شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
ما الذي تخبرنا به أشجار دمشق عن الحبّ والعزلة وطاعون النسيان؟

ما الذي تخبرنا به أشجار دمشق عن الحبّ والعزلة وطاعون النسيان؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 7 ديسمبر 202411:41 ص

تصميم حروفي لكلمة مجاز

في فيئي وتحت ناظريَّ تتحلّق الجموع بين الفينة والأخرى، يحفرون على جسدي أمانيهم وأحلامهم وأفكارهم ومشاعرهم الدفينة، ذكريات الطفولة والمراهقة أو عنفوان الشباب الجدير بالذكرى.

تتوالى الإملاءات على جسدي في تتابع محموم، بعضها مكرور لدرجة الابتذال؛ فإذا بي أكاد معها أن أميّز من ملامح صاحبها ما الذي ينوي حفره، وبعضها الآخر يدهشني بتفرّده وقدرته على جذب المارّة ليقرأوا ما دوّنه شخص لم يلتقوا به قطّ، على جسدٍ هرمٍ توالت عليه السنوات؛ فيفرحُ هذا الجسد بتفرّد غاب عنه منذ أمد بعيد، فيَتجدَّدُ شبابه وتُبْعَثُ في أغصانه الحياة لاستقبال المزيد.

هذا ما خُيّل إلي عندما كنت أتأمّل شجرة اختفت معالمها الأصلية تحت رزح من الكتابات والخطوط العشوائية في حديقة القشلة الدمشقية. تُرى، كم تَحمل هذه الأشجار من حكايات أهل الهامِش، من لصوص ومشرّدين ومنبوذين، ومذنبين ألحّ عليهم ذنبهم؛ فعرّوه أمام الملأ تعويضاً عن نقص جرّعتهم إيّاه سكاكين القهر لعقود؟

أرى الآن ما كُتِبَ أمامي، أتلمّسه بيدي، أكاد أشعر بعمقه، وأتساءل عن معنى أن تكون الأشجار دفاترَ مذكرات عمومية تضاف إلى صفحاتها في كل يوم صفحة جديدة، لشخص جديد، بخطٍّ مختلف، وطريقة تعبير مختلفة، في كل يوم قصّة لها شخوصها وأبطالها، تتبدّل عباراتهم بتبدّل أدوارهم، أغراب يحالون إلى صفٍّ ما، يتم زجّهم فيه غيابياً.

أشجار في حدائف دمشق

يكتبون ذكرياتهم وحكايات حياتهم مع ما يرافقها من رسومات صبيانية ومواهب مدفونة على جذع شجرة باهتمام وعناية فائقين، وكأنهم يريدون لها أن تكون امتداداً لجذور هذه الشجرة، راسخة متمثلة بها وثابتة بثباتها، فهم لا يريدون لها أن تكون عبارة هشّة على ورق حائط أو مقعد جلديّ في باص نقل عامّ مهدّدة بالزوال، أو بتورُّط يوميّ بمشهدية الحياة وحضور ما لا يليق بها، بل ذكرى معمِّرة بالقدر المثالي، جريئة ومتحدّية لا تختفي أو تزول حتى بزوال أصحابها.

يكتبون ذكرياتهم وحكايات حياتهم مع ما يرافقها من رسومات صبيانية ومواهب مدفونة على جذع شجرة باهتمام وعناية فائقين، وكأنهم يريدون لها أن تكون امتداداً لجذور هذه الشجرة... مجاز

ما يحدث من حولي

لا أعلم كيف بدأت تتسرَّب إليّ اللذّة من فكرة انتحال شخصية شجرة في حدائق دمشق يوماً بعد آخر، على مشارف الربوة تارةً، وفي وسط المدينة طوراً، في باب مصلّى في نهار، وعند باب شرقي في آخر، وفي الساحات والحدائق وعلى منصِّفات الطُرقات، أشجار أو مرايا مجتمعية مقعّرة ومذكّرات عمومية لا نهائية أقف عليها يومياً.

