شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
حتّى

حتّى "تتصرّف" أمريكا... ما هي الدلالات السياسية والقانونية لمذكرتي توقيف نتنياهو وغالانت؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!
يمثّل إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكّرتَي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الجيش الإسرائيلي المُقال يوآف غالانت، خطوةً مُتقدمةً على طريق محاولة تحقيق العدالة الدولية، وفتح الباب لمحاسبة قادة وجنرالات إسرائيل أمام المحاكم الدولية، ووضع حدّ لسياسة الإفلات من العقاب التي تتمتع بها إسرائيل. وتكمن أهمية هذا القرار في ما يحمله من دلالات كبيرة، حيث يعكس المهنية العالية والشفافية اللتين تعاملت بهما المحكمة مع القضية، استناداً إلى النظام الأساسي لاتفاقية روما لعام 1998.

وعلى الرغم من أن القرار يشكّل تحوّلاً قانونياً كبيراً، إلا أنه يُبرز أيضاً الصراع السياسي المحيط بالعدالة الدولية؛ فمن جهة يعكس التزام المحكمة بمبادئ القانون الدولي، ومن جهة أخرى يُظهر التحديات التي تواجهها في تنفيذ قراراتها، في ظلّ الضغوط السياسية التي تمارسها القوى الكبرى عليها.

دلالات رمزية وقانونية تاريخية

يقول الباحث في الشأن الإسرائيلي عامر هزيم، إن "قرار المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت، يحمل أبعاداً تاريخيّةً مهمةً، قانونياً وسياسياً، ففي سياق الرمزية التاريخية، المحكمة التي أقيمت بعد الحرب العالمية الثانية لمحاكمة مجرمي الحرب والإبادة الجماعية لليهود والإنسانية من القادة الفاشيين والنازيين، والتي تعاونت معها الحركة الصهيونية في حينه، هي نفسها التي تحاكم قادة اليهودية الصهيونية بالتهمة نفسها؛ جرائم حرب وإبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني".

"الولايات المتحدة الأمريكية ليست عضواً في المحكمة، وسوف تمارس ضغوطاً كبيرةً على الدول الأعضاء لمنعها من تنفيذ هذا القرار"... أي دلالات قانونية وسياسية لقرار المحكمة الجنائية الدولية توقيف نتنياهو وغالانت بسبب جرائم إسرائيل في غزة؟

وبرأيه، "في البعد القانوني، يعني هذا القرار تفعيل مفهوم المساءلة للزعماء السياسيين والعسكريين في 124 دولةً، عن أفعالهم، ويعزز فكرة أن أي شخص يمكن أن يُحاسب أمام القانون الدولي بغض النظر عن منصبه أو دولته، وعلى صعيد البعد السياسي، فقد يؤدي هذا القرار إلى توتر كبير في العلاقات بين إسرائيل والدول الأعضاء في المحكمة، وهي موزعة على كل القارات".

في ظلّ هذا كله، تجدر الإشارة إلى أن "الولايات المتحدة الأمريكية ليست عضواً في المحكمة، وسوف تمارس ضغوطاً كبيرةً على الدول الأعضاء لمنعها من تنفيذ هذا القرار"، بحسب هزيم.

طلقة الأولى في المعركة القضائية ضد إسرائيل

يقول عاموس أرئيل، الكاتب في صحيفة "هآرتس" العبرية، إن "الحدث الأكثر دراماتيكيةً خلال هذا الأسبوع في دولة إسرائيل، هو إصدار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، مذكرتي توقيف بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الجيش الإسرائيلي المُقال يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إذ إنّ قرار المحكمة يشكّل فضيحةً لإسرائيل من جوانب عدة، لكن سلوك الدولة صعّب الجهود المبذولة لمنع صدور هذا القرار".

ويشير إلى أن أوامر الاعتقال الحالية "قد تكون مجرد الطلقة الأولى في هذه المعركة القضائية، ولا ينبغي تجاهل تأثير استمرار الحرب على إصدار تلك المذكرات، خاصةً الأحداث الأخيرة في شمال قطاع غزّة؛ إذ يشير القضاة صراحةً إلى أنّ الجرائم التي تستند إلى الأوامر لا تزال تحدث حتى اليوم، وربما ظنّوا أنهم بقرارهم يساعدون أيضاً في وقف كارثة إنسانية أخرى".

ويضيف الكاتب الإسرائيلي، أن "هناك تخوفاً لدى المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية ​​من أن يؤدي قرار المحكمة إلى إصدار مذكرات توقيف أخرى بحق قادة عسكريين وسياسيين آخرين في إسرائيل، وربما يشكل هذا القرار أيضاً افتتاحيةً لإعلان حظر الأسلحة من جانب بعض الدول الغربية لإسرائيل، والتي تكتفي حتى الآن بإجراءات أكثر اعتدالاً ضدّها، فضلاً عن إعطاء زخم للعديد من الشكاوى والتحقيقات الجنائية ضد جنود وقادة في الجيش الإسرائيلي. بالإضافة إلى ذلك، التركيز الآخر للتحقيق الجنائي في لاهاي، ينصبّ على ما يحدث في الضفة الغربية، مع التركيز على المستوطنات وعمليات الضمّ ومصادرة الأراضي".

الردّ الإسرائيلي على مذكرة التوقيف

تقول عبير بكر، المحامية والناشطة في مجال حقوق الإنسان، من عكا، لرصيف22: "يوجد فرق جوهري بين ما نسمعه كموقف يبدو وكأنه موحد إسرائيلياً ضد مذكرات التوقيف؛ فهناك إجماع عام في إسرائيل على أنّ هذه المذكرات تعني إنكار كل ما حدث في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وإلقاء اللوم على الضحية بدلاً من معاقبة المجرم، وبرغم كل التباينات الداخلية في إسرائيل بين الحكومة والمعارضة، إلا أننا رأينا بعد صدور هذه المذكرات كيف أن المشهد السياسي والحزبي موحّد، وجميعهم يقفون على قلب رجل واحد في مواجهة هذه المذكرات، ولكن في الواقع هم ليسوا موحّدين، ولكنهم مضطرون إلى أن يدينوا إصدار هذه المذكرات، وهم بذلك يخدمون نتنياهو في استمرار لعبته -لعبة تمثيل دور الضحية- والقول إن كل ما يفعله إنما يفعله من أجل تحرير الأسرى وحماية إسرائيل".

ويُلزم قرار المحكمة الدول الأعضاء بتنفيذ القرار في حال وطأت قدم أيّ منهما أراضي أو سماء تلك الدولة، ومن حق تلك الدول أن تمنع الطائرة التي تقلّ نتنياهو أو غالانت من التحليق في سمائها، انطلاقاً من مبدأ السيادة لتلك الدول.

وتضيف بكر: "من المعروف تاريخياً أن المحكمة الجنائية الدولية كانت تصدر مثل تلك المذكرات للدول الضعيفة، خاصةً الدول الإفريقية، ونسبتها نحو 90%، والآن نتنياهو ينضم إلى قائمة رؤساء الدول الذين صدرت بحقهم مذكرات اعتقال، مثل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي والرئيس السوداني سابقاً عمر البشير".

ومن هنا، فإن هذه المذكرات تصدر لأول مرة ضد رئيس وزراء دولة تعرّف نفسها بأنها "دولة ديمقراطية تتشارك مع دول العالم الحرّ في ما يُعرف بالقيم المشتركة"، بالإضافة إلى ذلك فإن هذه المذكرات تمثّل كسراً للعنجهية الإسرائيلية والتمرد على القانون الدولي، والتي بدأت منذ العام 2015 عندما انضمت السلطة الوطنية الفلسطينية إلى اتفاقية روما، حين تعاملت إسرائيل مع هذا الأمر بسخرية وباستهزاء.

