغواء من أبي الذي عزم على الفوز برهان صديقه: 20 جنيهاً في مقابل الزجاجة كاملةً. وشربتُها.

بعدها لم أفضل الخمر. أصبحت هوائياً، فالبعض يفضل الكأسَ، والآخر "الجوينتَ"، ولكلِّ واحد أسبابه.

أما أسبابي أنا، فأعتقد أنني أعرفها جيداً، منذ المرة الأولى التي اختبرت فيها البانجو، وكان ذلك في تسعينيات القرن الماضي. حينها شنّ وزير الداخلية عاطف صدقي حملةً شرسة ضد الحشيش، حتى خلت البلادُ من سيجارة واحدة، وهو ما أكده في حوار له: "لو فيه سيجارة حشيش في البلد تبقى خارجة من مكتبي".

ولكن، صُناع الكيف لن يغلبوا،  فلجأوا إلى البانجو، وهو البديل الشعبي للماريجوانا، فانتشر وَراجَ نظراً لغياب الحشيش، ولقلّة سعر البانجو.

كانت المرة الأولى في الخامسة عشر تقريباً، وكنا قبلها ندخن السجائر، ولم نجرب المخدرات من قبل. كنا أربعة كلنا "عمرو"، وكانت ليلة رمضان الأولى، واتفقنا على "السحور" معاً فوق سطح أحد "العمروات".

وسط البط والإوز افترشنا الأرض لتحضير السحور، بينما عمرو أخرج البذر من علبة البانجو، ولف لنا سيجارةً، طالباً منا أن يأخذ كلّ واحد منا "نفساً" قبل الأكل، وذلك لفتح الشهية، موضحاً أنه كخبير لا يذوق الطعام قبل الاصطباحة.

لعلكم تستغربون إن أخبرتكم أن أول زجاجة بيرة شربتها كانت في عامي الخامس تقريباً، تحت إغواء من أبي الذي عزم على الفوز برهان صديقه: 20 جنيهاً في مقابل الزجاجة كاملةً. وشربتُها

ولكن هذا الخبير، وبعد منتصف السيجارة الثانية، قرر أنه سيضاجع البط؛ ليس أي بطة والسلام، بل تلك البطة ذات المؤخرة السمينة التي ابتسمت له.

حاولنا أن نفهمه أنه وهم، وحاولنا أن نُفهم البطةَ بأنه "مسطول"، وراح عمرو وهو يختلف عن عمرو السابق يتحدث للبطة، ويقنعها بالزواج منه.

هذه هي المخدرات؛ عبث، وعشق ممتد للعبث.

بعد المرة الأولى تلك، لم أترك هذه المتعة. الغريب، أنني حينها كنت في الصف الأول الثانوي، وكان شراء البانجو يحتاج للذهاب إلى "أبو أتاتة" بالجيزة، ولا بد أن نوفر 20 جنيهاً لشراء علبة كاملة وهو مبلغ ضخم لعلبة تساوي تقريباً 5 غرامات أو أكثر قليلاً.

فجاء الحل عند فراش المدرسة، وهو مسجل خطر استعانت به مدرسة إمبابة الثانوية بعد أن فقدت سيطرتها على الطلاب، فاضطرت إلى اللجوء لـ"ديشة". والحقّ أن ديشة مارس عمله بهمّةٍ، وتفانى  فيها، حتى أنه كان ينظم الطابور بـ"كزلك" (سكين طويل)، فيصبح النظام كما ينبغي وأكثر.

وديشة هذا كان يبيع لنا في الخفاء سجائرَ البانجو ملفوفةً. السيجارة بجنيه واحد. فمرّت الثلاثُ سنوات بالمدرسة في التعاطي الآمن، حيث الشراء السهل بعيداً عن الخطر و"التعسيفة". والتعسيفة في لغة الضريبة تعني المحاولات المضنية لشراء المخدر من جهة، ومن جهة أخرى مكان الضرب. "غرزة قمر" كان المكان الآمن للتدخين، يقع أمام المدرسة مباشرة، ويعرض أفلام البورنو، ويسمح بتدخين البانجو للطلبة.

للبانجو تأثير خاص على المتعاطين، فهو يجمع بين الهلاوس الخفيفة والمزاج العالي حدّ السعادة. وذلك التأثير المزدوج كان هو السبب الرئيسي في تعلقي به.

ولكن، أحياناً تكون تلك الهلاوس مصدراً للرعب، لا للمتعة. أذكر مثلاً أنني وقريب لي دخنّا ذات مرة البانجو. حينها كنا على الشاطئ، وقررنا أن ننزل إلى البحر. وبالفعل نزلنا، ومشينا حتى وصلت المياه لأكتافنا. هنا وقفت، ووقف.

كنت أنظر أمامي، فأجد الشاطئ والناس والشماسي. أنظر خلفي فأجد نفس المنظر: الشاطئ والناس والشماسي. فأصبتُ بالحيرة: "أخرج منين؟"؛ أي الطريقين يؤدي للغرق، وأيهما للنجاة؟

كنت أنظر أمامي، فأجد الشاطئ والناس والشماسي. أنظر خلفي فأجد نفس المنظر: الشاطئ والناس والشماسي. فأصبتُ بالحيرة: "أخرج منين؟"؛ أي الطريقين يؤدي للغرق، وأيهما للنجاة؟

نظرت إلى قريبي، فوجدته حائراً هو الآخر وهو يقول: "أنا شايف من هنا بحر ومن هنا بحر. هو الشط راح فين؟".

فقلت له على الفور: عندي.

تلك الحالة التي تقع بين الواقع والخيال كانت الحياة الممتعة البديلة عن واقع قد يكون سيئاً.