فتراني أصحو على مشهد لباعة الورد الجوري بباب توما، فأرى أولئك الصغار وهم يتقاسمون الورود والأدوار والمناطق إلى جانب التعب واليأس، يتفقون فيما بينهم على "تكتيكات جديدة" للاستفادة من المواقف في يوم عمل جديد، فما إن ينجح أحدهم ببيع وردةٍ لعابر سبيل، حتّى يهبّ زملاؤه ملاحقين ذلك العابر أملاً بصفقة مماثلة. أعمار تُهدرُ على قارعة الطريق، وجلّ غايتها أن تبيع كل ما لديها من الورود لتحصل على ما يمكن أن يسدّ الرمق في يوم متعب جديد؛ فتراهم، وبالكاد يبلغ أكبرهم 12 عاماً، يتعاضدون مستنهضين العزائم بكلمات تتجاوز أعمارهم بكثير، ليبدأوا انتشارهم الودود في الأزقة والحارات.

ولا أسدل ستارة اليوم إلا وقد استغرق الليل في ليله ليأتيني بروّاده الأوفياء، يبدو الأمر طبيعياً ومألوفاً ككلّ الليالي، إلى أن اكتشف وجود فصول إضافية للمسرحية، ملاحق تكتب في لحظة التمثيل، لتبدو للناظر إليها ارتجالاً مشوّقاً، يبعث في النفس شعور اللهاث بانتظار ما تخفيه الدقائق المقبلة من العرض.

"ليلي خارجي، بعد منتصف الليل" تكشف الستارة عن لقاء إيروسي يكاد ينتهي بطلاه من إتمام طقوس سرّهما الأقدس، كما لو أنهما يريدان أن يضغطا الكون كلّه في لحظة، كلّ المغامرات السابقة والمغامرات التي لن تأتي أبداً. أراها جولة مستعجلة عبر الحياة الجنسية لعاشقين برّيين، يريدان تكثيف كل ما فاتهما، وسيفوتهما، في ليلة واحدة، تَأوّه أخير وتُسْدَل الستارة من جديد، معلنةً نهاية المشهد الأخير لهذه الليلة.

أشجار في حدائف دمشق

في هجاء الهجرة ومقاومة طاعون النسيان

يتكشّف لي نهار جديد على واقع مكرور، وجوه ناعسة تطلّ صباحاً، تراودها التساؤلات ذاتها حول لا جدوى هذه الرتابة اليومية المقيتة، تنفض السؤال وتتابع سيرها الكسول إلى وظائفها السُخروية.

مجموعة من الطلبة يتدافعون لركوب حافلة يتسع ضيقها لكلّ صديق، ومجموعة أخرى تنطلق منها ضحكات مَرحة، وطلبة متفرّقون يجرّون أجسادهم جرّاً ليوم دراسي مملّ جديد. كلّ الأشياء تمضي اتجاه أن يكون يوماً عادياً جديداً، تتبدّى ساعات الظهيرة وتليها ساعات الغروب أوّل المساء، ثم يقطع حدّة هذه الرتابة صوت جهوري خرج من مجموعة من الشبّان الذي يسيرون باتجاهي من بعيد، يقترب الصوت أكثر فأكثر، ثم فجأة، يدٌ توضع بثبات عليّ يرافقها صوت أحدهم: "هون شو رأيكم؟ هي الشجرة ممتازة".

ترتسم على وجوه باقي المجموعة ابتسامات حزينة؛ كمن وجد ضالّته التي يودّ الآن ولو يَهرب منها، أشعر بشيء ما يحفر على جسدي، يسأل أحدهم عن التاريخ واليوم، ثم يتبعها صوت يتلو على الحفّار قوله: "هون آخر اجتماع إلنا، على هي الشجرة رح تنكتب ذكرى آخر يوم، يمكن نحن قرّرنا قرارات مختلفة انجبرنا عليها وما فينا ننكر أثرها علينا، كل واحد منّا رح يصير ببلد هلق، بس هي الشجرة وهاد المكان دليل على وجودنا مع بعض، يمكن ما قدرنا نضلّ مجتمعين على الواقع بس هون ما حدا رح يقدر يفرّقنا."

كلمات حُفرت بداخلي كالذكرى التي دوّنها شاب باختصار على جذعي، كانوا قد أنهوا ما جاؤوا لأجله وبدأت أصواتهم تتلاشى معلنة رحيلهم، رحلوا، ولكن أثرهم بقي. أرادوا لهذه الذكرى خلوداً ما، وللذاكرة الجمعية تمريناً أبدياً على تذكّر أسمائهم وتاريخ آخر لقاء جمعهم، كما لو أنهم يقولون: "كنّا هنا يوما ما، وكنّا معاً"، فيحمل بذلك قولهم هجاءً ضمنياً للهجرة التي نالت منهم، ولطاعون النسيان الذي يتهدّد أسماءهم.  