"من المعروف تاريخياً أن المحكمة الجنائية الدولية كانت تصدر مثل تلك المذكرات للدول الضعيفة، خاصةً الدول الإفريقية، ونسبتها نحو 90%، والآن نتنياهو ينضم إلى قائمة رؤساء الدول الذين صدرت بحقهم مذكرات اعتقال، مثل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي والرئيس السوداني السابق عمر البشير"

لم يجد نتنياهو أفضل من وصف القرار بأنه "محاكمة درايفوس" الجديدة، في إشارة إلى الضابط اليهودي الفرنسي الذي جرت محاكمته عام 1859 لأنه يهودي، مشبّهاً ما يجري معه الآن بما جرى مع ذلك الضابط اليهودي الفرنسي، وهذا الوصف جاء لوصف قرار المحكمة بأنه لاسامٍ ومعادٍ لليهود ويوم أسود، ويعكس ذلك توجهات أساسية أولها تمثيل دور الضحية الذي تعتمده إسرائيل باستمرار في خطابها وعلاقتها مع العالم، وثانيها التبخيس والاستهتار والشعبويّة في استخدام ملاحقة اليهود في أوروبا على خلفيّة لاساميّة، والربط بين مذكّرتي الاعتقال ضدّ نتنياهو وغالانت وما حلّ باليهود في أوروبا إبّان الحرب العالمية الثانية.

قرار المحكمة وإجابتها

وتردف بكر: "اليوم، قامت هذه المحكمة بدورها بجدية ومهنية، ورفضت ادّعاء إسرائيل عدم اختصاصها، وأصدرت مذكرات الاعتقال، وأجابت بأن رأي إسرائيل غير مهم في اختصاص المحكمة. حاولت إسرائيل أن تقول إنه يجب إصدار مذكرة جديدة عما يحصل في غزّة، ولكن المحكمة أكدت أنها تحقق في كل الجرائم منذ الشكوى التي قُدّمت من قبل دولة فلسطين في العام 2021، ولذلك لا تستطيع إسرائيل الادّعاء بأن هذا الأمر هو وليد اللحظة أو ردة فعل دفاعية على أحداث تشرين الأول/ أكتوبر 2023".

وتشير إلى أن "التخوفات الإسرائيلية تتمثل في المقاطعة الاقتصادية وكل ما يتعلق بالمقاطعة، فمنذ سنوات أصبح هناك سند قانوني يشرعن هذه الحراكات، وليس فقط كموقف سياسي ضد سياسة الاحتلال، إذ أصبحت هناك مذكرة قانونية مع وصمة عار على الدولة، وهي ما سيعزز من هذا الحراك".

بالإضافة إلى ذلك، وعلى صعيد القطاع الخاص، الكثير من الشركات الأوروبية ملزمة وفق قوانينها بالتعامل فقط مع الجهات التي تحترم حقوق الإنسان ولديها معايير ديمقراطية وليبرالية، وتالياً فإن دولةً رئيس حكومتها يرفض تسليم نفسه، وهو مطلوب للعدالة، هي دولة تحت المساءلة.

مخاوف من محاولة الطعن في شرعية المحكمة

برأي بكر، "التخوف اليوم قد ينصبّ على شرعية المحكمة ومحاولة تصويرها بأنها تلاحق اليهود ولاسامية، مع قدوم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، الذي سوف يعزز ويقوي هذا التوجه ضد المحكمة، ولا عجب من استمرار محاولات استهداف الأشخاص والقضاة والمدّعي العام للمحكمة شخصياً، كما حصل مع المدعية العامة السابقة للمحكمة (بنسودا)، في العام 2021، عندما حاولت إسرائيل التجسس عليها والدخول إلى عالمها الشخصي والإساءة إليها حيث أُجبرت على الاستقالة حينها".

وبحسب ما تذكر، فإن "هناك سوابق لإسرائيل في هذا المجال، وقد يكون هناك تطور آخر يتمثّل في أن تقوم بعض الدول الموقعة على اتفاقية روما بسحب تواقيعها، والانسحاب من تلك المعاهدة تحت ضغوط أمريكية وإسرائيلية، ما قد يضعف المحكمة ويؤثر على عملها، بالإضافة إلى أن كل ما يتعلق بكلمة إبادة أو جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تدّعي إسرائيل بأنها حكر لها ولليهود، نتيجة ما تعرضوا له في الحرب العالمية الثانية، وتالياً هم فقط الضحايا".

