شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
عن فيروز، التي جمعت وفرّقت مصر وسوريا

عن فيروز، التي جمعت وفرّقت مصر وسوريا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 21 نوفمبر 201805:15 م
على عكس الكثيرين، لم أولد وفي فمي ملعقة ذهب، ولا في أذني نغمات فيروز، فغالبًا كانت تُسمع من منزلنا أصداء أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وعن الملعقة الذهب فقد اضطررت إلى ترك بلدتي بحثًا عن أي ملعقة، ليس شرطًا أن تكون ذهبًا، ارتحلت إلى العاصمة في رحلة خاضها معظم شباب مصر وفي الطريق لم أكن قد قابلت فيروز أيضًا، ولكن استعنت ببضع أغانٍ حديثة تُساعدني على اجتياز فترة السفر الطويل. من وظيفة إلى أخرى، وفي طرقات البحث عن الذات، كان أول عمل لي قبل الكتابة هو التسويق الإلكتروني. وهربًا من زحمة وسط القاهرة ذهبت إلى بعض الهدوء في أطرافها، واستلمت العمل، ومرت فترة ليست بالقليلة حتى ذلك الصباح، كان من الممكن أن يكون يومًا روتينيًا عاديًا، أتلمس فيه مرور الوقت من أجل العودة إلى منزلي الجديد وحيدًا كما اعتدت، ولكنه لم يكن كذلك، فحالما وصلت إلى مقر العمل وقبل أن أثبت حضوري في معركة ملاحقة ساعة التمام، كان لا بدّ أن أقف دون حركة وبلا أي كلمة حتى أنني امتلكت حينذاك قدرة خارقة مكنتني من حجب الأصوات من حولي تمامًا، لا أسمع شيئًا ولا أرى في هذا الصمت الذي لا يعكس ضجيج المكان إلا فتاة تجلس في توتر على أحد مقاعد الزبائن، سورية بلا شك، فملامح وجهها تؤكد ذلك، وحتى أنا القليل الحظ دائمًا وجدت من الحظ قطرة حينما علمت أنها سوف تعمل معنا بدءًا من اليوم، وهكذا لن أصبح مجبورًا على النهوض في الصباح التالي لكي أذهب إلى العمل، إذ سيكون من الآن واحدًا من أمتع الأوقات المنتظرة بالنسبة لي، وما علاقة ذلك بفيروز؟ هل ستأتي هي الأخرى للعمل معنا؟ حسنًا، ربما. بعد مقتطفات من الحديث عن الثورة وهروب الفتاة السورية من ويلات الحرب في بلدها بعد عام تقريبًا من المعاناة، انتهت الأسباب التي أستطيع أن اتخذها عذرًا من أجل الاستمرار في الحديث معها، ولأنها كانت تعمل في الطابق العلوي فالحديث ضمن مجريات العمل لم يكن أمرًا في المتناول، فقط تلك الفرص التي استغلها يوميًا وأنا أذهب إلى غرفتها لأعطيها إفطارها، بما أنني الشاب الوحيد في فترة الصباح بالعمل، وبطبيعة الحال كنت أنا من يقع عليه الاختيار من أجل شراء الإفطار لباقي الزملاء جميعًا، ولكنني لن أشتكي الآن بكل تأكيد، وظل الوضع هكذا حتى سمعت يومًا أثناء صعودي اليومي للطابق العلوي إحداهن تغني: "يا طير يا طاير على أطراف الدني لو فيك تحكي للحبايب شو بني يا طير"
كانت فيروز بالطبع، والتي قررت أن تستقبلني هي تلك المرة بدلًا من جميلتي في ذلك الصباح، أما عن جميلتي نفسها فربما قد شعرت بالغرابة حينما سألتها عن اسم الأغنية، فمن هذا المجنون الذي يبلغ من العمر 26 سنة ولا يعرف أغنية "يا طير"؟. في الحقيقة رأيت في عينيها نظرة كتلك التي نتابع بها أحد العجائز وهو يسأل عن طريقة تشغيل الهاتف مثلًا، ولكن لا يهم، فالآن سأتمكن من مشاهدة فتاتي الجميلة صباحًا وأقضي الليل استمع إلى فيروز الجميلة أيضًا، وتحديدًا "روح اسألن على اللي وليفو مش معو مجروح بجروح الهوى شو بينفعو"، على أمل لقاء الغد. في اليوم التالي، لم أعرف هل شفقت على جهلي الذي يرثى له أم أنها أخيرًا قد شعرت بشيء ما، ولكن زميلتي السورية فاجأتني بطلب حسابي على موقع التواصل الاجتماعي لترسل لي أغنية جديدة لفيروز، وهكذا سار الحال يومًا بعد يوم وأغنية بعد أغنية، حتى وصلنا إلى "نسم علينا الهوى"، وانصرف انتباهي عن سوريا قليلًا وأنا استمع إلى "يا هوى دخل الهوى خدني على بلادي"، وبدأ الحنين لبلدتي والأهل والأصدقاء يداعبني مجددًا، وكيف لا يحدث ذلك وفيروز تذكرني بقولها: "شو بنا شو بنا يا حبيبي شو بنا؟ كنت وكنا تضلو عنا وافترقنا شو بنا"

بدأت الغربة تلعب في عقلي وكذلك سوريا، وبمرور الوقت كان اعترافي لجميلتي تلك بأنني أحببتها، وهذا لم يكن ذا معنى، فبحلول هذا الوقت كانت هي تعلم ذلك تمامًا كما أعلم أنا أيضًا أنها تبادلني الشعور، حينذاك أصبح العمل لي ولها هو المكان الأجمل على الإطلاق، غريبان ووحيدان إلى درجة كبيرة، أتعلم من أجلها بعض الكلمات السورية وتطرب هي أذني بالأمثال المصرية التي بدأت في حفظها، وندرس معًا لتستطيع أن تكمل تعليمها في مصر وتحتمي بي أحيانًا من متاعب العمل وثقل الصراعات فيه مع الآخرين وأحتمي أنا بها دائمًا لتذكرني بأنه ما زالت في الحياة حلاوة باقية، والشيء بالشيء يذكر فهناك مثل يقول: "إيش يعمل الترقيع في التوب الدايب؟"، والثورتان في سوريا ومصر تركا لنا ثيابًا تحتاج للكثير من الترقيع بسبب الغلاء والبحث عن الاكتفاء لا غير، فثوبي أنا لم يسعفه الترقيع لسد حاجاتي الأساسية من التنقلات ووجبة واحدة هي وجبة إفطاري معها، وثوبها تشابك مع السلوك الشائك في رحلة عبورها إلى مصر بحثًا عن الأمن والاستقرار من أجل طفلها، وهنا ببساطة موجعة، نفترق.
على ما يبدو أن الأمر احتاج لثورة في تونس تتكرر في مصر وتمتد إلى ليبيا ومنها إلى سوريا، كي تلتقي عتمتي بالنور الذي هلّ من سوريا، وبطبيعة الحال أن أُصبح أحد عشاق هذا الكائن "فيروز".
على عكس الكثيرين لم أولد وفي فمي ملعقة ذهب ولا في أذني نغمات فيروز، فغالبًا كان منزلنا تُسمع منه أصداء أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وعن الملعقة الذهب فقد اضطررت إلى ترك بلدتي بحثًا عن أي ملعقة، ليس شرطًا أن تكون ذهبًا.
بدأت الغربة تلعب في عقلي وكذلك سوريا، وبمرور الوقت كان اعترافي لجميلتي تلك بأنني أحببتها، وهذا لم يكن ذا معنى، فبحلول هذا الوقت كانت هي تعلم ذلك تمامًا كما أعلم أنا أيضًا أنها تبادلني الشعور، حينذاك أصبح العمل لي ولها هو المكان الأجمل على الإطلاق،
لم يكن الفراق فقط شعوريًا، ولكن لظروف العمل السيئة تركت هي جنتنا وبعدها لم أحتمل أنا أيضًا وحشة المكان واستبدلته بمكان آخر وعدت إلى زحمة القاهرة، فلا شيء يهم الآن ولا حتى الهدوء، ومن فترة إلى أخرى كنت أطمئن عليها والعكس يحدث، ولأنها لم تعرف لغة أفضل من ذلك لتوصيل رسالة ما لي مع رفيقتنا الثالثة فيروز فقد أشارت لأن استمع إلى أغنية "غيرة": "يا ريت فيها تحملك وتروح عَ بلاد ما تقشع حدا فيها وهونيك شو بدا إشيا تبوح وشو عندها حكايات تحكيها بدا تقلك هون خليني عايشة ع الحب والألحان"
فتذكرت حديثنا المتكرر عن الذهاب معًا إلى كندا. هي قالت أنها المكان الأفضل لظروفنا وأنا لم أهتم بالتأكد من ذلك، إذ أعلم أنه المكان الأفضل طالما سوف تكون هناك فرصة أن نعود لجلسات التعليم خاصتنا ونكبر معًا على أنغام مفتاح باب قصتنا "فيروز"، طبعًا الأمر ليس سهلًا والأحلام لا تحدث بتلك الطريقة الطفولية ولكنه حديث لا يضر على كل حال. جميلتي تزوجت الآن، على الأقل أصبح لدى طفلها فرصة أو طفليها إذ رُزقت بطفلة تشبهها كثيرًا مع ذلك الأنف المميز، ولم أجد أنا إلا الاطمئنان عليها كالعادة من حين إلى آخر كما تفعل هي وبقي معي من أصداء فيروز: "بذكر آخر مرة شفتك سنتا بذكر وقتا آخر كلمة قلتا وما عدت شفتك وهلّق شفتك كيفك إنت ملّا إنت " لا أعلم هل يحق لي التجول بتلك الفكرة الخيالية التي تتردد داخل صدري بقوة حينما أصل إلى المقطع الأخير أم لا؟ "بترجع؟ ع راسي رغم العِيَل والناس إنتَ الأساسي وبحبك بالأساس بحبك إنت.. ملّا إنت"
ولكني أعلم بأنه على ما يبدو فالأمر احتاج لثورة في تونس تتكرر في مصر وتمتد إلى ليبيا ومنها إلى سوريا، كي تلتقي عتمتي بالنور الذي هلّ من سوريا، وبطبيعة الحال أن أُصبح أحد عشاق هذا الكائن، "فيروز"، الذي يفهمني حقًا ويسعفني دائمًا.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image