أشجار في حدائف دمشق

هروب وعزلة

"هروب" آخر الحلول المتاحة أمام من أدرك هشاشته القَدرية في مواجهة سموم الحياة، هشاشة تحيله إلى ما يشبه ورقة يابسة تسقط مع هبوب أوّل نسمة ريح، وتدوس عليها أقدام المارّين والأغراب، هذا ما قاله لي شاب في مقتبل العمر وهو ينقش هازئاً على جذعي تلك الكلمة المشؤومة: "هروب". خاطبني متابعاً أن هذا أقصى ما تصل إليه حدود قوّته؛ أن يجابه ضعفَه واهتراءه وجهاً لوجه معي، إذ لا يجرؤ على البوح بذلك لصديق أو مرآة؛ فمعاً يجهزان على ما تبقّى من كبريائه.

خلال قرن ونصف عشتهم على هذه الأرض، تعاقب على ظلالي أناس بعدد أوراقي المتساقطة، وكان أشدَّ طباع النفس البشرية وضوحاً لي، ميلها إلى التعرّي والكشف عن تصدّعاتها عند بقائها وحيدة معي، فلا شيء في الفضاء المحيط سوى أنا وهي بكل ما تحمله من قذارة وبؤس، ونقاء وسلام، ووضوح وتورية، تعود هذه المكاشفة لتتبدّى لي مع "حلا"، فتاة شابة وقفت ذات يوم في حيرة تعسة على بعد بضع خطوات مني، كمن يعيش حالة من الصراع الصامت بينه وبين نفسه، نصفها خائف يلحّ على المضي، والنصف الآخر يكابد رغبة بالبقاء والمواجهة، والتلاشي ربّما.

في خريفنا السوري لم يعد العري عري أوراق فحسب، بل صار انكشافاً على العري الاجتماعي والثقافي، انكشافاً على المذلّة واليأس والقنوط، وعلى قصص الحبّ الضبابي والجنس التعويضي... مجاز

وكما جرت العادة ربح النصف الآخر المعركة، فتقدّمت "حلا" نحوي، ووضعت صندوقاً من الطعام بجانبها كانت تحمله معها، وجلست بلا حراك، قليلاً فقط ثم التقطت صندوق الطعام وشرعت بالأكل، ما إن انتهت، حتى مسحت بقايا الطعام من على يدها وفمها، ودون أي تمهّل التفتت نحوي وخطّت بيدها شيء ما عليّ. نظرتْ لاسمها المكتوب لثوانٍ قليلة كالفنّان الذي يعاين تحفته بعد أن انتهى من نسجها، ثم أشاحت بنظرها ولملمت أغراضها وبقايا شتات نفسها، ورحلت.

أشجار في حدائف دمشق

أرى في "حلا" فتاة وحيدة وجائعة، لم ترغب بالجلوس على طاولة في مطعم ما لترى العزلة قابعة أمامها على الكرسي الفارغ المقابل لها، كرسي ترمقها بنظرات مباشرة، تراقب صمتها وارتباكها المضني الذي يعلن عن نفسه بقطرات متتابعة يندى بها جبينها، تكشف سرّها وضعفها واحتياجها.

في خريفنا السوري لم يعد العري عري أوراق فحسب، بل صار انكشافاً على العري الاجتماعي والثقافي، انكشافاً على المذلّة واليأس والقنوط، وعلى قصص الحبّ الضبابي والجنس التعويضي، ومرارة الفقدان المتواصلة ولذّة اللقاء العابرة، وعلى القوّة الكامنة في أشدّ لحظات الضعف.

ثمّة اتفاق ضمني بين أشخاص لا يعرفون بعضهم البعض، على صفات تحملها هذه الأشجار لتكون مؤهّلة لتحمّل ثقل هذا الانكشاف، صفات سلبت منها سمة الصلابة وحولتها لكيان طري عكس مظهرها الخارجي، فهي لا تحكم على الأمور من منظورنا البشري المحدود، ولا تصدر أحكاماً مسبقة، فتصبح بذلك منطقة الرّاحة ومساحة الأمان لذواتٍ حالت بينها فوضى الحياة، وجمعها جذع شجرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image