شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
في الغربة تصبح لنا أعمار جديدة... سأبلغ هذا العام السابعة

في الغربة تصبح لنا أعمار جديدة... سأبلغ هذا العام السابعة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الأحد 3 مارس 202403:09 م

في الثامن من حزيران/يونيو القادم أبلغ السابعة من العمر.

في الغربة يصبح لنا أعمار جديدة، قد لا نستخدمها علناً بالتعريف عن أنفسنا، غير أننا نراقب علاماتها كما ترقب أم حديثة مولودها الأول... صدمة خروجه إلى العالم الجديد، ساعات نومه غير المنتظمة، أولى خطواته، عثراته، وتطور مفرداته.

"متى تتوقف الغربة عن كونها غربة؟"

نبدأ من نقطة الصفر بينما لا أحد يجري إلينا كلّما بكينا ولا أيدٍ تسبق خطواتنا لتبعد عن طريقنا كلّ ما يمكن أن يتسبّب بسقوطنا أو جرحنا، فنصطدم بكلّ صغيرة وكبيرة حتى نتعلّم المهارات الكافية لإبعادها بأنفسنا.

اكتشفت موضوع الأعمار هذا مع بداية قدومي إلى ألمانيا، كانت تثيرني حينها اللقاءات بمن هم أكبر عمراً مني، من سبقوني بالقدوم إلى هذا البلد بسنوات قلّت أو كثرت. عدا عن العديد من التساؤلات الساذجة التي يمكن أن تراود أيّ طفل حول عالمه الجديد، كان السؤال الذي أهتم بطرحه أولاً: "متى تتوقف الغربة عن كونها غربة؟"، إحدى الإجابات التي أذكرها كانت: "وقت تصيري تفكري بينك وبين حالك بالألماني".

اليوم وبعد مرور سنوات أُشبع خلالها فضولي تجاه معظم التساؤلات، بقي السؤال الأهم دون إجابة مرضية وأصبح أكثر وضوحاً وإلحاحاً: "متى تصبح ألمانيا وطناً؟".

بدأتُ منذ مدة قصيرة بعمل جديد في بيئة مختلفة تماماً عن كلّ تجاربي في ألمانيا، علاقة لطيفة وتعاونية تجمع الموظفين على اختلاف مراتبهم وجنسياتهم.

قبل أيام عاد أحد الزملاء إلى العمل بعد إنهاء إجازة الأبوّة، تم تجهيز هدية صغيرة من الشركة للمولود الجديد والاتفاق بين الموظفين على ساعة محددة للاجتماع فيها في مكتبه، من الحماس الذي ظهر عليهم في الحديث عن اختيار الهدية وعن عودة صديقهم كنت انتظر لقاءً مليئاً بالعواطف والعناقات.

دخلنا مكتبه وشكّلنا زاوية قائمة مستندين إلى جدرانه، استلم زميلنا هديته بينما لازال يقف خلف مكتبه. شعرت ببعض الألفة من الأحاديث التي تبادلوها عن الطفل وعن تغيّر شكل الحياة بعد قدومه إلى العائلة مدركة أنه مهما كان الاختلاف كبيراً بيننا يبقى قدوم هذا الكائن الصغير الذي لا يعرف معنى للجنسية، حدثاً مسبباً للتغيرات الحياتية الجميلة، وباعثاً على خراب لطيف في نظام الحياة.

في الغربة أشعر أننا نأخذ مسافة عاطفية من كل شيء

عدت إلى مكتبي بعد هذه المباركة غير الحميمة وأنا أبتسم، وأتخيّل ما كان سيبدو عليه اللقاء مع هذا الصديق في مناسبات مشابهة في مجتمعاتنا.

في الغربة أشعر أننا نأخذ مسافة عاطفية من الأشياء، كالمسافة التي وقف عندها زملائي في العمل عن صديقهم.

مسافة تكاد تكون غير مرئية في البدايات مقارنة بـالصعوبات الأخرى التي يواجهها اللاجئ. في السنوات الأولى لا يتسّع وقت اللاجئ للتفكير بها، خاصّة مع عقدة النجاة التي تجعل من الرفاهية، التفكير بألمنا أمام ما يعيشه من يعيشون هناك. (أتفادى قول "من بقوا في الوطن" لأنني أجهل إن كانت سوريا اليوم تمثّل وطناً لأيّ سوري). تمر تلك السنوات بين محاولة تخطي الصدمات وإثبات القدرة على النجاح في بلد جديد، لأنفسنا قبل الغير.

حين نستعيد إدراكنا لأنفسنا دون اختصارها بتجربة الحرب، يصبح من الممكن التفكير بألمانيا كمكان مؤقت تنتهي إقامتنا فيه يوماً.

ومحاولة تقبّل حياة طبيعية لا يعتبر كلّ يوم فيها نجاة من أحد أشكال الموت. نصحوا بعد كلّ هذا الجري ولازالت تلك المسافة قائمة بيننا وبين كل ما يحيطنا في هذا البلد. حين نستعيد إدراكنا لأنفسنا دون اختصارها بتجربة الحرب، يصبح من الممكن التفكير بألمانيا كمكان مؤقت تنتهي إقامتنا فيه يوماً ما، بمحض إرادتنا.

كيف نختار غربتنا الجديدة؟

تبدو لي فكرة الانتقال من ألمانيا أمراً لا مفر منه إن أردت بناء علاقة جديدة مع الحياة. قد لا تكون ألمانيا بلداً سيئاً للاستقرار،لكن الظروف السيئة، هي التي قادتني إلى هنا وزادها شعور الغربة سوءاً.

بعد كلّ هذه السنوات أصبح بإمكاننا أن نحلم بغربة اختيارية، فقد نفكر بالانتقال إلى بلد أكثر دفئاً، أو بلد أكثر تقدّماً، أو بلد لا يقتطع هذا القدر من الضرائب من رواتبنا، أو أبسط الأحلام بلد يمكن أن نمارس فيه الحياة بلغتنا الأم. أعتقد أن علاقاتنا بالمدن تشبه العلاقات الإنسانية، هناك مدن تميل لها قلوبنا وتنسجم فيها أرواحنا، لذا علينا أن نختار مدننا بالطريقة التي نختار بها أصدقاءنا وشركاءنا، معتمدين على مشاعرنا كما على عقولنا.

من المحتمل ألّا نعيش شعور الانتماء إلى أيّ أرض بعد أن فقدناه تجاه سوريا، لكننا لن ندخلها كلاجئين بجوازات سورية وبذهنية الناجين من الموت.

من المضحك أن أفكر بحتميّة مغادرة ألمانيا، بشرط أن أحمل جوازها في حقيبتي أينما رحلت، كأنه المكافأة التي نحصل عليها في نهاية الطريق مقابل قدرتنا على الوقوف في هذا البلد. من حق السوري أن يحمل يوماً جوازاً يمنحه فرصاً أوسع لاختيار مستقبله، بدلاً من انتظار أن تتكرّم إحدى السفارات بفتح أبوابها له، وتعويضاً عن رحلات القوارب التي لجأ إليها الكثيرون هرباً من الدمار الذي أغرق به الرئيس بلادنا.

بعد كلّ هذه السنوات أصبح بإمكاننا أن نحلم بغربة اختيارية، فقد نفكر بالانتقال إلى بلد أكثر دفئاً، أو بلد أكثر تقدّماً، أو بلد لا يقتطع هذا القدر من الضرائب من رواتبنا

لا أذكر من ذاك الذي أجابني بأن اللغة يمكن أن تجعل من المكان وطناً، لكني إن صادفته يوماً سأخبره بأنها لن تكون أبداً كافية، وأن لا شيء يجعل من الغربة أقل قسوةً إلّا أن نصنع سوريا صغيرة فيها، بقوقعة من الأصدقاء أو بعائلة، نفكر ونتحدث معهم بالعربية.

كنت أحدّث صديقتي منذ مدّة عن فكرة مغادرة ألمانيا، وأخبرتها أني لن أفتقد من ألمانيا إلّا الصداقات الحقيقية التي بنيتها فيها، وطالبتها ممازحة: "مالي خلق دور عرفقة جداد، بدي إطلع من هون بس بدي كلكم تجوا معي".

الأصدقاء في الغربة هم أُنس منازلنا التي هجرناها في سوريا، هم السياج الحامي لذاكرة الوطن والحاضر المتبقّي منه. فإن حدث وغادرت ألمانيا يوماً أرجو أن: "كلكم تجوا معي".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بين دروب المنفى وذكريات الوطن

خلف كلّ مُهاجرٍ ولاجئ، حياة دُمِّرت وطموحاتٌ أصبحت ذكرياتٍ غابرةً، نُشرت في شتات الأرض قسراً. لكن لكلّ مهاجرٍ ولاجئ التمس السلامة في أرضٍ غريبة، الحقّ أيضاً في العيش بكرامةٍ بعد كلّ ما قاساه.

لذلك هنا، في رصيف22، نسعى إلى تسليط الضوء على نضالات المهاجرين/ ات واللاجئين/ ات والتنويه بحقوقهم/ نّ الإنسانية، فالتغاضي عن هذا الحق قد يؤدّي طرديّاً إلى مفاقمة أزمتهم والإمعان في نكبتهم. 

Website by WhiteBeard