ولكن، مع الوقت اختفى البانجو، ليبدأ عهد الصيدلية: أبو صليبة، أبو شَرطة، الباركينول، الدوسكان، إلخ.

ولكنني لم أهتم بالكيمياء أبداً. إنه الارتباط الشَّرطي بالدخان، أو ربما الجينات؛ فالعِرق يمتدّ لسابع جد، وأنا كلّ أجدادي ارتبطوا بالدخان، وربما هم من اخترعوه!

مع بداية الألفية عاد الحشيش للظهور على الساحة مجدداً. أعتقد أن البداية كانت مع "البسكوتة"؛ تلك الحشيشة ذات الملمس الخشن وكأنها قطعة قطعة بسكوت بنية فعلاً، ولنكن أكثر دقة: بني فاتح. أتذكر هنا قول أحمد فؤاد نجم: "الحشيش أعظم نبات خلقه ربنا".

وهنا تحديداً لا بدّ أن أفرق بين الكيف والإدمان، بين المزاج والاحتياج. فالكيف مُحسن للحالة المزاجية، ودائماً ما يرتبط بالبهجة والفرح والغناء. فصاحب المزاج يحب الحياة، وربما سعيد في حياته، ويرغب في المزيد من السعادة. لذا كان الحشيش حافزاً على مسببات السعادة كالطعام والجنس والغناء، والعمل، إن تم استغلاله في ذلك. والأهم من ذلك يمكن الاستغناء عنه دون أعراض جانبية تُذكر. أما الإدمان فيمكن أن نميزه بالمغيبات، والمنشطات.

والمغيبات خرجت مع التطور من الصيدلية إلى الدخان. وهنا كانت الخدعة. ولكن، قبل تلك الخدعة، ظهر عقب ثورة يناير مخدر الفودو، وهو يشبه الماريجوانا، غير أنه أعنف بكثير. إنه الموت.

وهنا نعود إلى المزاج والادمان. فالأول يحب الحياة، ويرغب في الاستمتاع بكامل جوانبها، والثاني يعاني منها ومعها ويفضل الموت البطيء.

وجاء الفودو ليكون حلقة وسط، بين الحشيش، جلاب السعادة، والمغيبات بهلاوسِها. غير أن الفودو صاحب دماغ عاصف وعنيف تجعلكم تقفون مباشرة أمام الموت، وتنتصرون عليه أيضاً.

انتشر الفودو لسنوات بين الطبقة الثرية كعادة المخدرات الجديدة، ثم عرف طريقه نحو الطبقة الشعبية عبر منتج محلي الصنع يعرف بالإستروكس.

الإستروكس هو الخدعة الكبرى. دائماً ما أتخيل أن هناك، في مكان ما بالأعلى، مجموعةً نادرة من البشر تعمل على خلق المخدرات والتلاعب بها وبنا.

تلك الرحلة الطويلة في عالم المخدرات، والتي تجاوزت 25 عاماً، لم أخرج منها سوى بدرس واحد: ما يفسد عقلك يفسد حياتك 

هذا التخيل بدا قريباً من الحقيقة مع نبات الإستروكس، والذي لم يكن نباتاً أصلاً. إنه مادة الكتامين ممزوجة بالأسيتون (مزيل طلاء الأظافر)، مخلوطة بنبات البردقوش أو المرمرية. إذاً، فهي مادة كيميائية جاءت في قالب سيجارة لجذب الهوائيين من أمثالي. وهي الخدعة التي سقط فيها الكثير. فالنبات مفعوله قوي وفعال وسريع؛ ضربة في الدماغ تسري في الجسد، ثم هدوء يتبعه هوس بالمادة.

تتحولون فجأة إلى المحور الرئيسي لحياتكم. تسقطون في غفوة لغفوة، كأنكم في كابوس بلا نهاية. معه كدتُ أتحول إلى زومبي؛ جسد يتحرك بلا روح. ولكن، لحسن الحظ أن الخروج من تلك المادة سهل، ولا يحتاج غير عادات مختلفة، وإيجاد بدائل أكثر فائدة، لأنه في الحقيقة خدعة؛ خدعة كبرى.

أما المنشطات فقد تطورت هي الأخرى لتعرف أسواق المخدرات حديثاً ما يُعرف بالآيس، وهو حبيبيات تشبه حبات الملح، يتم تدخينها عن طريق بايب. والآيس منشط قوي يمكنه أن يبقيكم مستيقظين لعدة أيام، ثم يأتي الانهيار.

وهذا المخدر يعمل بطريقة عكسية عن منافسه الأشرس، البودر. وهو مادة كيميائية مجهولة المصدر تباع في أكياس صغيرة جداً. في الأصل تأتي الزجاجة من الصين، وهي مادة شفافة يتم خلطها باللبن البودر (نيدو)، أو بملح الصويا، وأحياناً أخرى بمزجها مع حبيبات عصير "تانك". هذه المادة اكتسحت الأسواق مؤخراً، نظراً لأن الهوس بها يفوق الهوس بالإستروكس.

في الحقيقة، يفوق الهوس بمادة البودر على أي شيء في الوجود. وهي مادة مُغيبة تُدخل صاحبها في غفوات قصيرة ومتتابعة أثناء التعاطي. وينتشر بيعها في دواليب، خاصة بصفط اللبن والشبكة وإمبابة والطريق الأبيض، إلخ.

تلك الرحلة الطويلة في عالم المخدرات، والتي تجاوزت 25 عاماً، لم أخرج منها سوى بدرس واحد: ما يفسد عقلك يفسد حياتك.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard