أُنجز هذا التقرير بدعم من أريج.
"مكانك المطبخ، ما تفعلينه مضيعة للوقت، ابحثي عن مهنة أخرى"، تعليق من بين عشرات التعليقات التي تتكرّر على لاعبة فريق المريخ السوداني، زهرة محمد أزرق، الشهيرة بـ "وارغو"، على صفحتها الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، خلال مشاركتها في أول دوري لكرة القدم للسيدات في السودان، في الـ30 من أيلول/ سبتمبر عام 2019.
تصف وارغو ما مرت به قائلةً: "كُنت محطّمة نفسياً، وشعرتُ برغبة جامحة في التوقف عن لعبة كرة القدم"، مضيفةً أنها حتّى تعرضت للتنمر وبعض التعليقات شبّهتها بالرجال.
أحبتْ وارغو كرة القدم منذ الطفولة، ولعبتها مع أقرانها بالحي الذي تسكن فيه وفي المدرسة أيضاً؛ لكنّها لم تجد الدعم الكافي من الأسرة. تقول وارغو إن بعض أقاربها كانوا يحرّضون والدتها من أجل منعها من ممارسة كرة القدم النسائية.
تعتقد وارغو أن غياب الدعم الأسري أثّر سلباً على حالتها النفسية وانعكس على مسيرتها كلاعبة كرة قدم. وتشير إلى أن بعض السودانيين يعتقدون أن النساء ليس لديهن حرية اختيار ما يردن فعله، ما جعلها تواجه تحدّيات كثيرة عبر حياتها اليومية، ومن خلال منصات التواصل الاجتماعي أيضاً.
تحدّيات في طريق كرة القدم النسائية
انطلقت أولى منافسات كرة القدم النسائية في السودان رسمياً في نهاية أيلول/ سبتمبر عام 2019، تحت مسمّى "دوري كرة القدم السوداني للسيدات". هذه الانطلاقة جاءت بعد رحلة من المنع؛ لعلّ من محطاتها الفارقة إعلان الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري عام 1983، "تطبيق الشريعة الإسلامية" في البلاد، وما ترتب عليه من تحريم لكرة القدم النسائية. لم يختلف الوضع كثيراً في عهد الرئيس السابق عمر البشير، الذي حكم السودان ثلاثين عاماً، أصدر خلالها مجمع الفقه الإسلامي فتوى تحريم تشكيل فرق نسائية؛ بحجة أنها لا تتناسب مع قيم وأعراف المجتمع السوداني.
تقول "جوجو" إن التعليقات السلبيّة، سواء عبر فيسبوك أو في هتافات الجمهور، تسبّبت في إنهاء مسيرة عدد من اللاعبات، مؤكدةً أنها تعرف لاعبة أجبرتها أسرتها على الزواج، وأخريات حُرمن من المشاركة في المنافسات بسبب رفض أُسرهن؛ بعد سماع التعليقات السلبيّة والمسيئة التي يتعرضن لها
أقيمت المباراة الافتتاحّية للبطولة على استاد الخرطوم الدولي، المعروف بـ"شيخ الاستادات"، والذي يتسع لـ23 ألف شخص، بين فريقي التحدّي والدفاع. شهدت المباراة حضور مسؤولين حكوميين، في مقدمتهم وزيرة الشباب والرياضة آنذاك ولاء البوشي، إلى جانب الحضور الجماهيري الكبير، وضمّت النسخة الأولى لدوري السيدات 21 فريقاً، تمّ تقسيمها إلى أربع مجموعات؛ هي الخرطوم، ود مدني والأبيض، وكادوقلي.
واعتمد نظام البطولة على تأهّل فريقين من كل مجموعة للدور ربع النهائي، على أن تُقسّم الأندية إلى مجموعتين مرة أخرى، ويتأهل المتصدّران إلى المباراة النهائية لتحديد البطل.
الاغتيال المعنوي
"جوجو"، وهي لاعبة كرة قدم، شاركت في منافسات دوري السيدات، تقول إن التعليقات السلبيّة، سواء كانت عبر منصة فيسبوك أو من خلال هتافات الجمهور، تسبّبت في إنهاء مسيرة عدد من اللاعبات. أضافت جوجو أنها تعرف لاعبة أجبرتها أسرتها على الزواج، وأخريات حُرمن من المشاركة في المنافسات بسبب رفض أُسرهن؛ بعد سماع التعليقات السلبيّة والمسيئة التي يتعرضن لها.
وتُشير جوجو إلى أن "التنمّر" كان يحدث حتّى من قبل المدربين، متسائلةً "كيف يمكنهن اللعب؟"، ومضيفةً "الكلمات القاسية والبذيئة والشتائم تؤثر في اللاعبات نفسياً، فينعكس ذلك عليهن في الشارع وفي الميدان وفي المنزل، وتجعلهن يشعرن بالكراهية تجاه المجتمع وكرة القدم".
على فيسبوك، رصدت معدة التقرير مئات التعليقات السلبيّة ضد لاعبات عقب كل مباراة. من أشهر التعليقات السلبيّة، وصف اللاعبات بـ"مطلوقة"، وتعني في العامية السودانية "المتمردة على الأسرة"، و"بايرة" وتعني المرأة التي تجاوزت العمر الاجتماعي المتعارف عليه للزواج، إضافةً إلى تعليقات أخرى تتضمّن إيحاءات جنسية، وتتهم اللاعبات بالرغبة في الزواج، ومحاولة لفت انتباه الرجال.
مجتمع تقليدي
تُقر نائبة رئيس قطاع المرأة في نادي الهلال السوداني، مشاعر عثمان، بوجود عنف ضد لاعبات كرة القدم في السودان. وتُرجع عثمان السبب لطبيعة المجتمع السوداني المحافظة: "90% من الأسر السودانية محافظة ولا تُحبّذ أو غير قادرة حتّى الآن على تقبل فكرة أن تُصبح ابنتهم لاعبة كرة قدم، لذلك تواجه اللاعبات انتقادات كبيرة، وتتعرض للهجوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي".
لم تكن عثمان بعيدة عن هذه المعاناة؛ فتقول إنها شهدت بنفسها تعرّض لاعبات للضغط والمنع من الأهل، خلال ترأّسها ملف تسجيل اللاعبات بالنادي: "واجهتُ تحدّيات جمّة في ما يتعلّق بتسجيل بعض اللاعبات؛ فمثلاً تجد اللاعبة لديها رغبة قوية في الانضمام للفريق، لكنّها دائماً ما تواجه بالرفض من قبل أحد أفراد الأسرة".
وترى عثمان أن التشدّد في الرفض من قبل الأسر، سببه الرئيسي الخوف من العنف الرقمي والانتقادات التي تتعرض لها اللاعبات من المجتمع؛ سواء كانت تعليقات مباشرة أو من خلف منصات التواصل الاجتماعي.
تشبيه بالرجال ودعوات متكرّرة للعودة إلى "المطبخ"… بعض السودانيين يعتقدون أن النساء ليس لديهن حرية اختيار ما يردن فعله ويرفضن احترافهن كرة القدم، ما يجعلهن يواجهن تحدّيات كثيرة في حياتهن اليومية، وعبر منصّات التواصل الاجتماعي أيضاً
أما الصحافية الرياضية هيام تاج السر، فتقول إن التنمّر ضد اللاعبات وصل حد الاستهزاء بمظهرهن الخارجي والتشكيك في أنوثتهن، مشيرةً إلى أن بعضهن تمكن من مجابهة هذه التحدّيات كافة، والمضي قدماً في مسيرتهن الرياضية.
"التعليقات السلبيّة ضد اللاعبات لم تقتصر على رواد منصات التواصل الاجتماعي فقط، وأخشى أنه يُمارَس من قبل إدارات بعض الأندية، التي لا ترى في مشاركة النساء ضرورة أو أهمية سوى تلبية مطالب المنظومة الدولية للعبة"، هذا ما تذهب إليه ممثّلة المرأة وعضوة مجلس إدارة نادي المريخ، سلمى سيد.
وتضيف سلمى: "من المؤسف أن اتحادات كرة القدم، ورئاسات الأندية، لم تضع خططاً مدروسة تقدم النموذج الأنثوي الفاعل والمشارك باسم الرياضة حتّى الآن".
التهديد بالقتل
لم تقتصر التعليقات على التنمّر والإساءات الشخصية، أو حتّى الإيحاءات الجنسية فقط، بل وصلت إلى تهديدات بالقتل لـ"طاقم تحكيم نسائي". الحكمة الدولية السودانية رماز عثمان، تقول إن تجربتها مختلفة في مجال كرة القدم النسائية؛ لأنها وجدت دعماً وتشجيعاً من جانب أسرتها، وتحديداً من والدها الحكم السابق وسكرتير الناشئين بنادي الأسرة في ولاية الخرطوم. لكنّ عثمان تؤكد أن رحلتها لم تخلُ من التنمّر والتعليقات السلبيّة ونظرات الاستهجان من المجتمع، الرافض لكل مَن تقتحم مجال كرة القدم من النساء.
ومن الناحية القانونية، تقول المحامية والناشطة الحقوقية نون كشكوش، إن هذا النوع من الجرائم محكوم بقانون جرائم المعلوماتية. وتضيف كشكوش أن لاعبات كرة القدم، اللائي تعرضن لتعليقات مسيئة، يحق لهن تسجيل بلاغات ضد الصفحات أو الأشخاص الذين يقودون حملات ضدهن؛ سواء كن مقيمات في المدن السودانية الآمنة حالياً، أو مقيمات خارج السودان لأن جرائم المعلوماتية يمكن أن يحكمها قانون البلد المقيمات فيه، أو أيّ بلد آخر يُقيم فيه الأشخاص المسؤولون عن هذه الصفحات.
وتؤكد كشكوش عدم وجود أيّ نص في القانون السوداني يمنع أو يُجرّم لعب أو احتراف النساء لكرة القدم.
وتنص الفقرة السابعة عشرة بالفصل الرابع من قانون جرائم المعلوماتية السوداني للعام 2007 على أن "كل من يستخدم شبكة المعلومات أو أحد أجهزة الحاسوب أو ما في حكمها لإشانة السمعة، يعاقب بالسجن لمدة لا تتجاوز السنتين أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً".
لم تقتصر التعليقات على التنمّر والإساءات الشخصية، أو حتّى الإيحاءات الجنسية فقط، بل وصلت إلى تهديدات بالقتل لـ"طاقم تحكيم نسائي".
وسائل اغتيال الشخصية
تصف استشارية علم النفس، ومديرة مركز أمنية للتدريب وتنمية المهارات النفسية، دكتورة ابتسام محمود أحمد، منصات التواصل الاجتماعي بوسائل اغتيال الشخصية؛ وذلك بسبب تفشّي العنف اللفظي وأثره النفسي وما يترتب عليه من الإصابة بالاكتئاب، والخوف، والرغبة في البعد عن الأضواء، وبالتالي إغلاق الصفحة الشخصية على فيسبوك، أو أيّ من المنصات الأخرى كرد فعل لهذه الإساءات.
وترى استشاري علم النفس أن رفض المجتمع السوداني القاطع لكرة القدم النسائية، والتعليقات السلبيّة ضد اللاعبات، سببه خروجهن عن الإطار الثقافي والاجتماعي، فالمجتمع يعتقد أن كرة القدم لا تناسب النساء، وأن ارتداء الزي الرياضي يخالف الدين الإسلامي.
وتطالب الدكتورة ابتسام لاعبات كرة القدم بالتعامل بقوة وحزم مع حملات التعليقات السلبيّة والتنمّر، وألّا تهزمهن سلاطة اللسان أو التقاليد المجتمعية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...