شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الرقص الشرقي كمقياس للتحضّر...

الرقص الشرقي كمقياس للتحضّر... "هو الهشّك بشّك كمان بقى محتاج علام؟"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الاثنين 25 نوفمبر 202411:06 ص

كل عدة أشهر، يندلع الجدل في وسائل الإعلام والسوشيال ميديا، حول دور الفنون وجدواها، بل تذهب الكوميديا الوطنية إلى حد أبعد من ذلك، حينما ينتظر الناس آراء رجال الدين وحسمهم لجواز مشاهدة فنانيهم المفضلين، أو الاستماع إليهم، من عدمه، اللافت في الأمر أن مواطنين من شرائح المجتمع كافة، مثقفين ومتعلّمين وعمالاً وموظفين وعاطلين، تتوقف حيواتهم انتظاراً لفتوى من الشيخ الفلاني حول إمكانية استعانتهم بالموسيقى في حفلة ما أو زفاف، أو تضيع منهم فرصة الاستمتاع بالفترات الأولى للزواج، اعتقاداً منهم أن السماح لزوجاتهم بالرقص سيجعل اللعنة تحل على الزيجة المباركة، وقطعاً ذلك يكون وفقاً لرأي لا يناقش، صادر من "المفتي العلاني" والذي من المؤكّد  قد استقى منه "الشيخ الفلاني" فتواه بعدم جواز سماع الأغاني. وكأن المجتمعات قد فرغت من الهموم الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة، ليتفرّغ رجال الدين للفن وأصحابه، ويسقطوا عليه كل نوائب المجتمع وأزماته.

بشكل تدريجي، وبنمط غير واع، تسرّب نوع  من العداء المبطّن تجاه الفن والفنانين، تجاوز هذا العداء حالة الاستقطاب الدينية الموجودة بطبيعة الحال، ليدخل في نوايا الفنانات، بمن فيهن الراقصات، وتصنيفهن في قوائم سوداء للثورة على سبيل المثال، لمجرد أنهن لم يعلنَّ تأييدهن لها صراحة، كما أن هنالك العديد من الراقصات تم استباحتهن تماماً من قبل "عمائم الثورة"، بمجرد مطالبتهن بدفع عجلة الاستقرار إلى الحد الذي ابتعد فيه منتقدوهن عن مواقفهن من الثورة، وانبروا في تشويه السمعة والتشنيع بأبشع الاتهامات والخوض في الأعراض، وهو الأمر الذي تفاوتت ردود أفعال بعض الراقصات حوله، فمنهن من استقبلته بمزاح وسخرية كفيفي عبده، ومنهن من تم تنظيم حملات ممنهجة لاغتيالهن معنوياً، كدينا، والتي زامن صدور كتابها الأول "حريتي في الرقص" اشتعال أحداث الثورة المصرية، ما أدى إلى الانصراف عن الكتاب الذي حقق نجاحاً كبيراً خارج مصر، الأمر الذي أرجعته دينا إلى انشغال المواطنين في خضم موجات الثورة، إلا أن الحقيقة كانت أعقد من ذلك، فعلاوة عن أن تجارب الفنانات، وخاصة الراقصات، لا تلقى اهتماماً في الأيام العادية، فإن "ذقون الثورة" كان لها دور كبير في تنظيم حملات  دعائية سلبية مبطنة ضد الفنانة الاستعراضية الشهيرة، للتسفيه من منجزها الفنّي وشيطنة أي محاولة جادة للترويج لكتابها.

مواطنون من شرائح المجتمع كافة، مثقفون ومتعلّمون وعمال وموظفون وعاطلون، تتوقف حيواتهم انتظاراً لفتوى من الشيخ الفلاني حول إمكانية استعانتهم بالموسيقى في حفلة ما أو زفاف، اعتقاداً منهم أن السماح لزوجاتهم بالرقص سيجعل اللعنة تحلّ  على الزيجة

"لا أحبك، ولا أقدر على بعادك"

في العقدين الأخيرين، وتحديداً بدءاً من العام 2006، انتشرت مدارس متخصّصة لتعليم الرقص الشرقي، ولاقت رواجاً هائلاً لم تتوقعه مؤسِّسات تلك المدارس أنفسهن، الأمر الذي زاد من اتساع الفجوة بين وجهة نظر عامة الناس حول الرقص وشعورهم الحقيقي تجاهه، فبينما أقبلت النساء، بمختلف شرائحهن الاجتماعية، على مدارس تعليم الرقص الشرقي، انبرت فئة ليست بالهينة من أتباع السلفية محذّرة من عواقب وجود مثل هذه المراكز على سلامة المجتمع وأمنه، ولعل ما تناولته المخرجة إيناس الدغيدي في فيلمها "ما تيجي نرقص"، أبرز تجسيد لهذه الهوّة الهائلة بين تحجّر العقلية الذكورية السلفية، وما يعتمل في داخل الأنثى في الشرق العربي، حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، فالأخ  المحامي المتزمّت دينياً لم يحتمل ذهاب شقيقته إلى مكان متخصّص لتعليم الرقص، واستل نصال سكاكينه على المركز وكل من يتردّد عليه، حتى من المتدربين.

لو لم يكن الرقص الشرقي بمثابة هاجس بالنسبة لكثيرين، لما تهافتوا على محاربة من يمارسنه علناً، بالتوقيت نفسه الذي يجاهدون به كي ترقص لهم زوجاتهم في الخفاء، في تجسيد صريح لعبارة "نفسي فيه وأقول إخيه"، وهو ما سيدفعنا للحديث عن علاقة المدّ والجزر بين الرجعيين والرقص الشرقي، كنموذج دالّ على المتناقضات الصارخة في تعاملاتهم مع المرأة بشكل عام، ومع من تمارس الرقص الشرقي بشكل خاص.

"ما تقومي ترقصيلنا يا قطة!"

يكرّس الكثير من شيوخ  السلفية أنفسهم لتحريم الموسيقا، ويتسابقون لشراء بدل رقص لزوجاتهم، كي يحظوا بليال رومانسية قوامها فنّ يقومون باحتقار رموزه وأعلامه. في الواقع، إن علاقة الرجعية الدينية بالرقص الشرقي أشبه "بالهيستيريا"، فقد تحوّل الأمر من مجرّد تحريم فنّ في العلن واللهاث من ورائه في الخفاء، إلى محاولة تغيير هوية الفن ذاته لتطويعه وفقاً لقوالب فكرية مصمتة؛ منذ أن تم ابتداع صيحة "الرقص الشرعي"، وهو نوع ممسوخ من الرقص الشرقي (بما لا يخالف شرع الله)، إذ يتم الرقص على أنغام الدفوف بدلاً من التمايل على المعازف و"العياذ بالله"، وبالتحليل النفسي، تعتبر ظواهر استعذاب الشيء ونقيضه تندرج تحت بند الاضطرابات المازوشية، وبالإسقاط على علاقة الرجعية بالفنون، وبالرقص تحديداً، تميل النفس الرجعية في الغالب إلى الجنوح نحو تحريم الرقص وشيطنة المنتسبين إليه، ثم تعود إلى محاولات حثيثة تتجاوز محاولات ممارسته في الخفاء إلى استجلاب من يحترفونه في المناسبات العامة.

تختلف الرجعية باختلاف الطبقات الاجتماعية في تفاعلاتها مع المحيط الاجتماعي كما في تطبيقها للروح الرجعية، إلا أن الشيء الثابت بشكل كاشف هو تغلغل ذاك الازدراء العام للرقص الشرقي بشكل راسخ في العقل الجمعي، باتفاق جماعي وغير معلن، فالطبقات المخملية لا تتورّع عن استضافة أكثر من راقصة في أفراحها، أو التسابق لالتقاط صور مع من أحيت ليلة الزفاف، ولكنها بالوقت ذاته تقف بالمرصاد أمام إرادة أبنائها إذا ما أبدوا رغبة في الارتباط براقصة أو تمنع بناتها من احترافه، تتجاوز هذه الروح العدائية المبطنة نحو الرقص الطبقات المخملية الاعتيادية، لتستقر في وجدان نسبة ليست قليلة من مشاهير الفن الذين يتكسّبون منه ليلاً ثم يشتمونه نهاراً.

يكرّس الكثير من شيوخ السلفية أنفسهم لتحريم الموسيقا، ويتسابقون لشراء بدل رقص لزوجاتهم، كي يحظوا بليال رومانسية قوامها فنّ يقومون باحتقار رموزه وأعلامه

الرقص كشماعة للتطهّر

وكما كرست السوشال ميديا لإدمان الظهور، فلقد كرّست أيضاً لمبدأ التنافسية، وبما أن المزايدة الأخلاقية هي سلعتنا الرائجة، فلقد انبرت مختلف المنصّات لإبراز قدراتها الاستشرافية، فالإعلامي تامر أمين ما إن يجد صورته قد بهتت في ذاكرة المشاهد، حتى يعود بظهور ناري يصب به جام غضبه على الرقص، باعتباره مهنة محرّمة ولا ترقى لأن تكون فناً، ولا يكتفي بتحريم الرقص والانتساب إليه، بل يتعدّى الأمر لتقديمه وصلات وعظية مكثّفة لفنانات، مثل نبيلة عبيد ونادية الجندي، إذا ما ظهرتا في فيديوهات ترقصان فيه وسط الأهل والأصدقاء، وقطعاً لسنا في حاجة لأن نثبت مدى انتشار فيديوهات تامر أمين "التوعوية" ضد خطورة الرقص كانتشار النار في الهشيم، وكل هذا يندرج تحت بند "تصالح المصالح" وعلى غرار "أنا مش تامر أمين، بس بحترمه".

تطلّ من آن لآخر لتعلن حرمانية الرقص وحرصها على عدم ممارسة مهنتها أثناء "الشهر الفضيل"، كي لا "يمتلئ عدّاد سيئاتها بذنوب لا قبل لها بها"

ومن باب الإنصاف، وكي نكون قادرين على مواجهة أنفسنا، فإن الرقص الشرقي لم يسلم من الراقصات أنفسهن، فالكثير من نجمات هذا الفن يغازلن الرأي العام "المتدروش" حتى النخاع، عبر التطهّر من مهنتهن التي جعلتهن من الصفوة، فمن لا تعتزل الرقص وتتبرّأ مما قدمته، تطل من آن لآخر لتعلن حرمانيته وحرصها على عدم ممارسة مهنتها أثناء "الشهر الفضيل"، كي لا يمتلئ عدّاد سيئاتها بذنوب لا قبل لها بها، ولأن هذه الخطابات المدغدغة للروح الرجعية لدى عشرات الملايين تأتي أكلها.

لا يقتصر الأمر على تحريم الرقص من قبل أهل الفن، بل تلقى السخرية المبطنة من المرأة وإسقاط عقد التناقض الفكري لدى الكثير من الرجال المشتغلين بالفن على اختيارات النساء رواجاً هائلاً، فلا مانع لدى الكثيرين من مشاركة مقاطع فيديو قميئة لأحد الفنانين وهو يستهزئ بفكرة وجود مراكز متخصّصة لتعلم الرقص قائلاً: "هو الهشك بشك كمان بقى محتاج علام؟".

"الكومبو" المذهل الذي يجمع بين ازدراء الرقص والنظر إليه كوسيلة لإثارة الغرائز ليس إلا، وجنسنة المرأة مهما بلغت من مكانة اجتماعية مرموقة، فهي بالنهاية بنظرهم لا تتعدّى كونها أداة جنسية، يشار إليها بالبنان فتفزّ ملبية الأمر الذكوري

من ازدراء الراقصات لجنسنة المرأة

لم تتخلّص المجتمعات حتى المتقدمة من معضلة تشيئ المرأة بشكل كلي، ولكن إذا ما قورنت أحوال المرأة -خاصة فيما يخصّ نظرة الرجل لها- في الغرب ووضعها في مجتمعاتنا، سنرى في أي هوة حضارية نرزح، فما تختزنه العقلية الرجعية من أفكار نحو المرأة لا يمكن التنبؤ به، ففي أي بقعة أخرى من بقاع الأرض التي تحتكم إلى احترام المرأة والفن واعتبارهما ليسا مواداً للسخرية، لما كنا سنرى ممثلاً كعمرو سعد، يتبادل الضحكات المريبة مع شقيقه المطرب أحمد سعد، ويعرضان على ضيفة برنامجهما، النجمة "منة شلبي"، أن تقوم لتؤدي وصلة راقصة لهما، من باب المرح وتزجية الوقت، في عبارة بسيطة لكنها تختزن الكثير: "ما تقومي ترقصيلنا يا قطة!".

اختصر عمرو سعد هذا المزيج الفكري المدهش الذي يحتفظ به عدد لا بأس به من الرجال الشرقيين، بمن فيهم من يعملون بالفن؛ هذا "الكومبو" المذهل الذي يجمع بين ازدراء الرقص والنظر إليه كوسيلة لإثارة الغرائز ليس إلا، وجنسنة المرأة مهما بلغت من مكانة اجتماعية مرموقة، فهي بالنهاية بنظرهم لا تتعدّى كونها أداة جنسية، يشار إليها بالبنان فتفزّ ملبية الأمر الذكوري، وإن كانت مستضافة في برنامج يعدّد من ملامح منجزها الإنساني، ولو كان الأمر آتياً من ذكر لا تربطها به أية صلة، وحتى رباط الفن أخفق في أن يجمعهما تحت رايته. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image