ارتدادات القرار ومفاعيله فلسطينياً وإسرائيلياً

يمثل هذا القرار انتصاراً دبلوماسياً وسياسياً فلسطينياً وعربياً ودولياً، ومن البديهي أن تقوم إسرائيل بإجراءات انتقامية تجاه السلطة الفلسطينية من خلال تعميق إجراءات مصادرة الأموال الفلسطينية، وتشديد الخناق عليها سعياً إلى تقويضها وتسريع مشروع الاستيطان والضمّ، إذ يتجاوز هذا القرار الجانب القانوني والقضائي، ويشكل حدثاً سياسياً متدحرجاً بأبعاد فلسطينية وعربية ودولية، ومن شأنه أن يجعل طموحات إسرائيل في التطبيع وإقامة علاقات مع دول عربية أمراً صعباً، وسوف يشكل أداةً قانونيةً مهمةً لحركات التضامن والمنظمات الحقوقية المؤيدة للشعب الفلسطيني للضغط على حكومات دولها لوقف تزويد إسرائيل بالأسلحة والذخيرة. ومن جانب آخر، قد يشكل القرار نقطة انطلاق مهمةً لدعم جهود وقف حرب الإبادة على غزّة ولإنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية.

"التخوف اليوم قد ينصبّ على شرعية المحكمة ومحاولة تصويرها بأنها تلاحق اليهود ولاسامية، مع قدوم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، الذي سوف يعزز ويقوي هذا التوجه ضد المحكمة، ولا عجب من استمرار محاولات استهداف الأشخاص والقضاة والمدّعي العام للمحكمة شخصياً"

وبحسب حديث الباحث في الشأن الإسرائيلي محمد ضراغمة، لرصيف22، فإن هذا القرار "مهم من الناحية السياسية والقانونية، فدولة الاحتلال أصبحت على قناعة بأنها ليست فوق القانون، وأنه يوجد هناك من يحاسبها على الرغم من أن إمكانية تطبيق هذا القرار على بنيامين نتنياهو أمر في غاية الصعوبة، كذلك فإن دولة فلسطين كونها عضواً مراقباً في الأمم المتحدة وموقّعة على اتفاقية روما لعام 1998، بإمكانها أن تكمل في هذا المجال، خاصةً بعد قرار محكمة العدل الدولية حول عدم شرعية الاحتلال في الضفة الغربية".

ويضيف دراغمة: "الوزراء في حكومة نتنياهو، سموتريتش وبن غفير، سوف يدفعان باتجاه مزيد من الإجراءات والمضايقات ضد السلطة الفلسطينية، على اعتبار أن قرار محكمة الجنايات الدولية نتاج "الإرهاب السياسي" للسلطة الفلسطينية ضد دولة الاحتلال، وسيحقق نتنياهو مكاسب سياسيةً على الصعيد الداخلي الإسرائيلي، على اعتبار أنه يتعرض لحملة عالمية على خلفية الحرب على غزّة، وقد نشهد نقلةً نوعيةً لصالحة وصالح الليكود في استطلاعات الرأي العام".

على الصعيد الدولي، كثير من الدول الأعضاء في محكمة الجنايات الدولية ستعمل على تطبيق قرارات محكمة الجنايات الدولية، ولكن الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب، وتحت لغة التهديد والوعيد، والإغراءات في بعض الأحيان، سيكون لها تأثير على عدد ليس بقليل من الدول لدفعها لمحاولة التنصل من الالتزام بقرار محكمة الجنايات الدولية.

التوجه الأمريكي يُستشفّ من تصريح الرئيس جو بايدن، الذي اعتبر أن إصدار مذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت مثير للغضب، وانتقد المحكمة على مقارنتها تصرفات إسرائيل بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بتصرفات حماس، وقال: "بصرف النظر عما تعنيه المحكمة الجنائية الدولية، فإنه لا يوجد وجه للمقارنة بين إسرائيل وحماس، وسنقف بقوة إلى جانب إسرائيل ضد التهديدات كافة لها ولمواطنيها".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image